الجهاد أم المقاومة حوارات في المفاهيم والتطبيقات والمقاصد
(السياسة الشرعية نموذجا)
لا يمكن تطبيق الشرع إلا بعد صحة تصوره، وإن العيش في قوقعة الدنيا دون وجود بناء فقهي صحيح ثم تطبيقه على الواقع، هو الطحن في الهواء والقبض على الماء، وغاية هذه المقالة ضبط التصورات الفقهية وأحكامها، ثم طرق مناقشة محلها في الواقع، وهذا هو البيان الفقهي في خطاب التكليف قبل التطبيق، لأن العلم شرط العمل، فالعلم سابق والتطبيق لاحق، لذلك جاءت هذه المقالة محاولة للإجابة على الأسئلة الآتية:
س1: ما معنى المقاومة والجهاد وما محددات كل منهما.
س2: هل يجوز إطلاق مقاومة على الجهاد، وعلى فرض عدم جواز ذلك أصالة، وهل توجد حالات استثنائية تجيز ذلك.
س3: هل يمكن أن يجتمع في الجهاد قصد التعبد مع حظ العبد في دنياه كالوطن والأرض، وما الترتيب الواجب بين قصد التعبد وحظ العبد في دنياه، وما أثر ذلك في رسم السياسة الشرعية، ورفع الخلاف بين المسلمين.
س4: ما تصور الجماعات الدينية للجهاد، وهل هو تصور ثابت أم متغير تحت ضغط المراجعات والواقع.
س5:ما قواعد تطبيق الجهاد في السياسة الشرعية، وما الإطار الفقهي الذي تبنى عليه السياسة سواء في ذلك العلاقة مع إيران أو الغرب، وهل يوجد بناء فقهي قادر على اختصار الكثير من الجدل السياسي.
س6: كيف يمكن تحييد الأزمات في السياسة الشرعية للمحافظة على ضروري الدين والنفس معا، وكيف يمكن تطبيق ذلك على مسلمي أوروبا.
س7: ما حدود العلاقة بين الفقه ودور الخبرة الفنية المتخصصة الأمنية والاقتصادية والسياسية وغيرها من التخصصات الضرورية لتنزيل الحكم الفقهي على محله المشخَّص.
تمهيد: تطبيع التدين ودهرنة الفكر الديني المعاصر:
1-نموذج القرن الأول لإصلاح المستقبل أم نموذج الحداثة ضد الماضي:
جاءت الشريعة كاملة بنزول قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) بمعنى أن التطبيق الأمثل للشريعة هو في نموذج القرن الأول، الذي يمثل مرجع هذه الأمة، وكانت المذاهب المتبوعة وعمل الأمة هو التفسير النظري والعملي المستمر على ضوء ذلك النموذج.
2-الخلاص اليهودي والمسيحي متَخفيان في ثوب الحداثة:
أ-الخلاص المزعوم على أرض فلسطن:
بينما تقوم الحداثة على التقدم وهو أن الطور الآتي خير من الماضي، وهو عكس النموذج الإسلامي في أن خير القرون هو القرن الأول، ومع أن النموذج الحداثي في خط تقدمي في الزمان إلا أنه يخفي قيمة كنسية لاهوتية، وهي التقدم نحو زمن الخلاص بين يدي الساعة بعودة المسيح، وتحقيق الملكوت وشبيه من هذا عند اليهود، ولم يكن احتلال فلسطين وتمكين اليهود فيها إلى تحقيقا لهذا الخلاص المزعوم.
ب-الحداثة طَور متقدم لكهنوت رجال الدين:
وعليه فإن فلاسفة الحداثة هم طَوْر متقدم من الكهانة الديينة في الخلاص المسيحي واليهودي، بل هم محاولة للحفاظ على بقايا الدين المحرف ليصبح مناسبا لواقع جديد اكتشف خرافة التدين المحرف والحفاظ عليه ثاويا في الحداثة تلمع عيناه في الظلام، وصدق الشاعر: سارت مُشَرقةً وسِرتُ مُغَرباً***شتـانَ بين مشـرقٍ ومغرّبِ .
