الملخص
حاولت أن أكتب ملّخصا للموضوع كالعادة، ولكنني رأيت أنني مهما كتبت من توضيح لحالنا المتحـيِّـر اليوم، فلن أجد أوضح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل ألف وأربع مائة عام، فرأيت أن أذكر الحديث في بداية المقالة توضيحا وتبركا، ووضعت خطوطا تحت الكلمات التي أحب لفت الانتباه لها.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِـــــــمِّـــــــيَّـــــــــــةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ».
قال الإمام النووي في شرح عِـــــــمِّـــــــيَّـــــــــــةٍ: قَالُوا هِيَ الْأَمْرُ الْأَعْمَى لَا يَسْتَبِينُ وَجْهُهُ كَذَا قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْجُمْهُورُ، انظر: شرح النووي على صحيح مسلم: (ج12/ص233)، فكل راية عصبية أو لا تستبين أنها لله ورسوله ولمصالح المسلمين، فهي راية عِمية، وعلامة عميتها أن تقع في دماء المسلمين ويؤخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، ، فالمعيار الذي يضعه الحديث دقيق، ويُفهم منه أن الراية المستبينة هي التي تكون لله ورسوله، وعلامتها أنها لا تدعو لقومية أو عصبية، وهي حامية للمسلمين وتحقن دمائهم.
أولا: الغموض البناء (الهدام) في الفكر اللاديني (العلماني):
وهو عبارة عن سياسة دولية معاصرة، ومعناها لجوء الأطراف إلى صيغ فضفاضة وعبارات محتملة، والابتعاد عن المواقف الحاسمة التي لا تفسَّر إلى على احتمال واحد، لحرمان الطرف الآخر من الوضوح الذي يمكن أن يبني عليه موقفه، وغير ذلك كالفوضى الخلاقة، والتفاؤل الحذر، وقد ساعد على الترويج لفكرة الغموض البناء في عالمنا الإسلامي بيئة فكرية تستمد وجودها من الديمقراطية الفلسفية التي تقوم على أن كل شيء متغير، وكل شيء ممكن، ولا يوجد شيء مقدس، وهذه البيئة تحتمل عشرات الآلاف من جثث المسلمين المتفحمة، ولكنها لا تحتمل التشكيك في عدد الذين يقال إنهم قد قَضوا فيما يعرف بالهولوكوست من اليهود.
ولما تداول بعض المسلمين الديموقراطية الأوروبية، على حساب الشورى الإسلامية في أدبياتهم الفكرية والإعلامية، كانوا يوفرون ظرفا مناسبا لنبتة الغموض السامة، وبئية خانقة لاتباع السنة، التي لو تم تثبيتها مرجعية للأمة لكانت أنوارا كاشفة وحارقة للغموض البناء! للمعتدي في عرف من يروجون للغموض والعماية في أرجاء هذه الأمة المستضعفة، وهناك حالات تريد أن تحرف الإسلام وتتلاعب بثوابته، فتراهم يثيرون الشكوك حول ثوابت الأمة العقدية والأصولية والفقهية، ونشر الأحاديث الموضوعة والضعيفة، عبر مواقع التواصل الاجتماعية، وشغل الأمة بها في حالة استنزاف لها، لإبعادها عن السنة الواضحة، وشغلهم بقيل وقال عن العمل.
