إذا سكت القَلَم في حضرة العَلَم
(المولد النبوي الشريف)
1-مَن يتحدث أما م الكاميرا يُعِدُّ حديثه وطريقةَ إلقائه، وبعد الإلقاء، يلاحق مِقَصُّ المونتاج السقطات والعثرات، حتى إذا مضت الأيام تذهب بهجة اللقاء، ويتجاوزه الزمن، وكأنه جزء من التاريخ، ويختفي التصفيق، ويذهب البريق، وحينها سلِّم على الشخصية التاريخية، وانتهاء صلاحية الجاذبية الشخصية (الكاريزما)، وتكون نهاية رجل شجاع ألهب حماس الجمهور الغائب في المسرح المهجور.
2-أين هذا المرتَبِك الخائف أمام مِقَصِّ الرقيب، والمنشغل بحفظ السيناريو، وإشارة المصوِّر، من نبيٍّ كريم تلاحقة العيونُ المحدِّقَة، والآذانُ المصغِية من مئات الصحابة النجباء حوله ثلاثة وعشرين عاما بلا مقص المونتاج، ولا توجيهات المخرج، ونصائح الرقيب، وبلا إعداد مسبق، ولا سيناريو حسب المطلوب، سواء كان ذلك ليلا ونهارا، صيفا وشتاء، حَضَرا وسفرا، يرمقونه بأبصارهم إذا شرب من مكان شرب زوجته من الإناء، وإذا صلى وأعطاهم ظهره قالوا: لقد كانت لحيته تتحرك وهذا دليل أنه ينظر أمامه، وإذا ترك الأكل سألوه، وإذا أكَل قلَّدوه، وإذا اضطجع قبل الصبح أو جلس قبل القيام للركعة الثالثة أوجبوه أو سنُّوه أو أباحوه، أمَّا إذا خاف أمرا أسَرَّه في قلبه ولم يَرْوُوه، نزل به القرآن من رب العالمين وقال: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) فعَلِمُوه وحفظوه، كأنه ليس له حظ في نفسه، بل حظه كله لأمته، وأمته هي حظه من الأمم.
3-نبي عظيم جعله الله قسيم الجنة والنار، فلا جنة إلا وراءه، ومن نكص على عقبيه كانت النار جزاءه، وقد ملأ قلبه رحمة بالعالمين، فِرح بأهل الجنة حين أجابوه، ولكن كيف يكون قلبه المملوء رحمة على مَن قاتلوه، كان يجرحهم في الحرب مع قدرته على قتلهم، ولو قدروا على قتله ما تركوه، ويقول: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجلٌ قتل نبيا، أو قتلَه نبي، حتى إذا جنَّ الليل جافى عن الفراش جنبيه، وبسط للأرض قدميه قائما ساجدا يبكي على مصير أعدائه الكافرين، وتكاد نفسه تتقطع حسرة عليهم، فينزل الله الكتاب عليه مواسيا له (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ)، وصدق سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ).
4-جاشت في النفس محبة صاحب الذكرى، وضاقت بوصفها سماء الفقه وأرض الأصول، وأضربْتُ عن نَشْر كل مَقُول في ذكرى ميلاد الرسول، فالقلم في مولده كَسْرٌ، والحِبر هَدْرٌ، والأوراق صُفْر، لم أرَها موفية حقا، ولا مغنية شيئا، بل قالت لِلْقَلَم الحروف: قد وجب الوقوف، واترك المِراء في المولد ولو كان المولد حقا، وتأمل في الشرف العظيم، والفضل العميم، فإن فيهما شغلا لك عن ذلك الجدل الدائر، والخَبْطِ العاثر.
5- فماذا يمكن أن تقول في صاحب الشفاعة العظمى يوم يقول أمتي أمتى حين يقول أولوا العزم من الرسل نفسي نفسي، لا يفاخر نبينا الأنبياء في نسب ولا مال، بل يفاخر بأمته أشد مما يفاخر الرجل بأبنائه، فكيف يفاخر بأمته وقد تسابَّت في مولده، وهو يَطْرِف بعينه للمحتفلين به، ويقول: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحِقًّا)، ثم يشير بيده للمحبين مودعا إلى لقاء آخر في مولد جديد، يجدد فينا الذكرى، ليس مِن نسيان، ولكن لِيرويَ العَطشان.
المولد النبوي، حجية السنة، مقام الشفاعة العظمى، أهمية النبوة،
المحجة البيضاء
الكسر في الأصول لا ينجبر
عبد ربه وأسير ذنبه
أ.د وليد مصطفى شاويش
جدة/ السعودية
17-ربيع-1446
21-9-2024