التمهيد: عرض الأساسيات:
1-الإجماع على وجوب العمل بخبر الواحد ولو كان ظنيا:
تحدثت في المقالة السابقة عن برنامج فتاوى الموضة وفتوى حجاب السهرة، التي تزعم أن للمرأة أن تكشف شعرها أمام الرجال الأجانب، وكان من أسباب هذا الشذوذ أن مفتي الموضة لا يميز بين قول العلماء أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وبين كونه يجب العمل به باتفاق، وبينتُ معنى قول العلماء أن خبر الواحد لا يفيد العلم أي القطع، ولكنهم مع ذلك يقولون بوجوب العمل بخبر الواحد مع أنه ظني الثبوت، وأن العمل بالظن إجماع بشري، لا يختص به المسلمون، بل هو أمر بشري لا يختلف فيه الناس.
2- وجوب العمل بخبر الواحد إجماع العقل الإنساني:
وما أثبته الأصوليون في وجوب العمل بالظني هو بداهة العقل الإنساني، وأن الأصوليين هم حراس العقل الإنساني في مواجهة المتسكعين في دهاليز الشك، ذلك الشك الذي أدى إلى حالة من السَّلَس الفكري، والتسوُّس الثقافي التي يعاني منها الفكر اللاديني، وقد ميز الأصوليون بين العادي والشرعي، ولكن مفتي السهرة زعم أن الحجاب من الأمور العادية وليس من الشرعية، فإنه-على حد زعمه- أمر اختيار فردي خاص، لا علاقة له بالحلال والحرام، فالحجاب في رأي شيوخ الطريقة الفحشتية، مثل وجبة طعام العائلة يوم الجمعة، مسألة اختيار لا إجبار، لأنه من العاديات
3-الخلط بين العادي والشرعي:
لم يميز المفتي في الخلطة السرية للأدلة التي بين فيها أن الحجاب من العادات لا من الشرعيات، ولم يميز بين العادي والشرعي بميزان واضح ليؤسس عليه، وهذا شأن رجال الدين ورجال اللادين، في محاولتهم للهيمنة على تفكير جمهورهم، وهو عدم وضوح المعايير التي تكشف زيف شيوخ الطريقة الفحشتية، وأنهم يمارسون حالة انتقائية، وشكل من ألعاب الخفة في أفكارهم، حتى تبقى الساحة بلا خطوط، يتمكن المفتي أن يسجل هدفا من خارج الملعب، ويحتسبه هدفا لعدم وضوح الخطوط، وهو نموذج عملي على الفكر الباطني في النص.
أولا: لا بد من رسم الخطوط وبيان المعايير:
لا بد أولا من رسم الخطوط، وتحديد المعايير بين الشرعي والعادي، لنتأكد من أن الهدف الذي سجله مفتي الموضة كان من داخل الملعب، أم أنه سجله من خارج الملعب، ولا ننسى أنه قام بهجمة وقائية ضد الإجماع البشري على وجوب العمل بالظني، ومنه العمل بخبر الواحد، فإذا قلت له هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما تقول قال لك: هذا خبر آحاد، متوهما بأن قوله خلطة سرية صالحة لرد كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بينما بعتقد أتباع مفتي الموضة أن قوله قطعي الثبوت قطعي الدلالة، ليحل مفتي الموضة محل النبوة، بعد إلغاء العمل بالسنة لأنه أخبار آحاد، ويصبح رجل دين له سلطة مطلقة، بعد إسقاط النبوة وإلغائها.
ثانيا: أقسام الحكم الشرعي:
الحكم الشرعي تناول الحكم بدليل خاص، مثل الشهود في عقد الزواج، وتنقسم الأحكام الشرعية إلى عبادِية وعادية، وكلاهما يتناوله النص التفصيلي، ولكن هناك معايير نميز بها بين نوع الأحكام الشرعية العادية والعبادية .
