إلى العاكفين على المتشابه من الباطنية الجدد الذي تأخروا لظروف قاهرة عن حضور مؤامرة قريش في دار الندوة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، أُنهي هذه المقالة.
تمهيد:
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب )، 7، آل عمران، فما معنى المحكم والمتشابه، وما الحكمة منهما في كتاب الله تعالى.
أولا: معنى المحكم وأنواعه:
1-المحكم بنفسه:
المحكم فيما يتعلق بالدلالة هو ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، كقوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، و(مائة جلدة)، فلفظ المائة لا يحتمل غيره، والأعلام مثل أعلام الأنبياء: نوح، آدم، محمد، مثل ذلك في تعين المدلول بلا أدنى احتمال السماء والأرض، ويسمى دلالة النص، وهذا النوع قليل في أدلة الشريعة.
2-المحكم الإضافي:
وهذا ليس محكما بنفسه، بل هو محكم بانضمام غيره إليه، وهو على النحو الآتي:
أ-المحكم بجمع الأدلة النقلية:
قد يثور سؤال وهو أنه إذا كانت دلالة النص قليلة، والظاهر المحتمل هو الأكثر في أدلة الشريعة، فهذا يعني أن أدلة الشريعة محتملة في أكثرها، فكيف يكون القرآن بيانا للناس، ونقول إن الدليل محتمل في نفسه منفردا، ولكن لو ضُمت إليه بقية الأدلة لتظاهرت الأدلة على معنى بعينه، كتكاثر الأدلة على وجوب النية في العبادات، واعتبار العادات صحيحة دون نية، وأن الكفر يكون بالجحود والعناد وليس بالذنوب، ويكون تكاثر هذه الأدلة وانضمامها على معنى واحد في رتبة النص.جاء في مراقي السعود :
والنَّقْل بالمنضمِّ قد يُفيد … للقطعِ والعكسُ له بَعِيد
ب-المحكم بالعمل المتواتر:
1-ومما يزيل الاحتمال عمل الأمة المتواتر كالصلاة مثلا فقد اجتمع فيها البيان بالقول والعمل ونقلت بالتواتر، فالقول أقوى في بيان أحكامها من وجوب وندب، والفعل أقوى في بيان هيئتها، فانضم بيان القول لبيان العمل في الصلاة، فكانت الشريعية بيانا على بيان، ونورا على نور، يهدي الله لنوره من يشاء
2-وكعمل الأمة على شرط الوضوء مع أن دلالة الأمر تدل على الوجوب وتحتمل الندب، فيكون عمل الأمة على الوجوب رافعا لاحتمال الندب، وعليه إنْ احتمَلت الأدلة في نفسها وبمفردها، إلا أن الاحتمال يزول بتظاهر الأدلة، وهنا تكون المحجة البيضاء قاطعة بمجموع أدلة الشريعة، لا بالمتشابه المنفرد، وتظاهر الأدلة على معنى واحد يقطع الاحتمالات.
ج-المحكم باجتماع دلالة العقل مع النقل:
وهذا النوع من المحكمات يتعين فيه مراد الشارع بقواطع الأدلة العقلية (الله خالق كل شيء) وهو تعالى شيء، ولكن العقل قاطع بأن ذات الله لا تخلق أصلا، فيكون العام ليس على ظاهره، بل يصرف إلى القول بأنه عام أريد به الخصوص، فيرتفع التشابه بالقاطع العقلي، لأن الخالق لا يـُخلق، ومثل ذلك نقول في قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت)، وقال عيسى عليه السلام (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) فلا تدخل نفس الخالق في عموم قوله تعالى (كل نفس ذائقة الموت) لاستحالة الفناء على الله تعالى وقواطع الشريعة القاضية بالاستحالة.
د. المحكم بدلالة الحس القطعية:
كقوله تعالى (تدمر كل شيء بأمر ربها) فالعموم ليس على ظاهره، فهي لم تدمر العرش ولا السماوات، والأرض بقيت ولم تفنى، فيجب تفسير الآية على معنى الخصوص، سواء العام المخصوص، أو العام الذي أريد به الخصوص ابتداء، وفي جميع الحال صرف اللفظ العام الظاهر عن عمومه، ومثله قوله تعالى (وأوتيت من كل شيء)، فهي لم تؤت ما أوتي سليمان عليه السلام، وبذلك يرتفع التشابه بين العموم والخصوص ويتعين الخصوص في محله، وانتفى احتمال العموم وصار الخصوص متعينا، وهذا محكم لتعينه، ويجب المصير إليه.
