سياسة عمر بن الخطاب في تحقيق عدالة الاستثمار بين الرعية والدولة
(هل كان للصحابة مذهب فقهي)
تمهيد: هل المذاهب المتبوعة طارئة بعد الصحابة أم هي فقه الصحابة:
أ-تناقضات في الفكر الديني المعاصر:
تحاول هذه المقالة مناقشة الذين وُلدوا في تيه الفكر الإسلامي الذي حل مكان الاجتهاد الفقهي، وفي غربة الشريعة في زمن العدمية واللاأدرية الدينية التي اخترعها عديم المذهب، وأوقع الأمة في كل هذا الفساد الفكري في الاضطراب في الكفر والإيمان، والسنة والبدعة، بسبب تأثيرات الحداثة في إعادة النظر في النص الديني وتجاوز المذاهب المتبوعة، وما نشأ عنهما من إيقاع الجمهور في الحَيرة والشك، فيصبح السؤال الذي كان مضحكا قبل الاستعمار سؤالا محرجا بعد وهم التجديد الديني، ويطير السؤال في الآفاق حاصدا العقول التي ولدت في تيه الفراغ الفقهي.
ب-الأسئلة المضحكة صارت محرجة في زمن اللاأدرية الدينية:
كمن يقول لك:لو صلى الأئمة الأربعة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى أي مذهب سيصلون؟ وهل كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مذهب؟ أليست هذه المذاهب طارئة؟ هل كانت المذاهب الفقهية في عهد الصحابة؟ ولو رجع السائل إلى الدرس الأول في علم الأصول، لعلم أن فقه الصحابة هم الجيل المؤسس للمذاهب المتبوعة، كما أن كلام العرب في الجاهلية هو الأساس في مذاهب النحاة، ولم يخترع سيبيويه قواعد النحو كما أن أبا حنيفة كان مقتديا ولم يخترع من عنده.
ج-الدعاة الجدد وظاهرة الفصل بين الفقه والمجتمع:
وإن كانت الدول الحديثة فصلت بين السياسة والدين، فإن الدعاة الجدد فصلوا بين الفقه والمجتمع، واستَولَدوا من الأمَةَ ربتها، واخترعوا أوهاما تشبه الدين فضلوا وأضلوا، واضطربوا في الكفر والإيمان والسنة والبدعة والحلال والحرام، ومنهم الذين طاروا مع خطاب السعادة كل مطار، وهذه المقالة جاءت لتوضح مثالا تطبيقيا على صحة نسبة المذاهب المتبوعة للسلف، خلافا لما يزعمه عديم المذهب.
1-مرجعية الإمامة العظمى في مراجعة التصرفات المالية للولاة:
أقرض أبو موسى الأشعري مالا لعبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا، يتَّجِران به في الطريق، ثم يسلمان رأس المال لعمر في المدينة والربح لهما، ولما وصلا نقض عمر رضي الله عنه عقد القرض الذي أبرمه أبو موسى الأشعري، وصححه قراضا(مضاربة)، نصف الربح لولديه، والنصف الآخر لبيت مال المسلمين.
2-تصحيح العقد باعتباره قراضا ونقض كونه قرضا:
وصحح عمر العقد باعتباره قراضا (مضاربة) لأن عمر هو المرجعية العليا وممثل الإمامة العظمى، وصاحب الصلاحية في النظر الشرعي العام في قرار أبي موسى، واعتبر عمر المال ونصف ربحه لخزينة مال المسلمين، لأن القرض لم يكن فيه المساواة بين ولَدَيّ عمر مع بقية المسلمين، وصحح نصف الربح لِولَدَيه، لأنهما عمِلا في المال بوجه مشروع وهو التجارة، والعدل لا يجيز أن يضيع عملهما، وما حصل لهما من ربح، لا سيما أنهما اتجرا بإذن والي عمر على العراق وهو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه.
3-تصحيح العقد باعتباره قرضا ونقض كونه قراضا:
وبناء على أن المال قرض، فكان ينبغي أن يكون الربح كلُّه لولدَي عمر، لأن المال مضمون في ذمتهما بناء على قاعدة الخراج بالضمان بحكم عقد القرض، فيكون الربح فيه كله للمقترض وهما عبيد الله وعبد الله ابنا عمر وعليهما الخسارة، فكان لهما حق في الربح من هذه الجهة، ولو أنهما خسرا المال لضمنهما المال كله بناء على أصل أنه قرض، ولو اعتبره قراضا لم يَجُز أن يُضِّمنهما، لأن العامل في القراض مُصدَّق ويده يد أمانة، ومع ذلك راعى عمر رضي الله عنه أصل القراض في الربح لمراعاة وجه القراض، فقد أَعْمَل الأصلين معا وهما القرض والقراض، كُلاًّ في وجه من وجوهه، ونفاه من وجه آخر.
