الخوف من ذهب

الخوف من ذهب

*لِمَ كل هذا الخوف يا عزيز ي، خشيت على رصيدك النقدي في البنك، فسارعت إلى شراء الذهب، وبعد أن اشتريت الذهب أصبحت تخشى من نزول سعر الذهب، فأصبحت خائفا على الذهب، فبعت خوفا على النقد واشتريت أرقا على الذهب، وكأنك سمسار للخوف تبيعه وتشتريه.

*آلـمَني يا عزيزي أنك لم تنتبه وأنت في خوفك على سعر الذهب، كنت تتناول وجبتك الشهية دون أن تستمتع بأحسن الطعام، الذي حُرم منه كثير من البشر، فلم تشعر  بزغاريد الحُلَيمات في لسانك، وهي تطير بهجة للمشاوي البلدية اللذيذة، كما أنك لم تشعر  برقصة الحلق البهلوانية وهو  يبتلع الطعام السائغ، أما تدفق الماء البارد بين حليمات اللسان ورقصات الحلق فذاك عرس مزدوج لَذَّةٌ للشاربين فاتك حضوره، ولكن للأسف حال الخوف دونك وما حولك من حياة ذات بهجة.

*لعلك يا عزيزي الخائف على الذهب لم تَر ذلك الشقيق المحاصر  في أماكن كثيرة في هذا العالم الظالم وهو يعرض سيارته مقابل كيلو من الأرز، ولو تأملت ذلك لعلمت أن الذهب رخيص لا يطعمك من جوع ولا يؤمنك من خوف، لَن أُبْعد عليك الطريق، فأنت بغرام الذهب في غَرام، سأعطيك أُمنية صفراء على لون الذهب المحبب إليك، وهي أن كل شيء تلمسه يصبح ذهبا، ماذا تشرب، الماء والطعام والولد والزوجة وكل شيء، عندها ستقيم حُليمات اللسان مأتما للحياة، والحركة الدودية للمريء عزاء للسعادة، وتفقد الحياة، لتعلم أن أهون ما كان عندك وهو الماء أغلى من الذهب.

* وقد تقول لي ما هذا الخيال الجامح، والفكر الشاطح، تحث معي بالواقع فنحن أبناء الواقع، وما كل شيء يصبح ذهبا، أقول لك: دع الخيال، وابدأ الألم في الأسنان، فهذا واقع مشاهد سيُنسيك التضخم النقدي والسوق المالي ولَون الذهب والطعام السائغ، سينسيك كل شيء، لتعلم أن صحة بدنك وهَداةَ  بالك هي الذهب الحقيقي، الذي لا يباع ولا يُشترى، بل إن هَداةَ البال هي النبع المتدفق من الروح يتسلل إلى عضلة القلب، فيمنحها الأمان والاطمئنان، ولا تنفع الصورة الطبقية ولا فحص الدم من اكتشاف ذلك، أنت ستعرف شيئا لا يفهمه سوق الذهب، ولا مصافق السلع والنقود.

*في المجاعة ستذكر  يا عزيزي  قول عمر عندما جِيء له بكنوز كسرى وأنفقها في سبيل الله، ولما ُسئل: لَم تدَّخر للنوائب! قال: تلك ندخر لها تقوى الله، ستعلم أن قول عمر  ليس من التقوى المزيفة لحشد الجمهور  الغارق في الشعبوية الدينية، ولا لحصد الإعجابات والمشاركات والنزول للانتخابات، بل ستعلم أن ما قاله هو عين الحقيقة، التي تشهد بأن  الكنز لا ينفع في النوائب صِدقا، ولنا في أخينا الشقيق الذي عرض سيارته مقابل كيلو من الأرز  درسٌ لا ينسى، وأن سنة الله مستمرة.

 *وإن كنت ما زلت  في شك من هذا ففي الحديث الصحيح من خوفك شفاء، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَر مِن علامات الساعة (أن رأس الثور يكون خيرا من مائة دينار) يشير إلى أنه في المجاعة يكون رأس الثور  الذي لا لحم فيه خير من مائة دينار  فكيف ثمن لحم الثور،  فإنّ كل ذهبك الذي تخاف عليه  لن يشتري لك لحما في النوائب، فعلامَ تخاف على الذهب ولا تخاف على نفسك، إني أحار بك هل الذهب لك، أم أنت للذهب.