1-الحكم الشرعي العبادي:
أ-النية فاصلة بين العبادي والعادي:
وهذه العبادات ميزتها أنها لا تصح إلا بنية، كالصلاة ، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، فهذه العبادات إذا فقدت نية التعبد لله تعالى، بطلت ولا تصح، وركنها النية، ولكن أداء الديون ورد الوادائع، والنفقة على الزوجات، فهذه جميعا دل عليها نص خاص، ولكن لو أنفق الأخ على زوجة أخيه المسافر أجزأ ولو دون توكيل ونية من الأخ المسافر، بخلاف الزكاة فلا تصح إلا بالنية
ب-العبادات غير معلَّلة:
معنى غير معللة، أي لا نلحظ علة قريبة، فلماذا الزكاة ربع العشر، ولماذا تجب الصلاة عند غروب الشمس، ولا تجب صلاة عند طلوع الشمس، ومثال ذلك كمقادير الزكاة، وأنصبتها، وعدد الركعات وأوقاتها، والصوم في رمضان لا يصح في غيره، والحج عرفة، ولا يكون عرفة إلا في اليوم التاسع من ذي الحجة.
ج-الأصل التوقُّف في العبادي والتوسع في العادي:
بالإضافة إلى أن العبادات الأصل فيها التوقف ولا يزاد عليها، ولا يعبد الله تعالى إلا بما شرع، كالصلوات الخمس في عدد ركعاتهن، وأوقاتهن، وكذلك الصوم من حيث كونه في شهر رمضان، ومن الصبح إلى الغروب، ومقادير الزكاة وأنصبتها، وهذا يقتصر فيه على ما ورد بلا زيادة ولا نقص، أما العادات فبابها واسع كانعقاد العقود بوسائل الاتصال المعاصرة، وطرق توثيق العقود، وزيادة بعض الشروط في العقد لمصلحة أحد المتعاقدين بالتراضي بما لا يخالف الشرع.
2- الحكم الشرعي العادي تحت النص الخاص:
فعندما نقول يجب أداء الديون شرعا، فهذا حكم شرعي متعلق بأمر عادي، وجعلناه عاديا، لأن النية ليست شرطا في صحة أداء الدين، فمن سدد عنه صديقه دينه دون علم المدين، فيجزيء ويصح السداد، وكذلك البيع يصح ولو مع عدم نية التعبد والتقرب إلى الله تعالى، ولا يجوز أن يكون البيع على محرم شرعا كبيع المخدرات والمواد الإعلامية الإباحية،كبرامج فتاوى الموضة فهذه عقودها حرام؛ لأنها مضللة للمسلمين، فمحل العقد هو القول الباطل وتحريف الشريعة، فلا يجوز للمفتي الباطني أن يقول إن البيع من العاديات، ولا علاقة له بالشرعيات، وعليه يجوز بيع المخدرات في مذهب الباطنية الجدد، لأن بيع المحرمات وإن كان البيع من العاديات إلا أن فيه دليلا شرعيا خاصا، مثل الحجاب تماما.
ثالثا: العادي المطلق عن النص الخاص ولكنه تحت أصل عام:
لو نظرنا إلى تنظيم الطرق، وإلى العمليات الجراحية، والتجارب الكيميائية، وجدنا أنها عاديات مطلقة عن النصوص الخاصة، أي لم يتناولها الشرع بدليل خاص، بل أحالت الشريعة فيها إلى الإنسان، بأصول شرعية عامة، ووجوب اكتشافه للطبيعة، ولم يتعلق به نص شرعي تفصيلي، بل أحالت فيها الشريعة إحالة تامة للإنسان في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وهذا مما لا تضِل فيه البشرية، بل هو مشترك إنساني يعرف صوابه وخطؤه من جهة التجربة والطبيعة، ونلاحظ أن البشرية في ذلك ليست مضطربة، فأحالت النبوة على الإنسان فيه: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، أما حيث تضطرب البشرية، كتقسيم الميراث وحقوق الإنسان والمرأة والرجل، فقد جاءت النبوة ببيان تفصيلي لحسم مادة النزاع، لعدم قدرة البشر على معرفة الصواب والخطأ في ذلك.
رابعا: الحجاب من حيث هو شرعي:
إذا نظرنا إلى الحجاب من حيث إنه فضفاض وساتر للبدن ومنه والرأس، وأن الإجماع انعقد على وجوب ستر جميع بدن المرأة ماعدا الوجه والكفين، أما الوجه والكفان ففي جواز كشفهما أو سترهما اجتهاد معتبر، وللمرأة المسلمة حق الاختيار في ذلك، فهذا كله من جانب الشرعي، الذي تعلق به نص تفصيلي، وتؤجر المرأة عليه إذا نوت به رضا الله تعالى، وأما إن لم تنو فحجابها صحيح، ولا تحاسب يوم الدين مع أنها لبست على ترك الحجاب لأنها لم تنو لبس الحجاب، فيصح لبس الحجاب ولو من باب أنه عادة، ولا تأثم بذلك، كمن ترك شرب الخمر ولم ينو رضا الله تعالى، فتركه صحيح ولا يحاسب يوم القيامة على أن تركه لا يصح لخلوه عن النية، فترك شرب الخمر صحيح ،ولو دون نية.
