تمهيد:
أعترف أنني لم أخرج عن طوق التقليد في المذهب بعد، وكلما ظننتني اقتربت من معرفة المذهب بأدلته كلما وجدت أن الطريق قد طال واتسع، ذلك لأن المذهب ليس رجلا تعرف ما عنده، بل هو مؤسسة علمية اجتهادية لها قوانينها وأسسها، الممتدة عبر القرون، خاضها الأوائل والأواخر وتركوا وراءهم ذخائر، تلك الذخائر العلمية التي جهلها من جهلها وعلمها من علمها، وأقف اليوم مع مسألة حاولت فيها أن أبين الامتداد العميق لفقهنا الإسلامي عامة والمالكي خاصة في الطبيعة الإنسانية والعقل والشرع، وهذه مسألة من تلك المسائل.
أولا: التمييز بين توكيل المرأة والرجل في التزويج:
1-توضيح المسألة:
على الوكيل إن وكلته الزوجة أن يرزجها بمن أحب أن يعين لها الزوج ولو أطلقت له في الوكالة أما لو أطلق الزوج لوكيله فإنه لا يجب على وكيل الزوج أن يعين الزوجة للزوج ويلزم الزوج، فإن لم يقبل الزوج بها وطلق فإن للزوجة نصف المهر.
2-جاء في بلغة السالك للإمام الدردير:
(وإن وكلته) المرأة على أن يزوجها (ممن أحب) الوكيل، وأحب إنسانا (عين) لها قبل العقد وجوبا من أحبه لها لاختلاف أغراض النساء في الرجال، (وإلا) يعين لها وزوجها ممن أحب (فلها الرد) أي رد النكاح (ولو بعد) ما بين العقد واطلاعها عليه، (بخلاف الزوج) يوكل من يزوجه ممن أحب فزوجه (فيلزمه) وليس له رد. فإن طلق لزمه نصف المهر.
ثانيا: بناء الحكم الشرعي على الطبيعي:
1-الدليل الحسي أساس في بناء الشرعي:
وعليه فإن الدليل هنا ليس نصا في الكتاب والسنة، بل هو شرعي بني على تعليل طبيعي مستنده الحس، وهنا ترقى رتبة الفقيه إلى أهمية بناء الحكم الفقهي على الطبيعي، كمسائل الطب والاقتصاد والمحاسبة وغيرها، وقد فطن فقهاؤنا لذلك وبنوا حكما شرعيا على عادي حسي.
2-حوار في علم نفس المرأة:
شرحت المسألة السابقة لطلاب الدبلوم العالي في الفقه المالكي، وذكرت تعليل الإمام الدردير لتمييز المرأة عن الرجل في التوكيل بالزواج بقوله: ((عين) لها قبل العقد وجوبا من أحبه لها لاختلاف أغراض النساء في الرجال)، وسألت صديقي د. ريكان إبراهم المختص بعلم نفس المرأة عن هذا التعليل الذي بنى عليه المالكية تفريقهم السابق.
3-المرأة تميل إلى الرمز والإشارة:
تعجب د. ريكان إبراهيم من دقة تعليل الإمام الدردير، وأفاض في ذلك من الناحية النفسية فيما يتعلق بعلم نفس المرأة في هذا، فقال المرأة تتحير وتتردد إذا خيرت، خلافا للرجل فإنه يختار، لذلك كانت إباحة التعدد للرجل لا تؤدي إلى حيرة، وتؤدي إلى اختيار، أما تخيير المرأة فسيدخل عليها الحيرة.
ثالثا: فقهنا تخيير الرجل واختيار المرأة:
فيمكن للرجل أن يقول لأمه زوجيني من فلانة أو من فلانة، ولكن المرأة إذا عرض عليها واحد تحيرت وترددت، فما بالك باثنين أو ثلاثة، وعليه فإن توكيل المرأة وليها بالتزويج ممن يحب الولي، لا يعني أنها فوضت إليها الاختيار بالمطلق، كما بينه سَيدي الإمام الدردير، بل يجب أن يعين لها، وليس كذلك الزوج، حيث يمكنه أن يعين من يريد زواجها، وتوكيله بالتزويج يعني أنه فوض التعيين للوكيل أيضا، لذا، إذا لم يرض الزوج بالتي عينها وكيله وطلق الزوج قبل الدخول، فعليه نصف المهر.