ثانيا: معنى المتشابه وأنواعه:
ومعنى المتشابه أي اشتبه بغيره، ومعناه صار محتملا، وهو على رُتب، وفيما يأتي أبين رتبها من الواضح إلى الأقل وضوحا:
1-المتشابه الإضافي:
أ-الظاهر:
وله معنيان، معنى راجح متبادر للذهن، ولكنه يحتمل معنى آخر مرجوحا، كالعام يحتمل التخصيص، والمطلق يحتمل التقييد، والحقيقة محتملة للمجاز، وعدم النسخ ويحتمل النسخ، وهناك أنواع أخرى، ويكفي ذلك للتمثيل.
ب_الـمُجْمَل:
وهو ما ليس واضحا في نفسه كقوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فالصلاة والزكاة لم يتضح المراد منهما من حيث الدليل منفردا عن غيره من الأدلة، ولكن بينها النبي صلى الله عليه وسلم قولا وعملا فارتفع الإجمال بالبيان، ومثل ذلك نقوله في الصيام والحج وغير ذلك.
ج-المشترك:
وهو استعمال اللفظ في أكثر من معنى في الوضع اللغوي مثل قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) وهذا المشترك يبحث المجتهدون عن تعيين المراد منه بحسب طرق الاجتهاد وقواعده، وهو قليل في نصوص الشريعة.
2-المتشابه الحقيقي:
إن المتشابه الحقيقي هو الذي لا سبيل إلى معرفته كدلالة كلمة الله على الذات العلية فلا سبيل إلى معرفة حقيقه الذات وماهيتها، وكقوله تعالى (طسم)، (كهيعص) فهذه لا سبيل إلى معرفتها من جهة الوضع اللغوي، ولم يبينها الشارع، ولا تعلم من جهة القياس، فلا سبيل لنا لمعرفتها بمنهج علمي مُقَعَّد، وهذا ابتلاء للخلق بالتوقف حيث أوقفهم الشارع، ولا يُعد عدم العلم بها جهلا، لأنها لا تقصد بالمعرفة أصلا، ولا يتوقف على معرفة معناها تكليف شرعي، وهي قليلة في أدلة الشريعة.
ثالثا: هل ثمة اتفاق على الآيات المحكمة والآيات المتشابهة؟
هناك اتفاق على المحكمات كما بينته في المحكم وأنواعه، بين يدي المجتهدين، كما هو مبين في المحكم وأنواعه، إنما تحدث الآفة من جهة طريقة الرد إليها عند غير المجتهدين، الذين تسوروا محراب الاجتهاد، وتشابهت عليهم أدلة الشريعة، وكما يبدو لك من خلاف المحكم ورُتَبه، والمتشابه ورُتَبه، أن هناك اتفاقا على ما هو محكم من خلال الأمثلة، واتفاقا على ما هو متشابه، بحسب رتب كل من المحكم والمتشابه.
رابعا: مثال على المحكم والمتشابه:
1-مثال البناء:
إن المحكمات تمثل القواعد والأعمدة التي لا يجوز المساس بها، والمتشابهات تعطي المجتهد قدرا من النظر، بحيث يتمكن من تقسيم البيت إلى تقسيمات مختلفة بشرط عدم المساس بالقواعد والجسور والأعمدة، وهي تعطي فرصة لساكني المبنى أن يتصرفوا في تقسيمه بحسب القواعد والأعمدة، ومصالح معاشهم في دنياهم.
2-مثال من القفل والمفتاح:
تقوم المصانع بصناعة أقفال كثيرة ولكل قفل مفتاحه الخاص به، لكن المصنع ينتج مفتاحا قياسيا، يفتح جمع الأقفال، وكذلك المحكمات فهي مفتاح الكتاب كله، ومفتاح السنة أيضا، وبناء على أن المفتاح القياسي موجود، فلا عذر للمتساقطين على طريق المتشابهات، فقد جَنَوا على أنفسهم، باقتحامهم على أدلة الشريعة دون امتلاك أدواتها وآلاتها.
