تنوير المقال بتوضيح معنى الاجتهاد بمثال… الاجتهاد في الشريعة يشبه ركوب الطائرة

تمهيد: نحو ثقافة أصولية عامة:

تُعد مسائل الاجتهاد من المسائل الأصولية العميقة، يتضح فيها ما فرضه الله تعالى على المجتهدين، وما عذرهم فيه، والصواب والخطأ في الاجتهاد، وما أوجبه الله تعالى على الناس إذا لم يعلموا من سؤال أهل العلم، وقد رأيت أن أسهل الأمر، بحيث يكون هذا المبحث الأصولي سهل الأخذ عذب التناول، في مثال توضيحي.

أولا:المجتهد هو الطيار:

يمكن أن يمَثَّل لمسائل الاجتهاد برحلة طيران، حيث محطة الهبوط هي رضى الله تعالى في الدنيا والآخرة، والمجتهد هو قائد الطائرة، والسائلون عن الحكم الشرعي هم ركاب الطائرة، أما الطائرة فهي أجهزة اللغة وقواعد الأصول والفقه التي يستخدمها المجتهد أعني الطيار، للوصول بالسائلين وهم الركاب إلى محطة رضى رب العالمين.

ثانيا: النصوص الشرعية هي خريطة الوصول:

 1-أما النصوص الشرعية فهي خارطة الطريق للوصول إلى رضى الله تعالى، ويسير المجتهد حسب تلك النصوص، ومع أن الهدف هو مطار الوصول، لا يكون من قصد الطيارين المجتهدين عند الإقلاع هو تحديد المَدْرج الذي يهبطون عليه، بل يكون قصدهم هو السير الصحيح على وفق خارطة النصوص الشرعية بين يديهم، لأن تحديد المَدْرج الصواب قطعا لا يتضح إلا عند الوصول، ولنفترض هنا أن المدرج رقم 1، هو الحكم الصواب عند الله تعالى، وأنه لا يعتين إلا عند الوصول إلى رب العالمين يوم الدين.

2-وهذا معنى أن ما فرض الله على المجتهد هو أن يسلك طرق الاجتهاد والمنهج الصحيح للوصول إلى مطار القدوم، وإذا اعتبرنا الحكم الصواب هو المدرج رقم 1، والخطأ المعذور بأجر واحد هو المدرج رقم 2، فإن المجتهدين جميعا ليسوا بمكلفين بتحديد مدرج الهبوط عند الإقلاع وقبل الوصول، لأن هذا غيب وليس وقته الآن في الدنيا، وتبقى مسألة الصواب وهو المدرج رقم 1، والخطأ وهو المدرج رقم 2، هي مسألة ظنية يصعب القطع به حتى يكشفه الله تعالى لنا يوم الدين، لأن الله تعالى لم ينزل فيها دليلا قاطعا.

ثالثا: يعرف المصيب قطعا عند الوصول:

أما عند وصول المطار فيكون المجتهد قد قام بما أوجب الله تعالى عليه، ويصبح واقعُ المدرج الغيبي واضحا ومحددا تماما، وقد وصل المجتهد إلى الهدف المطلوب، لأنه سلك المنهج السليم المتمثل بخريطة النصوص الشرعية الدَّالة على محطة الوصول، ويكون المجتهد عندئذ قد أتى بما فرض الله عليه، لأنه اتبع القواعد السليمة، فإن افترضنا أننا في الآخرة، وأطلعنا الله تعالى على غيبه،  المدرج رقم 1  هو الصواب في المسألة المنظورة بين يدي المجتهد، فإنه يكون قد أصاب حكم الله تعالى الذي كان خفيا في مرحلة الإقلاع، وأثناء الطيران، ولكنه أصبح مشاهدا بعد أن وصل إلى ربه وأعلمه الله تعالى بأنه أصاب وله أجران.

رابعا: المخطيء له أجر واحد إذا لم يخالف أصول الاجتهاد:

 1-وإنْ لم يكن المجتهد المخطيء قد حصل على المدرج رقم 1، الذي فيه أجران، فإن للمخطيء أجر واحد، لأنه أتى بما أوجب الله تعالى عليه من السير وفق خط سير الاجتهاد الصحيح، وله أجر واحد وإن لم يحصل على المدرج رقم 1، لأنه لم يكلف بالوصول إلى المدرج رقم 1، بل كلف بالوصول إلى المطار بوصفه محطة وصول، وليس مكلفا بتحديد المدرج، لأنه لا يتأكد إلا بعد وصول المطار، بخلاف المطار فهو محدد وثابت عند الإقلاع، وهناك عند الوصول تتضح درجات أولي العلم يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) المجادلة.