رابعا: صديقي د. ريكان ومقدمة في علم نفس المرأة:
أهداني صديق العزيز د. ريكان إبراهيم كتابه: مقدمة في علم نفس المرأة، فتصفحته وتأملت فيه، فوجدت أن العديد من النصوص التي يمكن استفادتها في جانب الحكم الفقهي، وفهم الشريعة نفسها، وعلمت أن القرآن يفسرنا ولا نفسره، فعندما أكثر د.ريكان عن الحديث في رمزية المرأة وإعراضها عن التصريح حتى في الرسم والنحت وغير ذلك من مجالات الحياة.
ورجعت إلى كتابه وجدتني بحاجة إلى مزيد من التعمق في الكتاب، ودراسته في ضوء نظرية المعرفة التي قدمت فيها محاضرة في كلية الهندسة في الجامعة الأردنية وأن الكتاب سيعيننا على مزيد من معرفة الأحكام العادية في علم النفس التي اقتحمها اللادينيون فأكثروا فيها الفساد، وأرادوا إفساد الرجل والمرأة معا، وهدم البناء الإنساني الذي عظمه الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
خامسا: علم نفس المرأة والكناية في النص الشرعي:
1-أمثلة على الكناية في خصوصية المرأة:
ما ذكره د. ريكان في مقدمته كان يستنفر من حيث لا يدري مكامن النصوص الشرعية في زينة المرأة، والرمزية في قوله تعالى:( لَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31: سورة النور، والحديث إذنها صماتها في تزويج البكر، إلى غير ذلكم من الفطرة التي فطر الله المرأة عليها، ولم يوضع كتاب في علم نفس الرجل كما وضع في علم نفس المرأة، لميلها الكبير للإشارة والرمز، وقد راعى الشارع في نصوصه بالكنايات الكثير من مشاهر المرأة المترفعة الأبية عن السقوط فيما يمكن أن يسقط فيه الرجل.
2-أمثلة أخرى من الكناية في نصوص الشريعة ورمزية المرأة:
من أمثلة هذه الرمزية والاستعلاء على التصريح أن القرآن الكريم تحدث بكنايات عن علاقتها الزوجية: النساء – الآية 21وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا، (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ) 189، الأعراف.
ولكن النصوص الشرعية لم تعِد المرأة بالرجال في الجنة، لأن الشرع يفسر نفوسنا ويحدثنا عنها ما لم نعلمه نحن عن تلك النفس، بل أقسم بها فقال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) الشمس – الآية 7، وتعتبر المرأة التصريح لها بذلك ضربا من الفحش الذي يهتك ستر النفس المترفعة والمستعلية على الرجال مع أن الزواج لها حدث الأحداث، بينا الزواج للرجل حدث من الأحداث كما عبر بذلك د. ريكان.
سابعا: خطورة الغلو في طلب الدليل الجزئي وتضيع الأدلة الإجمالية:
باعتقادي أن الفقه الإسلامي حافل بتحليلات للأحكام الفقهية على ضوء النفس والطبيعة، والاقتصاد والطب والفلك، مما يعني أن الفقه الإسلامي بحاجة إلى عمال مناجم يستخرجون منه من العلوم المخبوءة الكثير.
وعليه، فإن تصور أن الحكم الشرعي يبُنى على نص ظاهر تفصيلي في مسائل الحس، بحيث يقال لك هات على ما قاله دليلا نصا تفصيليا من كتاب أو سنة، هو تضييع للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وعلل الشريعة وأسرارها، بسبب الغلو في طلب أدلة الشريعة بنصوص تفصيلية جزئية في كل مسألة جزئية مما يعنى تعطيل الشريعة فيما بعد، لعدم وجود أدلة ظاهرة في كل جزئية بعينها، ثم يكون هذا الغلو سببا في إخراج الشريعة من الواقع.
وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه
د. وليد مصطفى شاويش
18-ربيع الثاني-1440
25-12-2018