خامسا: لماذا لم يكن القرآن كله محكما:
لم يكن القرآن جميعه محكما بل جاء المحكم على النحو الذي بينته سابقا، وذلك لما يأتي:
1-قدرة على مواكبة التغير:
إن دلالة المحكم تعني أنه لا يحتاج تفصيلا، فكيف تكون الشريعة مستوعبة لقرون قادمة بعد تنزل القرآن إذا كانت ستنص على وصف الفقير المتغير بظروف استجدت كحاجة الجراحة وفاتورة الماء والاتصالات، والشورى وقد تطورت طرق ممارستها في حياة الصحابة أنفسهم، فكيف بزماننا وقد اتسعت الوقائع، وتسارعت الأحداث.
2-منع ظهور رجال الدين:
إن رجال الدين يظهرون تحت شعار السر المقدس، فجاء المحكم لإلغاء رجل الدين، والتفسير الغنوصي الباطني، الذي يتضح للناس أنه مصادم للمحكم كتحريم الخمر مثلا، وفرض الحجاب، وبقية الإجماعات الضرورية والنظرية، وفي الوقت نفسه تفرض الشريعة الاجتهاد في المتشابهات، فالمحكمات إجهاض لرجال الدين وهم أجنة في بطن السر المقدس، والمتشابهات لإحياء المجتهدين وكشف المنافقين.
3-ظهور الراسخين في العلم:
إن المحكم لا مسرح للاجتهاد فيه، ولو كانت نصوص القرآن كلها كذلك، لكان القرآن كمدونة القانون، تضيق فيها مساحة الاجتهاد والفقه، ولا يظهر في ذلك الراسخون في العلم، الذين تتسع دائرة نظرهم في المتشابه في رتبه المتعددة، ومع جمعها في المحكم يظهر المذهب الفقهي على شكل لوحة فسيفسائية جميلة، وتعدد اللوحات الجميلة إلى مذاهب أربعة متبوعة.
4-حتى لا تتضخم مصادر الأدلة:
تصور لو أن القرآن كله محكمات كلغة القانون ، فإنه لن يكفي للصلاة وحدها، فكيف ببقية أبواب الشريعة، ومما يجد الالتفات إليه هنا أن القراءات القرآنية في الآية الواحدة، اقتصرت تكرار الآية وتطويل القرآن، فكان القرآن فريدا في تعدد القراءات، وإلا كان مجلدات كثيرة لو أفردت كل قراءة لآية بمصحف، ويعسر على المسلم حفظه ومراجعته، فجاء الاختصار مناسبا للمقصود الشرعي، وهكذا كانت المحكمات والمتشابهات جاءت اختصارا للأدلة في عددها، وفي الجمع بينها المعنى الكثير في اللفظ القليل.
5-فرصة للاختيار:
انتهت الأديان المحرفة والوضعية إلى الخروج من الواقع الذي يعايش الإنسان، لأنها اتخذت في حياة الناس أحكاما قاطعة، ثم اصطدمت القطعيات بتغير الواقع، مما أدى إلى انكسار الأديان، بينما نرى تكامل المحكم مع المتشابه، قادر على يمد الواقع بالأحكام بالرغم من تقلبات الواقع، على مدار خمسة عشر قرنا، وما زالت الشريعة تعطي بلا حد، وكل ذلك من ثمار الجمع بين المحكم والمتشابه.
سادسا: التشابه الإضافي يرتفع احتماله بين يدي المجتهد:
1-إن المجتهد له قدرة على الجمع بين الأدلة والترجيح بينها وفق المنهج الأصولي، وقد أثمرت الأدلة الظنية المحتملة أربعة مذاهب فقهية محررة متبوعة من الصين إلى الأطلسي، وقد كتبت هذه المذاهب فِقْهَهَا بنصوص مقننة بدلالة القطع في المتون الفقهية أدق من القانون، لأن المجتهد قادر على رد الظني المتشابه للمحكم.
2-بخلاف اقتحام المتسورين محراب الاجتهاد فتتشابهت عليهم الأدلة، لأنهم عاجزون عن الجمع بينها، فيظهر اضطرابهم، وتظهر بذلك رتبة الراسخين في العلم، ويتمايزون عمّن زلت أقدامهم في المتشابه، ولولا المتشابه لجمدت الشريعة جمود القانون، ولم تعد قادرة على الخروج من القرن الأول، ولألغيت كما يلغى القانون الجامد بعد سنين من التعديلات، ولولا المحكم لصارت الشريعة لغزا ، لا يعر ف منها مراد الشارع، وهذا هو الميزان الذي ينتظم أدلة الشريعة جميعها.
