ثنائية الاستبداد والديمقراطية والخيار الثالث مركزية الأمة
(عندما يأتيك الربيع في الخريف)
1-حلول تبحث عن مشاكل:
أكدت مرارا خطورة تناقض ثنائيات القطيعة في الحداثة، وأن هذه الثنائيات لا يُتصور وجودها في الإسلام كما بينتُ في ثنائية الأقلية والأكثرية سابقا أنها غير موجودة في مجتمنا إنما هي مشكلة مستوردة من أمراض أوروبا العجوز وتاريخها المظلم، وقد ذكرتُ الموانع من تصور هذه التناقضات في المجتمع الإسلامي، وأكدت أن الحداثة تجدد ثنائيات القطيعة وتضخمها ولا تزيلها، وأنها تبحث عن مشكلات لحلولها الخرقاء، فقد نقَلَتْ المجتمعات الأوروبية من ثنائية القيصرية والملكيات المطلقة ثم إلى حكم الديمقراطية وحكم الشعب، ثم تجديد استبداد من نوع آخر، وهو الرق المالي وحكم الشركات ، وهو أسوأ من الاستبداد السياسي.
2- التحذير من الاستبداد الجديد:
فقد اخترعَت الحداثة استبدادا جديدا هو الاستبداد الرأسمالي حيث يتولى رجال الأعمال مهمة أهل الحل والعقد، وتشريع الأحكام في البرلمان سواء بالأصالة أو بالوكالة ممن يقبضون شيكاتهم على موائد رأس المال، ثم بعد ذلك لن ينفع فصل السلطات في شئ مادامت نزاهة القاضي هي في الإخلاص لتطبيق إرادة الشركات، وأن الدولة أصبحت سلطة خادمة للشركة، فنقَلت الحداثة أوروبا من الاستبداد السياسي ولصوصية رجال الدين بالسر المقدس، إلى سطوة رجال الأعمال بحكم القانون، أما الشعب فهو من مَوالي الشركة وعتقاء الصناعة، ومهمته هي التقسيط حتى الموت.
3-الربيع العربي يأتيك في الخريف:
أ-ستسمع كثيرا عن الخلاف السياسي والإعلامي حول الربيع العربي بين مادح وقادح، وقد تغفل عن تسميته ربيعا دون نقد لهذا الاسم، ذلك لأن الربيع الذي هو حالة ثورية مختلطة بين الجهاد والثورية الاشتراكية والديمقراطية الغربية، والمقاومة المسلحة والحركة العنيفة، فهذا تقليد لتاريخ أوروبا مع طلاء إسلامي في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وابحث عن أصل مفردة الربيع لتعلم حجم هيمنة الحداثة على مستوى أنماط التفكير والتفكير الديني المطبع مع الحداثة.
ب- وإن أقصى نجاح دعاة الربيع في الخريف هو تحقيق الحرية السياسية مع الاستبداد المالي، وهو تكرار لفساد الغرب على أشلاء ضحايا المسلمين، هذا لو نجح دعاة الربيع في الخريف إلى غايتهم وهو الحرية السياسية في الجعجعة مع مصيبة نهب رجال الأعمال لجيوب الناس، في زمان يصبج فيه شعار الإنسان عُضَّ قلبي ولا تَعُض رغيفي، وهي مركزية السلطة في الجماعات الدينية في توظيف النص للسلطة أو ضدها، بعيدا عن مركزية الأمة والشريعة.
4-التجديد الديني بلا جديد والقتال على ظهور المتشابهات:
أ-التوفيق والتلفيق والتفريق:
لم تُعط مطبعة نابليون فرصة للاجتهاد الفقهي، وإن شئت ضمُرَت الملكات المستمرة في البناء على المذاهب المتبوعة، فقد تحول الأمر إلى جماعات المثقفين الذين يخلطون فكر مطبعة نابليون في الديمقراطية بالتاريخ الإسلامي ثم يقاتلون على ظهور المتشابهات في النص الديني لتبرير الواقع الجديد، أو للهروب منه نحو التاريخ، وكلاهما لا يجُوزان على الاجتهاد الفقهي .
ب-تواطؤ الفكر الاعتزالي في الإمامة مع المذهب الطبيعي الحداثي في إسقاط الخلافة العثمانية:
أصبحت الخلافة العثمانية بين بطش الفكر الأوروبي في عدم شرعية الخليفة العثماني المتغلب وضرورة حكم الدستور واختيار الشعب، وبين الغثاء الفكري الواقع تحت ثنائية الحداثة في الاستبداد أو حكم الشعب، وإسقاط الخلافة، مستفيدين من الفكر الاعتزالي للباطني جمال الدين الأفغاني ومن على طريقته، في أن الإمام إذا سقطت عدالته سقطت ولايته، ناهيك عن الأقوال في تكفير المسلمين بالحاكمية والولاء والبراء وتوحيد العبادة وهي أقوال محدثة مستمرة على أصول الاعتزال وهي اليوم تسعى لإسقاط الدولة القطرية في ثنائية الولاء والمعارضة، والاستبداد السياسي والربيع الذي يأتيك في الخريف.
5-الخلاصة: بطلان ثنائية الاستبداد وحكم الشعب وصحة مركزية الأمة والشريعة:
إن ثنائية الاستبداد السياسي وحكم الشعب هي تقليد فج لتاريخ أوروبا وهو جوهر الحداثة، وإن انقسام الجماعات الدينية وحشدها أدلة الشريعة في هذه الثنائية المتناقضة كان سببا ابتداء في إسقاط مشروعية الخلافة العثمانية لأنها مستبدة، وفي توليد التناقضات داخل المجتمع الإسلامي وهدم الدولة وقتل الشعب بسبب مركزية السلطة في الجماعات الدينية، وغياب مركزية الأمة والشريعة، والواجب هو الانحياز إلى الأمة والشريعة لحماية المجتمع من تناقضات الحداثة، وتأسيس مركزية البناء بين المجتمع والدولة على قاعدة الأمة الجامعة للدولة والمجتمع، وليس ثنائية حكم الشعب والاستبداد.
الكسر في الأصول لا ينجبر
عبد ربه وأسير ذنبه
أ.د وليد مصطفى شاويش
عمان أرض الرباط
13- رمضان -1446
13-3-2025