3-تطبيع الإسلام في مركزية الحداثة:
أ-تناقضات الحداثة داخل الفكر الديني:
وبعد أن هيمنت الحداثة على المعرفة ومناهجها عالميا، ظهرت بين المسلمين فكرة الحداثة نفسها، وهي إعادة قراءة النص الديني وتجاوز المذاهب المتبوعة التي عليها عمل الأمة المستمر منذ القرن الأول، وظهور الحركات العنيفة، ومركزية السلطة بدلا من مركزية الشريعة والأمة، بالإضافة إلى اختلاق التناقض بين الوطن وبين سبيل الله، فمن قاتل من أجل فلسطين فليس في سبيل الله، هو التناقض بين الدنيا والآخرة داخل بنية الحداثة، وتسرب إلى الفكر الديني في الحركات العنيفة، التي تحب أن تسمي نفسها الحركات الجهادية.
ب-إخضاع مفهوم الجهاد لمتغيرات الحداثة:
ولم يكن مفهوم الجهاد بعيدا عن إخضاعه لنموذج الحداثة وتحويره معرفيا ضمن المنظومة الوطنية والدولية، وحقنِه بالتوحش الحداثي أو المواطنة والقومية، وهما جزء من الحداثة نفسها، والانسلاخ عن الشريعة بمقولة لا يفتي قاعد لمجاهد، التي تزيح الرقابة الفقهية عن العمل الجهادي، هو الذي مهّد لحقنة التوحش الذي هو داء الحداثة، وتؤكد هذه المقولة أنه ليس جهادا، وإنما صار حركة عنيفة مع حشد الروايات والأخبار والسير لخدمة رؤى الجماعة والحركة.
4-ليس ادِّعاء:
تطبيع الجهاد معرفيا داخل مركزية الحداثة أمر واقع، فقد جاء تصور الجهاد ضمن رؤى فكرية للجماعة، وليس اجتهادا فقهيا، بل كان شعارات عاطفية، ولواصق لإغراء الجماهير، وصار تطبيقه يتعين بحسب الظروف والمصالح الفئوية ومقولات الجماعة مصحوبة بالغلو في التكفير، وفقَد بوصلته وصار حركة عنيفة داخل المجتمع السني، وطرح وراءه فقه الأمة وعملها بالجهاد.
5-المفكر الإسلامي وصناعة التجاوز :
ومن الواضح المفكر الإسلامي لم يرجع يوما لمراجع الفقه الإسلامي المعتمدة في الفتوى ليتبين هل هو تحت أصل الجهاد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم هو نفسه صار منكرا من المنكرات، في قتال الفرقة الناجية الطائفة المنصور ة قتال ردة، وأسلو ب حرب الروايات والغرق في المتشابهات أمر متكرر، ففي كل أزمة نشاهد الدعاة يغرقون المجتمع بسيل من متشابهات الروايات والسِّير القابلة للتوظيف لصناعة حكم فقهي يتوافق مع رؤية الجماعة الضيقة، مُصِرِّين على الإعراض عن مصادر عمل الأمة بالجهاد في المحجة البيضاء في المذاهب المتبوعة، وخلاصاتها العلمية.
6- الجهاد المتحور جزء من الحرب الأهلية:
وبعد أن تجاوز المفكر الإسلامي المذاهب المتبوعة وما بينته من أحكام الجهاد، وتحول الجهاد إلى حرب أهلية، وصار صداما محليا داخل الأمة، قام المفكر الإسلامي بإجراء مراجعات تتجاوز التجاوز وهو جوهر الحداثة، هذه هي التبدلات السريعة في المفاهيم والأحكام، وهذا يستدعي مناقشة أصولية فقهية للفَرْق بين حقيقة الجهاد والمقاومة، ثم بيان حكم هل يجوز إطلاق المقاومة على الجهاد .
7-الدعوة للجهاد لهدم التعبد بالعلوم الإسلامية:
أ-الاستهزاء بتدريس العلوم الإسلامية في سبيل الجهاد:
الجهاد خادم لقصد التعبد وهذا هو قصده الأول، ولكن الفكر الديني الصحفي يدعو للجهاد بوصفه لاهوتا ثوريا ينقلب على العلوم الدينية الحامية لمسيرة الجهاد من الانحراف، فيرفع هذا الفكر الصحفي المنحرف راية الجهاد مستهزئا بأولئك العاكفين على دراسة الشريعة وتدريسها من منابعها الأصلية في المذاهب المتبوعة، التي كانت تنحيتها سببا في تحول الجهاد إلى حرب أهلية ولاهوتا ثوريا داخل البيت السني، يتحلل فيه المنتسبون للجهاد التزام بيان الشريعة، بحيلة لا يفتي قاعد لمجاهد، وهي لا أصل لها في الشريعة، بل هي من الإحداث في الدين وكانت سببا في هلاك الجماعات نفسها على أيدي بعضها.
