تفكيك التفكيك
( حُقنة تناقضات الأكثرية مع الأقلية في العالم الإسلامي وصراع الحكم)
الخلاصة
عاشت أوروبا صراعا داميا بين الطوائف الدينية، وبعد ما سمي بعصور التنوير وتحديد الدين في مجال الدولة، بقيت تناقضات الأقلية والأكثرية ومحاولات علاجها فاشلة وتفرض أوروبا أمراضها وأدويتها الفاسدة على العالم الواقع تحت كلي الحداثة، وقد بينت كلي الإسلام المقابل للأقلية والأكثرية، وقلت بعدم تصور هذه المشكلة الخاصة بأوروبا في المجتمع الإسلامي لعدم وجود أكثرية حاكمة لأن الحاكم هو الشرع وليس الأكثرية أو الأقلية وذكرت العديد من الأسباب الشرعية التي تحمي المجتمع الإسلامي من الكراهية الدينية الطبيعية، وأكدت أن صراع الغرب مع نفسه في ثنائية الأقلية والأكثرية المتناقضة خطير على مجتمعاتنا الإسلامية، وبينت أننا نملك نموذجنا المختلف في الكليات عن كليات الحداثة، ولا بد من ضرب الكلي بالكلي لا أن نبحث جزئيات الشريعة تحت كليات الحداثة.
أولا: التمهيد بطُرفة:
قصةمعبرة عن واقع موجود،وهي أستاذا دخل على طلاب في الصف الثاني الابتدائي وهو في شغب ولعب، فأحب أن يَضبِط الصف، فقال: من جلس ساكتا سمحت له بالذهاب إلى الحمام، مع أن هؤلاء الصبية لا أحد منهم يطلب الحمَّام، ولكن الأستاذ اخترع مشكلة غير موجودة مناسبة لحل مجاني مُعَدٍّ مسبقا، ومثل هذا يحدث على مستوى أممي،حيث تأتي الحداثة وتحقن مجتمعاتنا بفيروسات صراع الطوائف، وتطلب من الأكثرية-بزعمها-حماية حقوق الأقلية، ثم يقدم الغرب تحميلة الديمقراطية لخفض حرارة الصراع المصطنع بين الأقلية والأكثرية، ثم الإمساك بملف المريض وحقن المخدرات لتسكين المرض الموهوم.
ثانيا: حلول الحداثة أفسَدُ من مشاكلها:
فالحداثة تصر أن تنقل إلينا مرض ثنائية القطيعة بين الأكثرية والأقلية، ثم تطرح حلا مُميتا وهو إقصاء الأكثرية السنية من أجل العدالة، لصالح الفكر الحداثي، حيث يصبح أهل السنة هم أهل الذمة، وليس ذمة الله ورسوله، بل ذمة شيطان الحداثة ورجاله، وفي أي لحظة يمكن شن حرب إبادة على الأكثرية من أجل الحفاظ على وحدة التراب الوطني المحكوم من الأقلية اللادينية من قوميين وبعثيين وطوائف وملل شتى.
ثالثا: أمراض الحداثة والدين الفاسد:
إن التدين الفاسد هو تدين طبيعي يقوم على كراهية الدين الآخر كراهية طبيعية، وهو من شر أنواع الكراهية حيث لا حدّ في الحرب ولا قيد، وقد عاشت أوروبا هذه الحرب بين الطوائف، وفي حال شك البابا هل العدو من أبناء الرب، قال لجنوده: اقتلوهم والله يعرف أبناءه، وحكم الكافر الذي يخالف في المذهب الكاثوليكي أو البروتستانتي أو الأرثوذوكسي هو القتل، فما بالك بالمخالف في الدين كالإسلام، فهؤلاء المسلمون تجرد لهم السيوف المسمومة بلا فرق بين شيخ وصبي وامرأة، على النحو الذي نعرف في تاريخ الغرب الإجرامي سواء كان الحكم لرجال الدين أم لرجال الأعمال.
رابعا: تسامح المفلسين في أساطير الأولين:
حتى إذا نقم الناس على الدين، ورأوا أن مذاهبهم الدينية هي أساطير الأولين، اكتتبها رجال الدين، فهي تملى عليهم بكرة وعشيا، فإن المطلوب هو التسامح الديني، وإعطاء الأولوية للمكاسب الاقتصادية، وشن حروب السطو المسلح على جنوب البحر المتوسط وشرقه، حاملين صليب النفط والذهب والدولار، وهذه المرة ليست برمح وصليب، بل بمدفع نابليون ومطبعته، ولكن انكسر المدفع وبقيت مطبعة نابليون تعيث فسادا في المعرفة الدينية، وكان منها سحب تاريخ أوروبا وفرضه على المسلمين في العنف الطائفي، ثم الخروج من مرض الطائفية بالتسامح الديني والنهب الاقتصادي والسلطة والمنفعة، وهي تستخدم ثنائية القطيعة في الغرب بين الأكثرية والأقلية، أداة جديدة للسيطرة والإمساك بخيوط المجتمعات التي تقع تحت هيمنة مطبعة نابليون.