سابعا: فما سبب سبب الاضطراب:
1-الجرأة على اقتحام ساحة الأدلة
وعليه فإن الاضطراب حاصل بسبب تتبع المتشابهات من المقتحمين ساحة الأدلة، فظهر الغلو في الدين والتحلل من الشريعة وكل له دليله على هواه، واستدرجت الشريعة أصحاب الهوى بالمتشابه، وأقامت عليهم الحجة بالمحكم، وكأن الأدلة الشرعية لها حياة تكشف المعتدين عليها بالأدلة نفسها.
2-خطورة إيراد الاحتمال العقلي المجرد على الأدلة:
أ-إن من الملاحظ إيراد الاحتمال العقلي المجرد على النص، ومجرد الاحتمال العقلي لا اعتبار له في العلوم، فلو دخل مجردا على عمل الطبيب والصيدلاني والمهندس والقضاء، لتوقفت الحياة، وهذا النوع من الاحتمالات يُدْخَل اليوم على علوم الشريعة، كأن يقال أليس البخاري إنسانا، والإنسان يمكن أن يخطيء، ثم يعترض على الصحيحين، بمجرد الاحتمال العقلي.
ب-ولو دخل ذلك الاحتمال على علوم الطبيعيات من طب وفلك وبيولوجيا وقضاء لأفسِدت العلوم جميعا، وإن الاحتمال المعتبر في دراسته في البحث العلمي هو الذي يظهر في بيئة البحث الواقعية، ولو عكف الباحثون على دراسة جميع الاحتمالات العقلية لأهدِرت قوى الباحثين، ولقلَّت ثمرة البحوث، لذلك علينا أن نميز بين الاحتمال الذي له نصيب من الواقع، وليس مجرد الاحتمال العقلي، للاعتراض على العلوم جميعا، وعلى رأسها علم الشريعة.
ثامنا: تصنيف المخالفات للمحكمات:
إن كانت المحكمات قاطعة، فلا يعني أنها قاطعة أنها لا تتفاوت بحسب موضوعها، فقطعيات الكفر والإيمان بين المسلمين والكافرين، ليست كقطعيات الخلاف مع الطوائف المنتسبة للإسلام، وكذلك القطعيات الماثلة في الخلاف الفرعي العملي، ليست كالقطعيات الفارقة بين الطوائف.
1-محكمات الكفر والإيمان:
وفي هذه المحكمات تتضح الفوارق بين الكفر والإسلام، وهي مجتمعة في جحد الشهادتين، وتكذيب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
2-محكمات أهل السنة والطوائف المنتسبة للإسلام:
وهذه المحكمات هي العلامات الفارقة بين أهل السنة والجماعة والطوائف الأخرى تحت قبة الإسلام فهذ الطوائف مسلِّمة بالشهادتين واتفقت مع أهل السنة في قصد التوحيد، ولكنهم خالفوه انتهاء في كليات أقل رتبة من كليات الكفر والإيمان، فيحكم بإسلامها في الجملة، كالمعتزلة والخوارج والمرجئة والقدرية والشيعة، ما لم يفارق واحد من هذه الطوائف الأمة في محكمات الكفر والإيمان، فيكفر بجحود المعلوم من الدين بالضرورة، وآثار الردة في الدماء والأموال إلى القضاء وليست إلى الأفراد.
3-الاقتضاء الأصلي هو مَعْلَم أهل السنة:
وهذا الاقتضاء الأصلي يمثل الدائرة الأولى المتفق عليها بين مذاهب أهل السنة المتبوعة، فلو نظرت لزكاة الزروع كالتمر والقمح البالغة نصابا فتجب فيها الزكاة، ولكن اختلفوا في تفاصيل ذلك كزكاة الفواكه، فزكاة الحبوب اقتضاء أصلي، وزكاة الفواكه اقتضاء تبعي، والأمثلة على ذلك غير محصورة، وكذلك الجمع بين الصلاتين فالأصل عدم الجمع إلا بشروط مخصوصة، وكذلك في البيوع فستجد في كل باب اقتضاء أصليا يحوم حوله الاقتضاء التبعي.
