تمهيد: إن النص الإلهي بـيِّن وجلِيّ، جاء لهداية الإنسان لا لغوايته، ولكن الإشكالية قد تظهر في طرق فهم النص بالاستحسان النفسي والشعور، فمِن الناس مَن مال إلى الغلظة والشدة، فتجده منحرفا إلى الغلو في فهم النص، وأما مَنْ كانت نفسه متحلِّلة من الأحكام فإنه يفسِّر النص حسب هواه المتحلل، ويتحلل من فروض الشريعة وواجباتها، وأما القدر المشترك بين الغلاة والجفاة فهو التأثر بالاستحسان النفسي، الذي جعل النص الشرعي تابعا للإنسان في ميوله ذات الغلو وذات التحلل، ولكن السُّنة لها قوانين ضابطة للمسافة بين الفهم الإنساني والنص الرباني، تمنع تغول النفس الإنسانية على الخطاب الشرعي واختطافه، وهذه القوانين هي قوانين علم أصول الفقه.
أولا: التكفير بدلالة المتشابه المحتمل للتأويل:
انتشرت حالة ظاهرية في النص الشرعي تسارع إلى ظاهر النص ظني الدلالة في لفظ الكفر دون الجمع بين الأدلة الشرعية، ودون مراعاة إجماعات أهل السنة في أن الكفر راجع إلى تكذيب الله ورسوله، وأن المسلم لا يكفُر بالذنوب، وأن التكفير لا يكون إلا بإجماع، وليس بالرأي الفردي في النص، وهذا الرد الواجب للإجماع المحكَم عند أهل السنة والجماعة هو من باب رد الظاهر المحتمل والذي يعرف بالمتشابه إلى المحكمات الشرعية وهي إجماعات أهل السنة والجماعة، التي تمثل مجموع النصوص مع مجموع اجتهادات المجتهدين.
ثانيا: طريقة الغلاة والجفاة واحدة ولكن الاختلاف في النتيجة فقط:
إن الحالة السابقة في ظاهراتية النصوص التي هجرت قواعد أهل السنة في تفسير النص وإجماعاتهم في مسائل الكفر والإيمان، والتكفير بالذنوب بظواهر بعض النصوص كترك الصلاة تكاسلا، والتكفير بالحكم بغير ما أنزل الله مطلقا دون قيد جحود الشرع وتكذيبه في بعض آيات القرآن الكريم، مثل:، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، المائدة:44، ولم يراعِ الإجماع عند أهل السنة والجماعة، وحَكَم بالتكفير بالولاء والبراء أيضا دون تفصيل أهل السنة والجماعة في ذلك، متَّبِعا تفسيرات فردية خاصة لظاهر النص، لم تضع نصب عينيها إجماعات أهل السنة، التي هي الدرجة الأولى في الاجتهاد، قبل النظر في النص الشرعي القابل للتأويل، بينما الإجماع لا يقبل التأويل بالنسخ والتخصيص والتقييد.
ثالثا: الظواهرية ممهدة للباطنية:
إن طمس معالم الإيمان بالتكفير بالذنب دون مراعاة إجماعات أهل السنة والجماعة، والاكتفاء بظاهر النص المتشابه المحتمل للتأويل، فتَح الباب أمام الطرف المقابل الذي يعمل بالطريقة نفسها، والذي جعل الإجماع وراء ظهره أيضا، وذهب إلى التفسير الباطني للنصوص الذي يعتمد على نفس الطريقة الظاهراتية، وهو تفسير النصوص ظنية الدلالة تفسيرا فرديا خاصا، هاجرا للإجماع ومحكمات النصوص، وجاعلا إياها وراء ظهره.