خامسا: بطلان طغيان الأكثرية وصراع حق الأقلية:
1-الشريعة ليست وضع الأكثرية:
في النموذج الإسلامي توجد شريعة سماوية هي الأكثرية الحاكمة والكل حولها من الناس هم أقليات محكومة بها، فالشريعة هي الأكثر والمحكوم هو الأقل، سواء كانوا مسلمين أم طوائف، فمن خالف الشريعة فهم الأقلون والأكثرون الذين لهم الطاعة هم الله ورسوله، وهو أمر لا يمكن قسمة الناس فيه إلى أكثر عددا أو أقل عددا لأن الأكثر محكوم بالشريعة وليس حاكما، ولكن الحداثة تريد أن تكون مركزالمعرفة وتعين الحق للبشر وما يجوز ولا يجوز، وتتمسح بالطوائف لحلبها وتحقيق مكاسب دنيوية منها، ولكن لا يمكن اعبتار المجتمع الإسلامي أقلية وأكثرية لما يأتي:
2-لغير المسلمين ذمة الله ورسوله وليس ذمة المسلمين:
لم يقبل الشرع أن يجعل لغير المسلمين ذمة الحاكم ولا ذمة جيش أو إنسان، بل جعل لغير المسلمين ذمة الله ورسوله حتى لا تتغول طبائع التدين والكراهية الدينية على المسلمين لتفتك بغير المسلمين أو من غير المسلمين بالمسلمين، ومعنى ذمة الله ورسوله أنه ليس لحاكم أن ينقض العهد لأن غير المسلمين في عهد الله لا في عهد المسلمين وحاكمهم.
3-الإسلام يلغي الكراهية الطبيعية في الدين:
ألغى الإسلام الصراع الطائفي بجواز الزواج من الكتابية حيث يكون جد المسلم وخاله وخالته من غير المسلمين لإلغاء الكراهية الطبيعية الدينية، التي أهلكت أوروبا واخترعت لذلك التسامح الديني بين أديان يشك أصحابها فيها أصلا، والتسامح هو تحصيل حاصل للتفرغ للنهب والسلب الاستعماري، وتقاسم العالم الإسلامي، ولم يكن تسامحا قط، بل هو دموع التماسيح وهي تعض بأنيابها على الفريسة.
4-لا للتعبد بقيم الجمهورية:
لم يقبل الإسلام النفاق على أرضه بحيث يبحث عن ثقافة موحدة لمجتمع كما تفعل أوروبا في صناعة ثقافة المواطنة بين أتباع الأديان وتفرض عليهم التعبد بقيم الجمهورية اللادينية، وتحرمهم من حقوقهم الشرعية من حقوقهم الشرعية في دينهم، لقد تجاوزت الغرب في بغيهم على الأقليات حسب تناقضاتهم في فرض قيم الجمورية في نطاق التعبد، ولا يجوز للمسلم أن يتمثل آية من كتاب الله تعالى تناقض قيم الجمهورية الفرنسية، وكذلك الحجاب، وهذا من تناقضات مبادئ الدهرية من التزام القانون إلى التعبد بقيم الجمهورية في القلب، وهذا يرفضه الإسلام مع غير المسلمين (لا إكراه في الدين).
5-نرفض الاندماج والإدماج:
يرفض الإسلام طريقة الحداثة في إدماج الأقليات واستبداد الفكر اللاديني في تعيين مساحة الدين، بل يقبل الإسلام الكتابية داخل بيت المسلم ولا يبحث عن الإدماج الثقافي في نصف مسيحية على نصف مسلمة، بل إما أن تبقى على دينها كما هي، أو تسلم كما هو الإسلام، لذلك ينبذ الإسلام استبداد الحداثة في بحثها عن المشترك الثقافي والهوياتي للمجتمع بل يكتفي الإسلام في إثبات الشرع بعيدا عن تناقضات الأكثرية والأقلية، وللكل أحكامه، بل يفرض الإسلام على المسلمين أحكاما وتكاليف زائدة على غيرهم، بينما يخص غير المسلمين بأحكامهم الخاصة في دينهم، ضاربا عرض الحائط باعتبار الأكثرية والأقلية.
6-الإسلام مقابل الحداثة وليس الإسلام مقابل الأقليات:
وعليه فإن المقابل للحداثة هو الإسلام الحاكم والمحكوم هم الأكثرية العددية المسلمة أو السنية أكثر من سريان أحكامها على الأقليات غير المسلمة، ولا يمكن سحب أمراض أوروبا وأدويتها التي هي أسوأ من أمراضها على ديار الإسلام وعلى المسلمين وغير المسلمين أن يقفوا في وجه
7-الإحسان الحق في مقابل التسامح الكاذب:
يسلِّم المسلم بأن الشريعة هي العدالة، وعليه يلتزم الجميع بحفظ قواعد حسن المعاملة ومبادئ الإحسان في الشريعة لضمان استقرار المجتمع، مع التنبيه على خطورة الحداثة في فكرتها الاستبدادية في الإدماج والسعي لفرض المشترك الثقافي على المواطنين، ومحاولة إعداد مواطنين حسب الطلب من التعليم الابتدائي، إلى متطلبات الجامعة في التعليم الجامعي.