2-وجميع السائلين من الركاب وصلوا الوجهة المطلوبة، وبعد ذلك يستجيب الطيار لتوجيه برج المراقبة، ويحدد مراقب المطار رقم المدرج رقم 1 للمصيب، ثم ينزل بقية الجهات على المدارج الأخرى، فالمدرج 1، هو المصيب والبقية ينزلون في المدارج الأخرى، وكلهم وصل وجهته السليمة، وإلى قصده، وهناك يظهر المصيب وفضله، وتظهر كذلك أهلية الأئمة المجتهدين، الذين استطاعوا جميعا أن يصلوا بمن سألهم في الدين إلى الوجهة الحقيقية، والجميع يتقلبون في فضل الله تعالى ونعمته.

خامسا: الصراع على النزول على المدرج 1 قبل الإقلاع:

نعيش هذه الأيام الصراع على من المصيب في مسائل الاجتهاد، ومحاولة القطع بأن مذهبا من تلك المذاهب الأربعة هو مصيب، والثاني هو المخطيء، فهذا مثل الركاب الذين دخلوا في الصراع المحتدم، من أول ركوب الطائرة، ويريدون أن يقطعوا على أي مدرج سيهبطون، هل هو مدرج الصواب رقم 1 أم غيره، وأفنوا أوقاتهم في أمر ظني محتمل لن يُعرف إلا عند الوصول إلى مطار القدوم، ولو أنهم انشغلوا بما أوجب الله عليهم، لكان خيرا لهم بدلا من استنزاف الوقت في البحث عن الغيب، ولسعدوا بنعمة التقلب في فضل الله تعالى بين أجرين للمصيب وأجر واحد للمخطيء.

سادسا: الركاب واستراتيجية الإلهاء والتسلية غير البريئة:

 وكان يكفي الركاب وهم السائلون عن الشرع،  أن يثقوا بأئمة الاجتهاد وأن يسلكوا مسلك العلم والعمل، بدلا من طريق النزاع والجدل، في صراع يستنزف جهود المسلمين وعقولهم، مثل صراعهم المذهبي في معركة ذات الشعير والدنانير، التي يقيمونها كل عام في رمضان، حيث أصبحت هذه المعركة، نموذجا واضحا على استراتيجية الإلهاء عن كثير من الفرائض، كلزوم الجماعة، والصلح بين المسلمين، لحماية الأرض والعرض، بدلا من الاستنزاف في القطع بالصواب فيما لم يقطع الله تعالى به، ولو أراد الشرع أن يقطع به لحسم مادة الخلاف في زكاة الفطر نقد أم عينا كما حسمها في تحريم الخمر والميسر.

سابعا: ركن الزكاة أولى بأن تنفق فيه الأوقات:

1-لو أن ما أنفقناه من جهد ووقت في معركة الاستنزاف في معركة ذات الشعير والدنانير وأمثالها بسبب التعصب، على الزكاة المفروضة التي هي ركن الإسلام، لتغير وجه المجتمع الذي يعاني من مشكلة الفقر والبطالة، خصوصا وأن أول حرب خاضها السلف بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي مع مانعي الزكاة.

2-وليست معركة ذات الشعير والدنانير، بسبب إخراج المسألة من إطارها الفقهي الاجتهادي إلى القطع بالصواب، إلا حالة من الصراع والتعصب العَدَمي الممقوت، الذي يلمز السلف ومعقولهم في النص، واتهامهم بأنهم يخالفون رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد كان من المفترض أن تتوجه الجهود إلى إحياء الركن الثالث من أركان الإسلام، وهو الزكاة ومسائلها المعاصرة، التي تستحق أن تكون اليوم تخصصا برأسه، في جوانبه الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى الفقهية.