*لست أُزهِّدك يا عزيزي  في عالم الأسباب والاحتياط لحفظ المال، بل أقول لك إنك تبحث عن الأمن في موطن الخوف، فلن تطئمن مع الذهب ولا مع الرصيد في البنك، لأنك تبحث عن الأمن في سوق المال، بينما يجثم الخوف في داخلك لا علاقة له بالسوق، يعني أن الخوف في قلبك على النقود تذهب به إلى السوق وتشتري الذهب، ثم تخاف من نزول الذهب، وترجع بالخوف وينام معك تحت اللحاف، فالمشكلة فيك، لا في السوق ولا في الذهب ولا في النقود.

* ولكنك تَحسِب أنك بالذهب حصلتَ على القوة والأمن، ومَثَلُك في وهم القوة  هذا مَثَل قَزَم وقف أمام الشمس فرأى ظله العملاق على الجدار ، فصدَّق الظل ونسي الحقيقة، وهكذا أنت يا عزيزي تعيش في وهم القدرة الإنسانية، ولم تَرَ قدرة الله تعالى وهي تصنع الأمن للصحابة ويلقي عليهم النعاس يوم  بدر  وهم في جَفْن الرَّدى والردى نائم، وأنت لم تأمن تحت اللحاف والذهب في حِجْرك، بل تسلل الخوف من بين ضلوعك حتى تمكَّن من قلبك، وتحول إلى محطة بثِّ وساوس السوق وخصوماته داخلك، وكأنك نائم في السوق، ووهم ظلك  على الجدار  حرمك من النعاس.

*أنت يا عزيزي تصنع الخوف ثم تبحث عن حل بخوف آخر، لأنك شُغلت بِوهم القوة، لا بالقوة، لأنك تنظر إلى الرصيد المصرفي والذهب في السوق على أنهما حقائق وما هما إلا خيالات الظل على الجدار ، وهذا الوهم حجبك عن حقيقة قدرة الله المدَبِّرة، ورحت تعانق الخيال العملاق على الجدار  وتشد ظهرك به وكأنه هو النافع الضار، ونسيتَ حقيقة القدرة الإلهية التي فيها النفع والضر، حتى إذا اشتعل رأسك شيبا، وبلغت من العمر عِتِيَّا،  بدأت تنفق خيال  الذهب على مرضك سُدى، وهيهات فقد تغيَّر  طعم الماء في فمك وصار مرا مختلطا بدوائك وأدوائك، ولم تَعُد حُليمات اللسان تزغرد للطعام اللذيذ، ولا الحلق يرقص للماء البارد، ولا يهتز المريء طربا للحوم المشوية، فقد أحماك الطبيب عنها، ونسيت الذهب، وتذكرت ماضيك اللذيذ الذي لا يعود، ولكن نسيته وهو حاضر وأنت غائب مع الذهب.

* عزيزي المغرم باللون الأصفر، أنت كصبي غِرٍّ  نظر إلى الماء فظن أنه يخرج من الحنفية، وأن الحنفية هي نبع الماء، وهكذا أنت ما زلت تتوهم الذهب أنه يشتري الأمن، ولكنك ما زلت في رحلة الخوف الأبدية في مقدورات الله تعالى من ذهب وغيره، وكان الأولى أن تشغل نفسك بالقادر  سبحانه وأن تَنْسى المقدور، وأن تعلم أن قدرة الله تعالى هي التي تقلبك بين الأمن والخوف، وليست يَدُ الرأسمالي آدم سميث  الخفية في السوق تقدر على شيء، ولعلِمتَ أن الأرزاق ليست خبْطَ عشواء، بل هي حكمة الله ليس لك منها إلا ما كتب لك، فبينما أنت وأبو الرأسمالية آدم سميث تستمتعان بوهم العَمْلَقة وظل الشمس  على الجدار  وهرمونات السعادة، ستجدني مُتَّكِئًا في الشمس لا أُبالي بالظل ياصديقي.

الروح المسافرة

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عمان أرض الرباط

10- ذي القعدة -1446

8-5-2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top