أم تشابه الصبح عليهم*** كيف نتعامل شرعا مع الخلاف في توقيت صلاة الصبح

تمهيد:

من الطبيعي أن تتعدد اجتهادات الفلكين في طلوع الصبح، ولكن الشريعة تمتلك أصول الاجتهاد القادرة على رفع الخلاف في الحكم الشرعي، وأن تحكم بأحد الاجتهادين الفلكيين المختلفين، لاعتبارات أصولية خارجة عن موضوع الفلك، كما أوضحه في هذه العُجالة.

أولا: عناصر النظر في توقيت الصبح:

1-التوصيف الشرعي:

يبين الفقيه التوصيف الشرعي لوقت الصبح وهو الصادق هو الحمرة المستطيلة في الأفق، وذلك بأول ظهوره لقوله تعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) و(يتبين) في الآية الكريمة فيها تاء المعالجة التي فيها ملاحظة الصبح بمجرد الطلوع لمن يدقق ملاحظته، ومثل تاء المعالجة: اكتسب، واجتهد، وهي ما فيه جهد في معالجة الأمر في منتهى الدقة وإن خفي على الغير، مما يعني أن أول الطلوع قد يخفى وربما لا يخفى بحسب الأدوات والإمكانات، لكنه لن يكون للعامة إليه سبيل.

2-التوصيف العادي:

يأخذ الفلكي المختص وصف الحكم الشرعي من الفقيه، ويقوم بتحري تحقق الوصف الشرعي على أرض الواقع، ويستخدم أدواته الفلكية ومراصده للتحقق من الفجر الصادق، وعلى أي درجة يظهر فيها، ولربط الشارع الصبح بأول الظهور للصبح فمن الطبيعي أن يكون هناك تباين من وجهة نظر الفلكيين، على قولين معتبرين أو قول معتبر وآخر شاذ مطروح .

3-الربط العقلي:

الربط العقلي يقوم بمطابقة الوصف الشرعي مع الوصف الفلكي على أرض الواقع ويتحقق من المطابقة فعلا، وهذا لا يكون إلا بعمل مشترك بين الفقيه الذي يسلم الوصف الشرعي للفلكي، ثم يقوم الفلكي بالبحث عن ذلك الوصف في علم الفلك، أما المطابَقة وهي التأكد من تحقق الوصف الشرعي في الواقع الفلكي فهذا الربط عقلي، وهو يبرز أهمية الربط العقلي الذي هو مقايسة بين الوصف الشرعي والوصف الفلكي.

ثانيا: القرار الاجتهادي مؤسسي متخصص:

1-وبناء على إمكان تعدد رأي الفلك برأي فلكي عليه الأكثر وآخر شاذ، أو اجتهادين متساويين في القوة، فإن الاجتهاد الفقهي على المستوى الفقهي العلمي، أو على مستوى الفتوى والسياسة الشرعية  يزيل الخلاف ويحسم الأمر بناء على حكم متوافق عليه من المؤسسة العلمية الفلكية ومؤسسة الولاية العامة في وزارة الأوقاف ومؤسسة الفتوى، ويعتبر هذا القرار هو المختار، بصرف النظر عن الكثرة والقلة مع الاجتهاد الفلكي الآخر، لأن للصبح وقت واحد للصوم والصلاة لا وقتان أو ثلاثة.

2- ومن ثم لا ضرر من تعدد رأي الفلكيين في وقت الطلوع، لأن الحسم سيكون من جهة النظر الأصولي، باعتماد اجتهاد المؤسسة الفلكية، وإبقاء الرؤية الفلكية المنفردة خاصة بالرائي المجتهد، وليس من جهة إلغاء نتيجة الحس والبحث التجريبي، فهو يبقيهما على حالهما في الواقع ولكن الفقيه يرجح باعتبار أمور خارج عن الحس، إلى أمور شرعية كما سترى بعد قليل.

ثالثا: ماذا يفعل الفلكي المختص المنفرد باجتهاد:

1-إذا خالف الفلكي المختص المؤسسة الفلكية في اجتهاده، ورأي بعيني رأسه أن الصبح لم يطلع فعلا، فهذا لم يطلع عنده الصبح بالحس والمشاهدة،  وهي رؤية قطعية وليست خبرا له، ولكن طرَحت جهة الاختصاص رؤيته وعولت على رؤية مجموع المختصين في المؤسسة.