4-الاقتضاء التبعي مُـحَـوِّم حول الاقتضاء الأصلي:
والاقتضاء التبعي مُـحوِّم حول الأصلي، وهكذا فيما اتفقت عليه المذاهب المتبوعة من أحكام فهذا اقتضاء أصلي، والاقتضاء التبعي محوم حوله لا خارج عليه، مما يعني أن المذاهب الأربعة ليست أربع غرف منفصلة، بل هي دائرة الاقتضاء الأصلي المتفق عليه، يدور حولها الاقتضاء التبعي في الخلاف بين المذاهب المتبوعة، وهذه المساحة في الاقتضاء التبعي يعذر فيها المجتهد والمقلد وكلاهما في رحمة الله وسعته، وتؤكد أن الشريعة في أصلها وضعت على قول واحد، كما هو واضح في الاقتضاء الأصلي.
5-حكم مخالفة الاقتضاء الأصلي:
إن مخالفة الاقتضاء الأصلي جائزة من أفراد المجتهدين، وهم مأجورون فيما أداهم إليه اجتهادهم، لبلوغم رتبة الاجتهاد كابن عباس رضي الله عنه وما نسب إليه من جواز المتعة والخلاف المنقول في رجوعه، وعدم قوله بربا البيوع، وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في رضاع الكبير، فكلاهما مأجور على اجتهاده، ولكن يحرم تقليده لتقرير مجموع الصحابة رضي الله عنهم خلاف ذلك، وهذا لا يقلل من رتبة الاجتهاد في ابن عباس وأم المؤمنين رضي الله عنهما، بل المتشابه واقع في أقوال المجتهدين، كما وقع في نصوص الشريعة، وذلك ابتلاء من الله تعالى لخلقه، كما ابتلاهم بالمتشابه في كتابه.
تاسعا: رفع الخصومة يكون بزوال سببها:
1-الرد إلى الله ورسوله لا يكون بالمتشابهات:
إذا كانت الأمة تفرقت في الدين بسبب تفريق أدلة الشريعة المتشابهة والمحكمة، فإن قطع المنازعة يكون بجمع أدلة الشريعة، ويكون ذلك ببيان المحكمات التي إذا رُدَّت الأمة إليها تكون رَدَّت إلى إلخلاف إلى الله ورسوله، وإن الرد للمتشابهات يعني مزيدا من الخصومة في الدين.
2-الرد إلى الله ورسوله يكون بالمحكمات:
فالقطع لا يكون بالمحتمِلات المتشابهات، بل بالرد إلى المحكمات، ويتحقق الأمر في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (فلما حصل القطع بالمحكمات، لا بالمتشابهات، دل على أن المؤمنين يردون للمحكم القاطع للاحتمال الذي كان سبب الاختلاف، لا تكرار نشرة أخبار المتشابهات، والعكوف على المحتمِلات.
***الخلاصة:
1-نصوص الشريعة المحكمات تُرَد إليها المحتملات.
2-رفع التشابه عن الأدلة بردها للمحكمات واجب المجتهدين، وليس للمدَّعين فيها من قطمير.
3-العكوف على المتشابهات والعجز عن ردها للمحكمات هو سبب الفرقة.
4-لزوم الجماعة يكون بالمحكمات في أصول الدين وأصول السنة ولزوم الاقتضاء الأصلي.
5-العذر والسعة قائمان في الاقتضاء التبعي.
6-اتحاد الاقتضاء الأصلي وتعدد الاقتضاء التبعي نموذج التعددية والوحدة في الوقت نفسه، وهو مفارق تماما للتعددية في الفكر اللاديني التي لا يجمعها جامع، وهم الذين أعبر عنهم بالباطنية الجدد.
7-للمحكم والمتشابه حِكم كثيرة في كتاب الله تعالى.
8-المتدثرون بالمتشابه سيعريهم المحكم.
9-المحكم للاعتماد والظني للاجتهاد.
10-الباطنية الجدد لا يفلحون كأسلافهم من رجال دار الندوة والمؤامرة على حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
(بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)
الطريق إلى السنة إجباري
الكسر في الأصول لا ينجبر
عبد ربه وأسير ذنبه
أ.د وليد مصطفى شاويش
عَمان المحروسة
17-ذي القعدة -1441
8-7 -2020
جزاكم الله خيرا وبارك الله بكم