فالمنهج الظاهراتي في تكفير المسلمين كلما رأى كلمة الكفر في النص، سارع إليها بلا بحث عن المحكم، وهو عينه منهج التفسير الباطني، وهو النص الظاهر المحتمل المتشابه في الإيمان، فحكم بإيمان الكافرين، اعتمادا على ظاهر النص، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) سورة البقرة، ولكنه تفسير ظاهر لا يرُدُّ الظاهر المحتمل إلى محكمات الشريعة، فاتباع المتشابه وهجران الإجماع المستند لمجموع الدلالات في مجموع النصوص، أدى إلى الغلو في التكفير والتحلل من الإيمان معا.
رابعا: تتبع المتشابه سبب لفرقة الأمة:
بعدما ذاقت الأمة ويلات التكفير بظاهر النصوص الشرعية، والوقوع في دماء المسلمين المعصومة، بسبب عدم رد الظاهر المتشابه للمحكم، وهو الإجماع المنعقد على عدم التكفير بالذنوب، وأن التكذيب والجحود للمعلوم من الدين بالضرورة -كجحود فرضية الصلوات الخمس_ هو مناط التكفير بإجماع أهل السنة والجماعة، حصلت حالة نفور شديد من المسلمين وأوقعتهم في حالة من الشتات والفرقة والخصومة الدينية بسبب حالة التفسير الظاهري الفردي لنصوص الشريعة في الكفر والإيمان دون رد المتشابه إلى المحكم، وهذه الحالة مؤسسة للنقيض الآخر وهو التفسير الباطني للمتشابه.
خامسا: التفسير الباطني للنصوص هو التفسير القديم الجديد:
يلاحظ المتتبع لواقع المسلمين الديني أن هناك بوادر للتفسير الباطني للمتشابه، بعد حصول ردَّات فعل من المسلمين على الحالة الظواهرية السابقة في التكفير، وهو أن التفسير الباطني يريد أن يقدم نفسه على أنه حالة من الوعي، للرد على الغلاة المكفرة بظاهر النص، وقدم التفسير الباطني خلطة فكرية هي أشد سُمّية وقتلا من تكفير المسلمين بالجملة بدعوى أن لديه على تفسيره دليلا من النص الشرعي، ومثال هذا التفسير الباطني الزعم بأن الكفار ناجون في الآخرة، وتفسير آيات الحجاب بما يخلع حجاب المسلمة، وكذلك تفسير لآيات الميراث بالتساوي مطلقا بين الذكر والأنثى، وهو تشابه واضح في منهج التفسير الباطني، كتفسيرات الشيعة ومحمد شحرور وعدنان إبراهيم للقرآن الكريم، وكلها تنتهي إلى تحويل الإسلام إلى حالة السيولة القابلة للتعبئة في قوالب العولمة، وتحويل الإسلام من مهيمِن إلى مكوِّن، كغيره من الأديان المحرِّفة والوضعية.
سادسا: القدر المشترك بين التفسير الظواهري والباطني:
لا أقول هنا التفسير الظاهري نسبة لمذهب ابن حزم الظاهري في الفقه أو المذهب الظاهري، بل أقصد حالة غريبة جديدة على أهل السنة في التكفير بظاهر النص مما يبرأ منه ابن حزم الظاهري ومذهبه، إنما أقصد الذين كفروا عامة المسلمين ورموهم بالشرك والبدعة وعباد القبور بتفسيراتهم الخاصة، دون مراعاة محكمات أهل السنة والجماعة، وعلى رأسها الإجماع أن التكفير لا يكون بالذنوب بل بالاعتقادات القائمة على الجحود والتكذيب، وفيما يأتي عرض للمشتركات بين أتباع المتشابه من الظواهرية والباطنية:
1-تتبع المتشابه وهو ظاهر النص وتأويله، دون رده للمحكم، ولكن الظواهرية الغلاة يصلون لتكفير المسلمين، أما الباطنية فيتحللون من الشريعة، وكلاهما ينتهي إلى التحلل في نهاية المطاف، لأن المغالي في التكفير متحلل في الدماء.