 2-وبناء على أن الفلكي الذي انفرد في الرؤية مجتهد، فيعمل برؤيته في خاصة نفسه فقط، لأنه لا يقضى باجتهاد على اجتهاد، ولا يجوز له أن يقلد المؤسسة الفلكية، لأنه عندئذ مجتهد يصلي قبل وقت الصبح بحسب اعتقاده، وصلاته باطلة في اعتقاده بوصفه مجتهدا، لذلك يَعمل المجتهد في خاصة نفسه على رؤيته التي انفرد بها.

رابعا: ماذا يفعل غير المختص بالفلك:

أما العامي الذي ليس مختصا في الفلك، أو الفلكي الذي لم ينظر حتى يحصل له القطع بعدم الطلوع، فيكونان أمام خبـَرَين: خبر مجموع الثقات في المؤسسة وقرار جهة الولاية الشرعية والفتوى، بأن الصبح قد طلع، وخبر ثقة آخر خالف الثقات، وإن الثقة الواحد إذا خالف مجموع الثقات كان خبره شاذا ولا يكذَّب لأنه ثقة ، ولا يجوز العمل به بوصفه خبرا خالف الثقات في الفلك وقرار الولاية العامة والفتوى، والعمل بالشاذ باطل ولا يجوز ذكر الشاذ إلا للتحذير منه، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.

خامسا: التمييز بين العامي والمجتهد في الفلك:

1-العامي يتعامل مع خبرين: خبر مجموع  الثقات وقرار الولاية العامة بطلوع الصبح من جهة، ومن جهة أخرى خبر الثقة الذي خالف الثقات، فيطرح هذا الأخير، ويقدِّم قرار مجموع الثقات، ولا يلتفت إلى الأخبار السائرة والأمثلة الدائرة التي يطلقها أتباع الشك العام، وأدت إلى هدم أوقات الصلاة والصيام بسبب إدخال الشك عليها.

2- أما المجتهد في الفلك الذي رأى تأخر الطلوع بعينه، فرؤيته قطعية بالنسبة له،  وليست خبرا منقولا، فقدمت رؤيته في خاصة نفس الفلكي الثقة المنفرد على خبر المجموع، لقطعية الرؤية الحسية في نفس الفلكي المجتهد المنفرد، وهي أوثق في نفسه من خبر المجموع، فعامله الشارع بما في نفسه رحمة به، إذ لا يأمره الشرع بصلاة باطلة قطعا في نفس المجتهد، وهذا هو مسلك الترجيح للفلكي المنفرد بالرؤية.

سادسا: ماذا يجب على الفلكي المنفرد بالرأي:

فيما يتعلق بالمجتمع لا يجوز له أن يخرج على قرار المؤسسة العلميةالفلكية، ولا جهة الاختصاص صاحبة الولاية، فقد أذن له الشارع أن يعمل بالقطع في نفسه، ولكن خروجه على المجتمع الذي يرى رأيه خبرا شاذا  ويريد أن يكون خبره الشاذ مقدما على مؤسسة الفلك المختصة وجهة الاجتهاد في الشرع وجهة الولاية الدينية، فيكون عندئذ فرق الجماعة، وشكك في المجتمع في عمود الإسلام في أمر كان للاجتهاد المؤسسي له حكم وحسم.

سابعا: هل الورع في تأخير وقت الصبح؟

قد يظن بعضهم أن من الورع تأخير وقت الصبح والعمل بالقول الذي يؤخر وقت الدخول، ولكنه يفسد الصوم لأن الصائم سيأكل إلى وقت الصبح المتأخر، ونصبح أما صبحين أو ثلاثة أو أربعة حسب تعدد مَرَدَة الشك، صباحات الصيام وصباحات الصلاة، وهو تناقض في صلاة المسلمين وصيامهم، وتناقضات المتدينين  أخطر على الدين من الملحدين، لأن عامة المسلمين أصبحوا من عبادتهم في شك  فلم يعد يثبت لهم صيام ولا صلاة بسبب الشقاق في الوقت ومسائل الطهارة والأداء والقضاء في مرحلة الشك العام الفاشية في الشريعة حاليا.

ثامنا: أم تشابه الصبح عليهم:

لا يمكن أن تكون الشريعة بهذا الاضطراب في وقت الصبح، إنما التشابه في وقت الصبح كان نتيجة تتبع المتشابه وهجر المحكم، فالخبر الشاذ الذي يخالف فيه الثقة الثقات قادح في الخبر ولو كان المخبر صادقا، وأهل الحديث  والفقه يطرحون الشاذ ولا يجيزون العمل به، ولو طبق المنهج الحديثي الأصولي لما ظهر نموذج الشك العام الذي أفسد أحكام الشريعة ونزل فيها من مرتبة وجوب العمل بالظن الراجح، إلى الشك والوهم، والرأي والرأي الآخر في بيئة العولمة.