ب-الثورية الدنيوية باسم الجهاد:
فهذا النوع من الصحافة يَحرِف مفهوم الجهاد قصده الأول، وهو التعبد بالشرع ولو خالف هوى العباد، مستغلا العاطفة الدينية للمجتمع وعدالة الجهاد، وهذا كله تأثر بلاهوت الحرية والثورة الحداثي ، وهو تطبيع فكري مع الفكر الحداثي وهذا الانحراف في تصور الجهاد يعني الحرمان من النصر الإلهي لأنه لا يتنزل على الثورية الدنيوية باسم الجهاد، بل على الجهاد الأخروي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، ونصرة الشرع تكون بالتزام تصوراته وأحكام تلك التصورات.
ثانيا: حقيقة مفهوم المقاومة:
يجب النظر في مفهوم المقاومة المسلحة التي هي رد فعل مسلح على الاحتلال، وبيان المقوم الذاتي والصفات الذاتية لمعنى المقاومة بحسب مقولات الحداثة في الحرية والحدود الوطنية والقومية التي تعتبر محددات لمفهوم المقاومة وتطبيقاته ضمن الرؤية الحداثية التي لا تُرتب أثرا في الآخرة، وتزعم أنه لا يجوز للدين فيها أن يكون مرجعا في بيان حقيقة المفهوم وغاياته وتطبيقاته، وكلاهما الاحتلال والمقاومة من منتجات العلاقات الإنسانية داخل الطبيعة لا تؤمن بالمبدأ والمعاد والإله والنبوات في الحياةالدنيا.
ثالثا:حقيقة الجهاد شرعا:
1-أصول الجهاد شرعا:
بينما نجد أن الجهاد هو : ( قتال مسلم كافرا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله، أو حضوره له، أو دخول أرضه) مستمد من محددات عقدية في الكفر والإيمان والغاية والتطبيق، ويقوم على أصل شرعي وقصد أول: وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما الأرض والمال والنفس فهي مقاصد تابعة خادمة للقصد الأول المخدوم وهو التعبد.
2-هوية الجهاد التعبد مخدوم وحظ العبد خادم:
ولا يجوز شرعا تَقدُّم المقصِد التابع الذي مقامُه الخدمة على القصد الأصلي في التعبد بالشرع في سبيل الله وهو القصد المخدوم، فالشريعة هي المقصد الأصلي في مقام التعبد، والأرض وما يتبعها من حظ العباد قصد تابع وصحيح في محله ما دام تابعا وخادما، ومدار نصرة الله تعالى لهذه الأمة على المحافظة على القصد الأصلي مخدوما والتبعي في الوطن خادما، وإذا تقدم الوطن على المقصد الأصلي، تحول الإسلام إلى مركبة لأغراض دنيوية خاصة، كمن يمسح حذاءه بغطاء رأسه، وحرمت الأمة حقها بالنصر لأنها دنيوية تستخدم الشرع وتوظفه لا تتبعه وتقتدي به.
رابعا: المقاومة تفارق الجهاد في المفهوم والمحددات والغاية والتطبيق:
1-الأقل خطرا صحة المعنى وفساد التعبير:
لذلك نجد أن كلمة المقاومة لا ترادف الجهاد من حيث مفهوم الجهاد شرعا، بل العلاقة بينهما التباين، ولا تسد إحداهما مسد الأخرى، ولا في مرجعية الشريعة في التطبيق ولا في غاية التعبد لله تعالى، وإطلاق مقاومة على الجهاد هو تطبيق ثقافي مع الحداثة، وفك ارتباط معاني الشريعة عن ألفاظها، ويكون الخطر أقل عندما يكون المعنى صحيحا في الذهن والتطبيق، ولكن الخلل وقع في إطلاق اللفظ.