خامسا: الحجاب من حيث هو عادي:
أما إذا نظرنا إلى الحجاب من حيث نوع القماش، وطريقة تفصيله وخياطته، فهذه أمور عادية مطلقة، لم يتعلق بها نص شرعي تفصيلي، بل ذلك من العاديات المطلقة، التي لا يجوز لنا أن نقيِّد بها، وتقييد ما أطلقه الشارع لا يجوز، لذلك تقييد الحجاب بالسواد لا يصح، لأن الشارع لم يقيد به، وما ورد من السواد هو من باب واقع معتاد، كالسيف والرمح في الحرب، فليست قيودا شرعية، المهم أن لا يكون اللون باهرا لافتا.
سادسا: لباس الرجل من حيث الشرعي والعادي:
يعتبر ستر الرجل عورته أمام المرأة واجب شرعا، وقد يكون لباس الرجل تحت العادي المطلق كما هو منصوص في فقرة “ثالثا”، ولكن مفتي السهرة أخرج العادي تحت دليل خاص، وجعله من بند 2 في فقرة ثانيا، وهي حالة تلاعب تخفى على كثير من الناس، حيث قام بعميلة شفط للحكم من البند 2 في فقرة ثانيا، إلى الفقرة “ثالثا”، فاشتبه الأمر على الناس من حيث إن كلا منهما عاديا، ولكن لم يميز بين العادي من بند 2 في فقرة ثانيا، والعادي من الفقرة ثالثا.
1-قياس شعر المرأة على شعر الرجل:
فإذا سلَّمْنا بوجوب ستر العورة على الرجل فهو أمر شرعي، وجاز له كشف رأسه؛ لأن رأسه ليس عورة شرعا، ويتبع العادة في ذلك، بينما شعر رأس المرأة عورة أمام الرجل الأجنبي، بدليل شرعي خاص، فلا يلحق بالعادات، ولا يصح قياس عورة الرجل على عورة المرأة لوجود النص، وهو من القياس الغريب الذي يرتكبه مفتي الموضة، فبعد أن زعم أن حجاب المرأة من العادات، قام بقياس الرجل على المرأة في العورة، مع الفارق الواضح في الخلق والطبيعة، وإنكار للتنوع في الطبيعة الذي هو مظهر من مظاهر قدر الله.
2-هل هو قياس أم شفط؟
وإن كان لمفتي السهرة من فضل علينا في قياسه البديع!، فهو أنه أدخل على قلوبنا السعادة وشيء من الترفيه الضروري في الدرس الأصولي، ويصلح أن يكون قياسه من الأخبار الطريفة والنادرة، ويبدو أن مفتي السهرة قام بعملية شفط عورة الرجل وإلحاق عورة المرأة بعورة الرجل، متأثرا بعمليات شفط الدهون في الوسط الفني الذي يعيش فيه، مما يوضح لنا من أين يأخذ أصول الفتوى، فهي من بقايا شفط الأرداف والكروش في المستنقع الفني الذي يعيش فيه.
رابعا: التفاسير الباطنية قادمة بقوة:
كما أننا رأينا الغلاة يكفرون المسلمين بالمتشابه وظواهر النصوص الشرعية، هاجرين مدارس فقه السلف الأربع، وإجماع أهل السنة والجماعة على أن التكفير لا يكون إلا بإجماع، فكذلك التفسير الباطني للنص، فهو النقيض المقابل، حيث يخرج عن أصول الاجتهاد المقرر في منهج أصول الفقه، أما القدر المشترك بين متتبعي المتشابه في التكفير من الغلاة، ومتتبعي المتشابه من الجفاة، فهو العداوة للإجماع ومدارس فقه السلف الأربع المتبوعة، لأنهما يغُلاّن أيدي أتباع المتشابه من الغلاة والجفاة.
المقالة السابقة:
مقتطفات من مقالة برامج فتاوى الموضة … حجاب السهرة نموذجا
الطريق إلى السنة إجباري
وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه
د. وليد مصطفى شاويش
21-صفر-1439
10-11-2017