ثامنا: لا يجوز للركاب فرض جهلهم على أئمة الاجتهاد:

يتضح مما سبق أن الأئمة المجتهدين لا يوجد عندهم سر مقدس، إنما يسيرون وفق خطة موضوعية محكمة، يجوز لكل من تأهل وفق شروط الاختصاص أن يقوم بمهمة الاجتهاد، أما من لم يتأهل لمهمة الاجتهاد، فحقه في ذلك السؤال وليس الاعتراض،  لقوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) سورة النحل، فواجب العالم أن يعلم، وواجب غير العالم أن يتعلم، لا أن يصبح الجاهل منَظِّرا على أصحاب الاختصاص، حارما نفسه  من حق السؤال والتعلم، ولبس زورا ثوب الاجتهاد، وراح يعبث بخريطة النصوص الشرعية، ونازع الأمر أهله، والتبس الجاهل بالعالم. 

تاسعا: ما سبب اقتحام الركاب غرفة القيادة:

1-لم يحصل في التاريخ الإسلامي أن تم اقتحام العامة لنصوص الشريعة، وخبطهم فيها خبط عشواء، كما نراه اليوم بحجة أين عقلك؟ مع أن هذا العقل المبدع  تخلف في المصنع والمختبر والإدارة، ولم يأت ليبدع إلا في اقتحام النصوص الشرعية، حصل ذلك بسبب الحرب عبر قرنين من الاستعمار على مرجعيات أهل السنة والجماعة في القرويين، والزيتونة، والأزهر، وغيرها.

 2-ثم بعد ذلك انتشرت مقولات القس مارتن لوثر، في أن من حق أي فرد النظر في النص الديني، ونبذ الجمود والتقليد، وأن النص الديني من حق الجميع، وليس مقصورا على رجال الدين المعصومين في الكنيسة، وهذا مما نقل العدوى مع الغزو الاستعماري والثقافي للمسلمين، وأصبحْت تسمع من المسلمين من يقول إن الأمام أبا حنيفة ليس معصوما، وكذلك البخاري، وأصبح لفكر القس مارتن لوثر رواجا باسم الإبداع وذم التقليد لأئمة الدين.

عاشرا: فاسألوا أهل الذكر:

 ولا يحق للركاب أن يتدخلوا فيما لا يعلمون، بتغيير تلك الخارطة،  أو حقهم في الإبداع وقراءة الخارطة  كما يزعم الحكواتية بأن من حق الجميع أن يجتهد في مسيرة الطائرة واللعب بأجهزتها اللغوية وقواعدها الأصولية، مما يؤدي إلى سقوطها، وسبب ذلك لأنهم عصَوا رب العالمين، الذي أمرهم باتباع المجتهدين فقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) سورة النحل، ولكنهم نكصوا على أعقابهم، واتبعوا أمر مارتن لوثر ومقلديه، وما أمر مارتن لوثر برشيد.

حادي عشر: الأقوال الشاذة سبب لانحراف الطائرة وليست إبداعا:

1-إن الأقوال الشاذة في الدِّين كإباحة الفائدة البنكية، أو الغلو في الدين بتكفير المسلم بلا موجب شرعي، أو التحلل من الدين والحدود الشرعية الثابتة بالإجماع، فهذه كلها أقوال منكرة في الدين، اصطدمت مع قواعد الاجتهاد وأساسياته، ولا يجوز اعتبارها ضمن دائرة الصواب بأجرين أو الخطأ بأجر واحد، بل هي انحراف بمسيرة الطائرة عن قواعد الطيران ومسلماته.

2-والذين رضوا بأن يركبوا في هذه الطائرة، التي تقمّص فيها الحكواتية قميص النظر والاجتهاد، ولبس تلاميذ المستشرقين لَبوس أئمة الدين، فهؤلاء جميعا ليسوا معذورين فيما ذهبوا إليه، كإنكارهم حجية السنة، وإنكارهم حجية الإجماع، وطعنوا في عدالة الصحابة رضي الله عنهم، أو عارضوا النصوص الشرعية بالمزاج الشخصي، وسمَّوْا مزاجهم هذا عقلا، ومن رضي بقولهم فهو مثلهم، فقد تشابهت قلوبهم.

3-وهؤلاء جميعا بعد أن انحرفوا عن الصراط المستقيم، فإن مصيرهم- إن لم يتوبوا- هو أن تخطفهم الطير، أو تهوي بهم الريح في واد سحيق، جزاء وفاقا لما اقترفته أيديهم من مخالفة أصول الشريعة وقواعدها بأمزجتهم الخاصة التي سمَّوْها عقلا، افتراء على قطعيات العقل الإنساني.

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

الجمعة المباركة في عمان المحروسة

23-6-2017

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top