2-الخطر الأكبر فساد المعنى:
أما الخطر الداهم فهو أن يكون المعنى في الذهن والعمل هو المقاومة بمحدداتها الحداثية، ويطلق عليها الجهاد كما هو الحال في الحركات الدينية العنيفة داخل البيت السني، وسواء سمي الجهاد بمعناه الشرعي مقاومة، أو سميت الحركة العنيفة بالجهاد من تسمية الشئ بغير اسمه، وفك ارتباط الألفاظ عن معانيها وهو ما أكده الشارع بين يدي الساعة.
خامسا: متى يجوز إطلاق مقاومة على الجهاد؟
إذن يجب المحافظة على المعنى الشرعي للجهاد من حيث مفهومه وعلله وغاياته والأحكام الضابطة له، ولكن اسم الجهاد بوصفه حربا أخلاقية بالدرجة الأولى، ويقوم على العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا يتناقض مع همجية الحداثة ودمويتها، ويعد شرفا مرفوضا في عالم اللاشرف، وينافس حضاريا نموذج الاستعمار القائم على الإبادة، وقد يكون استخدام كلمة الجهاد سببا في دخول الإخلال والإبطال على ضروري النفس والدين، بسبب حرب ظالمة لاستخدام اصطلاح الجهاد، وهنا لا مانع من استخدام لفظ المقاومة من باب ارتكاب المفسدة الدنيا لدرء المفسدة العليا.
سادسا: التطبيق السياسي في الجهاد بين التعبد والخدمة:
1-يجب على السياسي أن يحافظ على رتب التعبد والخدمة:
إذا اتضحت هذه القواعد الأصلية في الفرق بين الجهاد والمقاومة، اتضحت معالم السبيل في حدود علاقات الدولة في السياسة الشرعية بأن التعبد قصد مخدوم والدنيا خادمة، وتكون العلاقة صحيحة ما دامت الدولة أو من ينوب منابها تحقق مكاسب سياسية خادمة، لا تعطف على المخدوم في التعبد بالهدم.
2-لا ترجيح بين الخادم والمخدوم إلا عند التعارض.
ويجب الجمع بين المكاسب السياسية والاقتصادية والعسكرية الخادمة مع مقام المخدوم وهو الشريعة، وعند التعارض تكون المكاسب مرجوحة، وما تذهب إليه الجماعات الإسلامية من الترجيح بين التوحيد والمكاسب بادي الرأي، فمنهم من يذهب مع التوحيد أولا، وأن القتال في سبيل الوطن شرك، والطرف الآخر يذهب كل مذهب مع الذرائعية السياسية من أجل الوطن على غير هدى بسبب عدم بيان الإطار الفقهي الجامع بين التعبد والإيمان وبين المكاسب في الأرض التي هي حظ العبد.
3-الخبرة الفنية في محل الحكم هي القادرة على تنزيل الحكم على محله:
يُسلم الفقيه النموذج الفقهي لصانع السياسة مبينا رُتبَ المصالح في حظ العبد والتعبد لله تعالى، أما النظر في تنزيل الحكم على محله في المسألة المشخَصة بعينها مثل حدود العلاقة مع إيران أو العلاقة مع الغرب، أو الناصح السياسي الذي يجب أن تتولى المراقبة والتسديد في تنفيذ الشرع، فمبحثه مع الدولة ومن ينوب عنها في صحة التنزيل على محل الحكم، الذي هو تحقيق المناط الشخصي.
4-التطبيق مع إيران والغرب:
أ-العلاقة مع إيران والغرب في مراعاة القصد الخادم والمخدوم
– هل العلاقة مع إيران أو الغرب تحقق مكاسب سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية محافظة على القصد الأول وهو التعبد بالشرع وإقامة الدين، أم أن هذه المكاسب تعود على الدين عقيدة وشريعة بالإبطال، فما عاد من تلك المصالح على الدين بالإبطال فهو مردود، وما كان من تبادل المصالح في حظوظ الدنيا فمعتبره عندئذ بمقياس الربح والخسارة، ما دام الشرع محفوظا عزيز الجانب، عندئذ نكون قد رسمنا قاعدة فقهية واضحة للعمل السياسي تعمل الدولة على التطبيق والناصح الأمين في المجتمع يرشد ويسدد وينتقد، ونصبح أمام حالة بنائية لوضوح المحجة البيضاء في الفقه، التي تختصر الكثير من الجدل السياسي.