ثانيا: آثار “الغموض البناء” الهدام في حياة المسلمين: على مستوى الدول:
اكتفى المسلمون بالنظر والتحليل المجرد عن العقيدة في قضاياهم، وغفلوا عن التوجيهات القرآنية والنبوية في علاقتهم مع غيرهم، وصارت مواقفهم تبنى على ما يتوهمونه من مصالح ومفاسد يمليها عليهم ذلك الغموض، وهو ما يفسر تخبطهم وخساراتهم الدائمة في مجال السياسة الدولية والمحلية، فمَن صفقوا له بالأمس، يلعنونه اليوم، وذلك لأنهم يبنون مواقفهم على ظاهر الحال، وليس على الأسس العقدية التي يدين بها غيرهم، وينطلقون منها في علاقتهم مع هذه الأمة، وليس أدل على ذلك من لحاقهم بدولة شرق عالمنا العربي، اتُـخذت مثالا ونموذجا لهم حُسبانا منهم أن ذلك الظاهر المعادي لإسرائيل هو واقع الحال فعلا، وأبَوا أن يحكُموا على القوم من خلال عقيدتهم الدينية، لأننا لسنا طائفيين!، وما هي إلا سنون قليلة حتى استَحـَــرَّ فيهم القتل على أيدي الذين كَلَّت أيديهم من التصفيق لهم، ثم عادوا من جديد لقراءة عقيدة القوم، وإذا بتلك العقيدة تصنع أناسا لديهم شهوة عارمة لدماء أبناء الأمة، وتصل إلى حالة نفسية مرضية، لا يردعها رادع إلا الخوف من سلاح الأمة، فإن قويت الأمة دخلوا بعد ذلك في النفاق والاستخفاء وهو ما يعرف في عقيدتهم بالتَــقِّــيــَّـــة، ثم تتحول أنيابهم القاطعة الناقعة بالسُّم الــزُّعاف إلى جلد ناعم أمْلَس، يقول فيه أبناء الأمة (أهل السنة والجماعة) لقد عشنا معهم قرونا في هذا الوطن حياة هانئة مسالمة، وأن التدخل الخارجي هو الذي فرق بيننا، ونسي أبناء الأمة أن الحياة الهانئة كانت بسبب قوة الأمة العادلة، فلما سقطت الأمة رجعت الجلود الناعمة إلى سيرتها الأولى أنيابا ناقعة قاطعة، وهذا التبدل هو حالة “الغموض البناء” للغير الهدام للأمة.
على مستوى الحركات والتنظيمات:
أما الرايات التي تظهر في الأمة بين حين وآخر، وتشق صف المجتمع الإسلامي وتقع في دمائه، وتنشأ في ظروف غامضة، لا تعرف لها قيادة واضحة ذات صدقية شرعية ومجتمعية، ولا إعلاما يبين عنها، فهي ناشئة من منافقي الغموض والتقية، التي تستطيع أن تستدرج الآلاف من شباب الأمة إلى محرقة ملهكة لأولئك الشباب من حَسَني النية، وذلك للقضاء على مكامن قوة الأمة، وبحيث تكون كل المكاسب في النهاية لتلك الأفعى اليهودية التي تعتمر عمامة آل البيت زورا وإفكا، وتـــخـــــتــبـيء في سمادير الليل، وربما لا تراها لكنك تسمع جَرش أنيابها في دين الإسلام وأرضه وأبنائه، وفي النهاية تظهر المكاسب في جانب اليهود الذين المعتمرين بالسواد قـُـبـــَّـعـــةً وعِمامةً، والخسائر في جانب أمة استدبرت العبرة من التاريخ، والتوجيه من الكتاب والسنة.
ثالثا: بنو إسرائيل هم صُنـّـــاع الغموض:
إن الله تعالى لم يترك عباده يشقَون في التيه والضلالة والغموض، بل أرسل النبيين لبيان الصراط المستقيم، وتحملوا الكثير من أجل سعادة البشرية في دنياها وآخرتها، ولكن هناك من يسعى لهدم الصراط المستقيم وتدمير معالمه، لجرف البشرية إلى حيث يريد أعداء الصراط المستقيم، وأقاموا لذلك مثل فلسفات وأفكارا مثل: “الكابالا”، و”الغنوصية” التي تنتهي بالكتاب المقدس إلى رموز وطلاسم غير بينة، ليتمكن الأحبار والسادة أن يقولوا ما شاءوا على الله وأن قولهم هو الدين، كشكل من أشكال الحداثة في الديانة اليهودية، ومثال التعمية على المعاني الواضحة ، وصناعة الوهم والخيال والشعوذة الدينية، ومحاربة الحقائق الإيمانية الصادقة التي نزلت على المرسلين.