2-هِجران الإجماع، وعدم البحث فيه ابتداء، قبل النظر في النص، فالمسائل التي ثبت فيها الإجماع، لا يجوز فيها الاجتهاد، لأن المجتهد في محل الإجماع يرد اجتهاده، فإن خالف الإجماع فباطل، فإن وافق الإجماع فهو تحصيل حاصل، وعليه؛ فإن البحث في الإجماع يحمي اجتهاد المجتهد من الهدر والإبطال، وليس حَجْرا على البحث، بل هو التمسك بمسلمات البحث العلمي، التي يجب أن يلتزم به أصحاب التخصصات العلمية المختلفة، والفقه الإسلامي منها.
3-التشكيك في الإجماع والتلبيس على المسلمين بمقولة: من ادعى الإجماع فقد كذب، وكثيرا ما تقال في غير محلها، وهذه المقولة للإمام أحمد، في وجوب التحري في ثبوت الإجماع، لا في أن الإجماع ليس حجة، مع أن الإجماع حجة عند أهل السنة جميعا، وهو بالاتفاق في المرتبة الثالثة بعد الكتاب والسنة، والتشكيك في الإجماع أدى إلى هدم المُحكم الذي ترد إليه النصوص الظاهرة المحتملة، وإبراز الإجماع اليوم يقطع الطريق على شيوخ الطريقة الظواهرية والباطنية معا.
4-الإجماع وإن كان هو المصدر الثالث من حيث الرتبة عند أهل السنة والجماعة، إلا أنه في الدلالة غير محتمل، فهو لا يقبل التأويل بالتخصيص والتقييد والنسخ، لذلك سيبقى الإجماع قاطعا لدابر النزاع.
5-لو رَدَّت الأمة نزاعاتها مع الظواهرية والباطنية إلى ظاهر النص في الكتاب والسنة دون الإجماع سيبقى الأمر محتملا لإعادة إنتاج التفسير الظواهري والباطني من جديد، ومن ثم يبقى نزاع، ولكن ماذا لو رددنا إلى الإجماع؟
6-فإذا قلنا انعقد الإجماع على فرضية الحجاب، وأن للذكر مثل حظ الأنثيين في محله، وعذاب القبر وأنه على الجسد والروح، وأنه لا تكفير بالذنوب، ولكن مناط التكفير هو التكذيب والجحود في مسائل الإجماعات الضرورية، فهنا تظهر نصوص الشريعة الظاهرة مؤيَّدة بالإجماع، الذي يحمي النصوص المتشابهة من تحريف معناها، ذلك التحريف الذي يقع حسب الطريقة الظواهرية نحو الغلو في تكفير المسلمين بالجملة، والباطنية الجدد في تفسيراتهم لآيات الميراث والحجاب وغير ذلك من المسائل.
7-هنا تظهر القيمة العظيمة في الرد إلى الكتاب والسنة الـمُـعَزَّزَين بسياج الإجماع القاطع لدابر النزاع، والنافي للتأويلات الفاسدة للنص الظاهر، وواضح عندئذ قطع النزاع كما جاء في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) سورة النساء، فتبين لك أن قطع المنازعة يكون بالإجماع، وهو مبتدأ النظر عند المجتهد، لحمل المتشابه على المحكم، ولدفع التلاعب بظواهر النصوص الشرعية وتأويلات نصوصها ظواهريا أم باطنيا.
8-قال الإمام الشاطبي في الموافقات مبينا مبدأ كليا من مباديء أصحاب البدع: (اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده، والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول … ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت عليه السور والآيات، وتعارضت في يديه الأدلة على الإطلاق والعموم).
من نماذج التفسير الباطني:
حزب “البقرة الصفراء” الشعبي الديمقراطي
اللادينيون هم الباطنية الجدد… بين مغارة العقل ومعدة التمساح
الطريق إلى السنة إجباري
وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه
د. وليد مصطفى شاويش
2-ربيع الأول-1439
20-11-2017
الظاهرية الباطنية اتجاهات لزم التحذير منها لشدة انتشارها في مجتمعاتنا.
سلمت دكتور وليد ولا نفد مداد قلمك