ب-ما الواقع العربي السني مع إيران والغرب:
إن العرب هم مادة الإسلام وحُراسه، ولا يغرنك الزعبرة الإعلامية لإيران بتحرير فلسطين، ولا ثُغاء العالم الغربي بحقوق الإنسان وحق المقاومة والشعوب في تقرير المصير، كلا الطرفين يعمل على إزاحة الأمة التي جذعها أهل السنة، فهم للإسلام مستقر ومستودع، وقراره المكين الذي لا يلين، وكلا المشروعين الشيعي الباطني والغربي الاستعمار ، يسعى لمحو مذهبهم العقدي والفقهي، أما المفكر الإسلامي الذي اتخذ من دون مذاهب أهل السنة حجابا وأعاد النظر في النص وتجاوز المذاهب المتبوعة فهو صديق جاهل، وربما يبلغ الصديق الجاهل من الضرر بالأمة ما لا يبلغه العدو ، ومن هنا نجد أن كلا المشروعين والصديق الجاهل يعمل ضد القصد الأول بالتعبد ويجب التعامل معه بما يليق بحماية مقام التعبد بالشريعة، قبل الالتفات إلى القصد الخادم في حظوظ العباد.
5-إذن الفاعل في التطبيق هو صانع السياسة الشرعية وليس الفقهي:
أ-السياسة الشرعية تجمع النظري في الواقع مع الحكم في الفقه:
إن الفقه يقوم بتخطيط الطريق مبينا الخطوط الحمراء، بحيث لا يجوز للخادم في المصالح الدنيوية أن يلغي المخدوم في التعبد والإيمان، ويجب الجمع بين المقصدين، بشرط أن يبقى الخادم خادما، والمخدوم مخدوما، والفاعل في التطبيق هو التخصص النظري العسكري والسياسي والإستراتيجي والإعلامي والاقتصادي وغيرها، فهم الذين يدركون التصورات المتعلقة بمحل الحكم في الواقع، الذي يتوقف على تخصصات نظرية في هذه المجالات، ويبقى مجال الحوار مفتوحا بين تأصيل الحكم الفقهي وتحقيق مناطه في الخبرة المتخصصة.
ب-شبهة وجوابها: إن إحالة النظري للدولة يعني خروج الأمر من نطاق الشريعة:
إن سلامة البناء الفقهي، مع صحة البحث النظري ثم تنزيل الحكم الصحيح على محله الصحيح هي حالة صحيحة من حيث القياس بتحقيق المناط، والعقل هنا متصور الشرع تصورا دقيقا، وليس من الشعور وخطاب السعادة، والخلل الذي قد يحصل إنما هو في التطبيق في الواقع خارج الذهن، فإذا صح التصور الشرعي في ذهن راسم السياسة الشرعية وهو الدولة والناصح في الأمة، الذي هو صمام أمان للدولة والأمة، إذن صحت المحجة البيضاء في بيان ما وجب على الفقيه والخبير النظري، ونكون عندئذ قد تجاوز خطر الالتباس في العقل الذي هو مناط التكليف، وفي حال تعثر راسم السياسية الشرعية في التطبيق فنجد الناصح المسدد والمرشد في التطبيق على فرض حصول أخطاء من الدولة في التطبيق.
سابعا: لماذا تحارب الحداثة مفهوم الجهاد وتتبنى الجماعات مفهوم الحداثة في المقاومة:
أ-الحداثة أعلم بعدوها:
إن الحداثة أعلم بعدوها، كما أن عدوها أجهَلُ بها، فالحداثة المتوحشة تقوم على حرب الإبادة الاستعمارية، ولا يجوز تقييم الحرب من حيث الأخلاق، بل تقيم الحرب من حيث المكاسب الدنيوية المنهوبة، وإذا دخلتها الأخلاق فسدت، وهذا متناف تماما مع الجهاد الذي إذا دخلته الدنيا فسد، ويجب أن يكون قصده الأول التعبد بنفي حظوظ الدنيا، وإن وجدت في نفس المجاهد فهي بالقصد الثاني التابع والخادم، للقصد المتبوع المخدوم وهو التعبد.