4-الدليل من السنة على إثبات حكمين باعتبار أصلين مختلفين:
تخاصم عتبة بن أبي وقاص في نسب مولود مع أخ سودة بنت زمعة زوجة النبي رسول الله صلى عليه فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الولد ابن أخ سودة وهي عمته، ولما رأى للمولود شبها بعتبة بن أبي وقاص، أمر عمته سودة بالاحتجاب من المولود مراعاة لشبهه بعتبة، فهي عمته من وجه، وأمرها بالاحتجاب منه مراعاة لشبهه بالمدعي وهو عتبة، وهذه هي مراعاة الأصول في النسب شرعا، ومراعاة أيضا للطبع والعادة في المشابهة، وهذا هو الاحتياط في الدين ومراعاة أصلين مختلفين في ثمرة الأحكام.
5-تسعة أعشار مذهب مالك الاستحسان:
وهذا هو الاستحسان الذي هو تسعة أعشار مذهب إمامنا مالك، والاستحسان عنده هو الترجيح بين الدليلين باعتبار محل الحكم، فالقرض راجح باعتبار، والقراض (المضاربة) راجح باعتبار آخر، فأعمل القرض من وجه، ورده من وجه آخر، وأعمل القراض من وجه آخر، ولو خسر ولداه رأس مال القرض لضمنهم بموجب عقد القرض وهكذا هو الشأن في أرض سواد العراق وسهم المؤلفة قلوبهم، وهذا هو الفقه حقا، ذلك الفقه القادر على أن يستوعب الدولة والتجارة، ويحفظ قواعد الشريعة مصونة معظمة.
6-المذاهب المتبوعة هي المؤتمن على ذاكرة السلف:
هذا غيض من فيض في فقه السلف والأئمة المقتدى بهم، إعمال أصول الشريعة جميعا، وهذا الأمر لا يؤتاه إلى مجتهد ذو عظيم عاصر النبوة وشرب منها حتى تضلع كعمر في مثالنا اليوم، وكان مالك مؤتمنا على فقه أهل المدينة وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه، ثم ورث تلاميذ مالك عنه جيلا بعد جيل، وحرسوا الأمانة وأدوها حق الأداء، فليس السلف تجارة في سوق الإعلام، وخطاب أغلبية لإثارة حماس الجمهور، حيث تتعاظم الألقاب وتتضاءل الحقائق كما هو حال هذا الزمان، في ابتذال فقه السلف، وتحويل السلف إلى حالة خطابية خالية من الحقيقة.
7-الخلاصة:
أ-النبوة أصل والسلف فرع ومالك تابع لهم بإحسان:
إن الأصل الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات نسب ابن أخ سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرها بالاحتجاب منه بناء على أصل آخر، هو عين الأصل الذي بنى عليه عمر بن الخطاب تنصيف الربح في تجارة ولديه في مال المسلمين بناء على مراعاة أصلين، أصل القرض وأصل القراض، وفقه عمر هذا هو أصل الاستحسان عند مالك الذي هو تسعة أعشار مذهبه.
ب-ما في مذهبنا هو في المذاهب المتبوعة الأخرى:
وما قلته في مذهبنا حاصل أيضا في المذاهب الثلاثة الأخرى المتبوعة في كونها هي المؤتمن على ذاكرة السلف في الشام والعراق ومصر، وبناء عليه فإن حالة عديم المذهب هي مرادفة لعديم السلف، وإنما يعيش عديم المذهب كهفا خاصا به، يجعل المتشابهات محكمات، ويغبر بها وجوه العامة، ويحول دونهم ودون الحقيقة، ثم ينقض المحكمات بتلك المتشابهات، ويوهم الناس أنه قابض على السنة، وما هو إلا كقابض على الماء خانته فروج الأصابع، ولا يصلُح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما لم يكن دينا يومئذ فلن يكون اليوم دينا.
*ملحق: نص الروايات كما في الموطأ:
1-رواية أبي موسى مع ولدي عمر رضي الله عنهما:
(مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري، وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل، ثم قال لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال فلما قدما باعا فأربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا فقال عمر بن الخطاب ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص المال أو هلك لضمناه فقال عمر أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا فقال عمر قد جعلته قراضا فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال).
2-رواية مراعاة الخلاف في نسب ابن أخ سودة وأمرهما بالاحتجاب منه:
القضاء بإلحاق الولد بأبيه (ص) : (قال يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – أنها قالت «كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك قالت فلما كان عام الفتح أخذه سعد. وقال ابن أخي قد كان عهد إلي فيه فقام إليه عبد بن زمعة وقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه. وقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: هو لك يا عبد بن زمعة ثم قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص قالت فما رآها حتى لقي الله)
أصول الاجتهاد، مراعاة الخلاف، الاستحسان عند المالكية، مذهب الصحابة، أصول الإفتاء، السياسة الشرعية، عديم المذهب، مسائل الإمامة، هل كان للصحابي مذهب، المذاهب المتبوعة،
المحجة البيضاء
الكسر في الأصول لا ينجبر
عبد ربه وأسير ذنبه
أ.د وليد مصطفى شاويش
عَمَّان/ الرباط
4-ربيع-1446
8-9-2024