تاسعا: خطورة مثلث الشك العام:

بينت سابقا خطورة الغلو في التكفير الذي يهدم قاعدة الإيمان في المجتمع، وخطورة عقيدة الإرجاء التي تخرج الأعمال الظاهرة من الإيمان، وهنا أبين الثالثة الأخرى، وهي التشكيك في شعائر الإسلام كالصلاة والصيام والحج، فهذه جميعا لها توقيتات تثبت بطرق شرعية، والخلل المنهجي سيؤثر عليها جميعا, ، وفي هذا المثلث يتم تفريغ المجتمع من الإسلام قولا وعملا، تمهيدا لفكر العولمة القائم على التدين الفردي والشك، ثم  مرحلة الشك في الشك، واللاأدرية في الشريعة، ظلمات بعضها فوق بعض.

*خلاصات وتلميحات:

1-من الطبيعي أن تتعدد اجتهادات الفلكيين في طلوع الصبح وغيره من الأوقات.

2-النظر الأصولي قادر على الاختيار من الاجتهاد المعتبر، والترجيح من القولين المعتبرين، أو حصر الرأي الشاذ للمجتهد في الفلك في خاصة المجتهد.

3-قدرة الشريعة على مراعاة القطعي الخاص بالمجتهدين، ومثال ذلك مراعاتها للقطع في نفس الفلكي المجتهد الذي انفرد بالرأي والرؤية.

4-قدرة النظر الأصولي على نزع فتيل الشك الذي يهدم العبادات ويُدخل الشك على الشريعة.

5-النظر الأصولي والحديثي متعاونان ومتكاملان في تقدير الخبر الشاذ الذي يخالف فيه الثقة الثقات وأنه مطروح في ضوء قواعد التعارض والترجيح، مما يؤكد على القيمة العلمية لعلم المصطلح الحديثي وأصول الفقه لتأسيس وحدة المسلمين من جديد، ورفع الخلاف.

6-من علامات السنة لزوم الجماعة، وإن تداول الآراء الشاذة وكل خبر من شأنه الإضرار بعبادة المسلمين هو كتداول القصاص الأخبار دون وزنها بأوزان المحدثين ومصطلحهم والأصوليين ومنهجهم.

7-وادعاء قصص سرية ومؤامرات خفية في وقت الصلاة دعاوى مطروحة حتى تثبت بالبينات الشرعية في مجلس القضاء.

8-إن فقه السياسية الشرعية وبناء المجتمع الصالح يمر بجماعة صلاة صالحة ومطمئنة، وإن الإمامة العظمى مقيسة على الإمام الصغرى، فإن فسدت الجماعة في الصلاة فسد المجتمع.

9-إن مذهب الشك لا نهاية له، وأصبح حالة نمطية عامة، لا يستغني عنها أصحابها، فهو جزء من كيانهم ووجودهم، ويجب الحذر من طريقة الشك العام التي تدخل الشك على الشريعة.

10-من أضاعوا جماعة الصلاة فقد أضاعوا فقه المجتمع، ومن تاهوا في غروب الشمس وطلوع الصبح البَـيـِّن، ليسوا قادرين على بناء سياسة شرعية لمجتمع صالح، لأن السياسة الشرعية خفية ومبناها على الظن، ومن تاه في الصبح البـيـن، لا مكان له في الظنيات في السياسة الشرعية.

11- أهمية ملاحظة الربط العقلي بين الوصف الشرعي والفلكي العادي، في تنزيل الحكم على محله في الواقع، يبين أن الشريعة جمعت بين العقل والتجريب والشرع في حكم واحد، وهذا يظهر التفوق الأصولي في رفع الشكوك عن الملة والشريعة.  

12-أهمية الاستفادة من علماء الحديث واصطلاحهم في تحليل الخبر خصوصا في الإعلام، وقد أشرت في مقالات سابقة إلى ذلك، وأن تطبيق نظر أهل الحديث مهم في كشف طريقة الشك العام في الشريعة، بسبب ظاهرة تتبع الخبر الشاذ.

13-اعلم أن هلاك الدين يكون بجرعة شك زائدة مع هبوط خطير في مستوى الفقه في قلب الضحية، بسبب حالة الشغب من أتباع الشذوذ في الدين، الذين تشابه الصبح عليهم، مع أن الشرع قد حسم مادة الخلاف، وقطع النزاع.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان المحروسة

 27-شوال -1441

 19-6 -2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top