ب- الجهاد المستَعار وخطورة التطبيع الفكري الديني مع الحداثة:
فعجبا لوعي الحداثة برفضها حقيقة الجهاد الشرعية، وأشد عجبا من الفكر الإسلامي الذي قبل نموذج الحداثة في المقاومة واستخدمها من باب الترادف مع الجهاد مع التباس في المعنى وشتات في الأحكام، وإن دل ذلك على شئ فيدل على تهافت الفكر الديني الذي يَسقط في مهواة الحداثة التي لا قعر لها، وأن حركية الفكر الديني الذي أعاد النظر في النص وتجاوز المذاهب المتبوعة، كان تابعا في قاطرة الحداثة، وانحرافات التصرفات في الحركات المنتسبة للجهاد كانت بسبب انحراف التصورات أولا، ثم الشتات في الأحكام والتناقض بين الجماعات الدينية المتحاربة ثانيا.
ثامنا: تحييد الأزمات جزء من المحافظة على القصد الشرعي الخادم والمخدوم:
1-السياسي متقدم في الواقع النظري والفقهي متقدم في الاستنباط من الشريعة:
(إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد اليوم) فهذا حديث مؤكد لحفظ ضروري الدين وضروري النفس، وأنه لا يبقى أحدهما مع زوال الآخر ، ولكن مقصد الجهاد الأول هو التعبد لله تعالى بعيدا عن حظ العبد في دنياه، وقد بين الشارع فن تحييد المخاطر لحفظ النفس والدين معا على لسان فتية الكهف (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) فكانت النجاة في الطريق الثالث وهو (إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا)
2-الطريق الثالث حماية المقاصد الشرعية في الخادم والمخدوم:
-فجاء الطريق الثالث من صناعة السياسة الشرعية للجماعة عند فقدان الدولة، في تحييدا للأزمة لحفظ الدين والنفس وهما غايات السياسة الشرعية التي يرسمها الفقيه المجتهد في البحث الفقهي أمام صانع القرار الأعرف بالبحث النظري في محل الحكم، وهي عين المسألة الواقعة، فالفقه هو النور، والبحث النظري في محل الحكم هو العين المبصرة التي ترى في ذلك النور، ولولا النور ما أبصرت العين.
3-المسلمون في أوروبا وتجنب الصدام المسلح:
بناء على الطريق الثالث الذي رسمه الفتية من أهل الكهف يستطيعون أن يشقوا طريقا بعيدا عن الصدام المسلح الذي يستدرجهم لهلاك النفس وضياع ضروري الدين بسرقة الغربيين لأبنائهم بما يفيت النفس والدين، ومع ذلك يمكنهم صناعة تضامن مع أمتهم بقدر الممكن والمستطاع الذي يقدرون عليه، بشرط أن لا يؤثر ذلك بالنقص في ضروري الدين، فإن عاد وجودهم في الغرب على ضروري الدين بالإبطال وضروري النفس بالهلاك، فوجب عليهم أن يهاجروا فرارا بدينهم وأنفسهم، فإن أرض الله واسعة، ولا يجوز عندئذ تقديم تكميلي المال والعيش الرغيد على ضروري النفس والدين، ولا يجوز خيانة عهد الأمان، فإن مبادئ الشريعة مقدمة على مكاسب دنيوية أخرى.
التجديد الديني، مقاصد الشريعة، فقه الجهاد، الوطن في الإسلام، المقاومة الإسلامية والوطنية، تحقيق المناط، تعيين المناط، أصول الاجتهاد، مفهوم المقاومة، السياسة الشرعية، نظام الحكم في الإسلام، الوطنية في الإسلام، القتال من أجل الوطن، الحرب على غزة، قضية فلسطين
مقالات ذات علاقة:
1-فقه جهاد الدفع من غير إذن الإمام بين العلل الجزئية والمقاصد الكلية
(فلسطين نموذجا)
2-قضية فلسطين على دَرْب البلاء الـمُبِين:
المحجة البيضاء
الكسر في الأصول لا ينجبر
عبد ربه وأسير ذنبه
أ.د وليد مصطفى شاويش
عَمَّان/ الرباط
15-صفر-1446
21-8-2024
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم وزادكم من فضله فضيلة الدكتور..
مع أن المقال مكتوب باللغة العربية الفصحى إلا أنني لم أفهم الخلاصة ولم أستطع ربط الأمور ببعضها، أتمنى من فضيلتكم الإيضاح؛ شعب غزة وحماس وفلسطين والمرابطين أصبحوا كاللغز وسط هذه الفتن المظلمة ولا أحسن إلا الدعاء.