ولم يهمل القرآن الكريم شأن الغموض المصطنع، والعبث الذي يمكن أن يقع من محبي الظلام، فقد حذر القرآن من ذلك، في قصة البقرة التي أمر الله تعالى بني إسرائيل بذبحها، وكشف ميولهم لصناعة الغموض لبث الشك في الواضحات، وبالرغم من أن الأمر واضح كل الوضوح، إلا أنهم أثاروا الأسئلة والشكوك حول وصف البقرة، رغبة في التعمية على الأمر الشرعي، في سبيل إسقاطه وعدم العمل به، وتسويق أفهام أخرى تهدم الصراط المستقيم، والمهيع اللاحب الذي يشقه الوحي للناس رأفة بهم، وبَعد التسويق للغموض يمكن أن يقدم الأحبار شهوتهم وتحريفهم على أنه هو الصراط المستقيم، في وحشة الظلام الغامض، والآيات التي تعرض جدال بني إسرائيل في ذبح البقرة، هي النموذج الذي عرضه القرآن الكريم للغموض المصطنع الذي يمكن أن يجرف البشرية نحو الهاوية.
رابعا: الديمقراطية الفلسفية هي وارثة غموض بني إسرائيل:
إن الديمقراطية الفلسفية هي من ذلك الغموض، فهي تقوم على أساس أن الحق ليس بينا وهو وجهة نظر، ولا يوجد مقدس، وما دام الأمر كذلك فإن لكل إنسان أن يقول ويفعل ما يشاء ولو كان على الله تعالى وتمثيله -سبحانه- وأنبياءه -معاذ الله- بأسخف صورة، يشمــئـز منها الإنسان الطبيعي العادي، بينما يحق لإنسان عادي أن يرفع قضية في جو ديمقراطي إذا مُــثِّل بتلك الصورة، وإذا نجح مشروع الإسلام الواضح من خلال الديمقراطية، فإنها تنقلب على الديموقراطية نفسها، لأنها لم تُـصمَّم أصلا للصراط المستقيم بل صُمِّمت لغيره، وهذا يوضح بجلاء أن الديمقراطية الفلسفية هي طور متقدم من الكابالا والغنوص اليهوديتين، وتدفع البشرية جــثـــثا بعشرات الملايين في حروب لا تدري لم قامت ولا لم خـمَدت، سوى ما يسمح به الغموض من تصريحات وإعلانات لبث مزيد من الحيرة والشك للضحايا، ثم تبدأ التحليلات والحوارات حول ما يسمح به الغموض لمزيد من الغموض، ويبدأ الناس بالبحث عن الحقيقة في ركام الباطل، كمن يريد أن يستخرج الماء البارد من وسط النار المحرقة.
ولا يختلف عنها حالة التقية التي تمارسها بعض الطوائف المنتسبة للإسلام عن الغموض المصطنع، فكلهم يخرجون من ذات الكابالا والغنوصي اليهوديين، هو ذلك الغنوص الذي عاند الرسالة المحمدية في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وانقلب عليها، وتواطأ من مشركي العرب، مع أن النبي مصدق لما معهم، وطمسوا التوراة جاهدين لإخفاء الحقيقة، وما زال كيدهم للرسالة وصاحبها وأتباعها قائما إلى يومنا، على نفس النهج، وصدق الله تعالى فيهم إذ يقول:((( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا))) ، ولكن أَنَّــــى لليد الشَّلاَّء أن تـَحْجُب نور شمس النبوة، والرحمة الإلهية بالخلق
.
بين كوباني ومحرقة دوما الغموض واضح!
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍيتبع الجمعة القادمة : كيف تكشف العقيدة الإسلامية الحقيقة وتقضى على ما يسمى بالغموض البناء؟
د. وليد مصطفى شاويش
عمان المحروسة
صبيحة الجمعة 13/2/20015