8-لغير المسلمين ذمة الله وفي الدهرية الأمة في ذمة الشيطان ورجال الأعمال:
أ-الأمة في ذمة الشيطان:
إن وصفات الدهرية (العلمانية) فيما يتعلق بحقوق الأقليات هو لتسليطها على الأمة، وتحويل الأمة إلى أهل ذمة عند الدهرية، وليس أهل ذمة الله كما هو حال غير المسلمين في الإسلام، بل يريدون الأمة في ذمة الشيطان، واللعب على معادلة الأقلية المنظمة وتحويلها أقلية عددا إلى أكثرية قوة في السلطة، بينما أهل السنة أكثرية عدد وأقلية قوة محكومة بتاريخ غريب عليها، وهذا الميزان الفاسد ضروري لاستمرار التدمير داخل العالم الإسلامي، وعندئذ يجب تفكيك الفكر الحداثي معرفيا، واسترداد الجماعة القوية على أساس أكثرية الشريعة وأن الجميع محكوم بها لا فرق بين الأكثر عددا أو أقل، فميزان العدل هو في موضوع الشريعة لا في الأعز نفرا وأكثر أموالا، ولا يضر الأقلية كثرة الأكثرية.
ب-الأمة في ذمة رجال الأعمال:
المضحك أن المحتلفين في عرس البغل للتجديد الديني أنهم وقعوا في فخ تناقضات الأكثرية والأقلية، ولم يعلموا أنهم جميعا أقلية وأكثرية سيصبحون أقليات في ذمة رجال الأعمال، القادرين على وضع التشريعات لخدمة رأس المال، وتصبح الدولة خادمة النظام الرأسمالي الديموقراطي، مع زغاريد فصل السلطات، وحياد القضاء، الذي هو التطبيق النزيه لإرادة رجال الأعمال في البرلمان، والحقيقة أن أكثرية الشريعة هي الحاجز الذي يحجب طغيان الشركات على الأفراد والمجتمع وتمنع من تحويلهم إلى رق الديون، والتقسيط حتى الموت.
9-الاجتهاد الفقهي لا علاقة له بالأكثرية ولا الأقلية:
إذا كانت الشريعة هي الأكثرية وما سواها محكوم سواء كانوا أكثر عددا أو أقل، فلا يتصور صراع الأكثرية والأقلية في الإسلام أصلا، ولا يتصور أن يكون هناك اجتهاد لقوم بوصفهم أكثرية أو أقلية، لأن القواعد الأصولية مجردة عن اعتبار الأكثرية أو الأقلية، ومظاهر صراع الأكثرية والأقلية في العالم الإسلامي هو صراع مستورد حملته مطبعة نابليون معها.
سادسا: بطلان المذهب الطبيعي أمام الشرعي:
يتخلص الأمر أن فكر أوروبا هو نتاج صراعات تاريخية وأن ذلك الصراع هو المرض الذي يصنع دواءه بنفسه، والمريض يعالج مرضه بمرض جديد، ثم ينقل المرض بالعدوى في ديار الآخرين ليبيع تناقضاته التي هي أسوأ من مرضه، ونقل العدوى بحاجة إلى عرس البغل الذي تتحول فيه نصوص الشريعة إلى جزئيات الشرع تحت كليات الحداثة، فيتقاتل الناس في صراع الأكثرية والأقلية، ويتنادى الجميع إلى القتال على ظهور المتشابهات في النص الديني، ويحسب أن كلا منهم على شئ وليسوا إلى حشر جزئيات الشريعة تحت كليات الحداثة.
سابعا: لماذا الغرب يتمسك بحقوق الأقلية ويتستر على ضحايا الأكثرية:
إن المشروع الفكري الحداثي في تناقضات الغرب الفكرية ومنها الأكثرية والأقلية، يمثل تحريضا على الحرب الأهلية في ديار الإسلام، حيث يدعم الأقليات لإبادة الأكثرية، فتنحاز الأقلية للغزو الخارجية وتستمد وجودها منه، بينما تتحول الأكثرية إلى لاجئين ونازحين، أو طعاما لحيتان البحر المتوسط، فإن نجوا من حيتان البحر المتوسط، هيهات أن ينجوا من حيتان الشركات تخدمها الدولة، لذلك علينا أن نصوغ نموذجنا الإسلامي المعرفي المكافِح لتناقضات الحداثة، وذلك ببناء نموذجنا الفقهي المستمر على مذاهبنا المتبوعة، دون فاصل عرس البغل للتجديد الديني.
الكسر في الأصول لا ينجبر
عبد ربه وأسير ذنبه
أ.د وليد مصطفى شاويش
عمان أرض الرباط
21- شعبان -1446
20-2-2025