1-الفتاوى الشاذة حقها الإنكار وليس الاعتبار:
إن الفتاوى الشاذة تنتهي إلى الانحلال من الشريعة، كفتاوى الغلو في تكفير أهل الشهادتين، أو الزعم بنجاة من جحد الرسالة المحمدية مع بلوغها صحيحة، والقول بفناء النار ، وكلاهما الغلاة والجفاة يصدرون عن طريقة واحدة في التفكير وهي إعادة النظر في النص وتجاوز المذاهب المتبوعة، والعيش في وهم التجديد بلا جديد، مما أدى إلى ظهور شريعة وهمية، وزيف مقدس، يشبه الشريعة ولكنه ليس منها، فهذه الأقوال الباطلة لا يجوز ذكرها على سبيل الاعتبار بل تذكر على سبيل الإنكار، ويجب التحذير منها، ولا يصح أن تسمى ترجيحا، لأن شرط الترجيح التساوي بين الدليلين في نفي أحدهما ما يثبته الآخر، وذلك التساوي والترجيح منضبط في المذاهب المتبوعة، بخلاف الأقوال المنكرة والشاذة، التي يسوق لها دعاة المتشابه.
2-الترجيح فرع التساوي بين الأدلة:
لا ترجيح بين القطعي والظني، ولا بين الرخصة والعزيمة، ولا بين العام والخاص والمطلق والمقيد، ذلك لأن الظني لا يرفع حكم القطعي، والعزيمة تبيح الرخصة كالفطر في رمضان للمريض، مع بقاء العزيمة في الأمر بالصيام، والخاص يخرج بعض أفراد العام، ولا يرفع حكم العام فيما بقي من الأفراد، والمقيد يعين الفرد الشائع في المطلق، فهذه الأدلة لا يحصل بينها التساوي في النفي والإثبات، ولا يرفع أحدهما حكم الآخر، فلا ترجيح بينها أصلا.
3-لا يجوز إنكار القول المرجوح:
على فرض حصول التساوي بين الدليلين وتعذر الجمع عند المجتهد، واضطر لمسلك الترجيح وهو تعيين أحد الدليلين، ويعين الراجح منهما، فلا يجوز للمجتهد أن يطعن في القول المرجوح، لأن المجتهد لم يرجح الراجح إلا بعد اعتقاده التساوي بين الدليلن، وطعنه في القول المرجوح الثابت بالدليل المرجوح تناقض مع اعتقاده التساوي الذي هو شرط الترجيح، وهذا الطعن لا يتصور من المجتهد، بل قد يتصور من بعض المقلدة الذين لم يفقهوا اجتهاد إمامهم في الترجيح، فيكون طعنهم في القول المرجوح هو طعن في الدليل المرجوح المساوي ابتداء للدليل الراجح في نظر المجتهد.
4-الفكر الديني المعاصر ينكر على القول المرجوح:
يسلك الفكر الديني المعاصر مسالك الإبطال في غير موضع الترجيح أصلا، فهو لا يميز بين المذاهب المتبوعة والدليل من الكتاب والسنة، فهو يظن اجتهاد الفقهاء الذي هو استدلال يساوي الدليل من الكتاب والسنة، فيبطل الاجتهاد الذي عليه عمل الأمة لأنه يخالف الكتاب والسنة بزعمه، ويسلك مسلك الترجيح في غير موضعه، ثم يزيد الطين بلة والمريض علة، ويبطل الاستدلال ويرجح الدليل، فيصبح الدليل من غير استدلال، والاستدلال من غير دليل، ويفرق بين رسل الله وعلماء الرسالة، فلا يبقى عندئذ دليل ولا مدلول، وهو جوهر تفكيك الشريعة بعزل مدلولها عن دليلها، بسبب سلوك مسلك الترجيح في غير محله، ثم الإبطال.
5-العدمية الدينية هي النتيجة:
إن التفريق بين الله ورسله، فيؤمن أحدهم بالكتاب ولا يؤمن بالسنة، فهذه ظاهرة مكشوفة الضلالة، ولكن الفتنة هي فيما يخفى، وهي التفريق بين المجتهدين وأدلة الشريعة، وأن المجتهدين ليسوا معصومين، وأن العصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُلبَّس بذلك على العامة، مع أن المجتهدين هم دليل إجمالي لغيرهم من الناس، وأن الكتاب والسنة هما أدلة المجتهدين في الاستنباط ولَيسا من أدلة العامة، لأن الله جعل أمانة الاستنباط في رقاب المجتهدين لقوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ)، (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
6-حلول التنحيت محل الأئمة:
التنحيت: هو أن ينحت العامي دليلا دينيا لنفسه، مع أنه ليس أهلا للاستنباط منها،وبسبب اختراع النحِّيت الصدام المفتعل بين المذاهب المتبوعة التي هي استدلال مع نصوص الكتاب والسنة التي هي الدليل، وسلوك النحِّيت مسلك الإبطال، تهادمت الشريعة من داخلها، واعترض العامة على الأئمة، وصار العامة ينحتون دينا جديدا بمتشابهات وهمية، ويضعونها على ألسنة السلف وأئمة الدين، واتخذوا من الأقوال الشاذة وزلات العلماء والمتشابهات بضاعة لهم، وأبطلوا الشريعة بوهم الشريعة، وظنوا أن من حقهم الاعتراض مع أن حقهم السؤال.
-وظاهرة التنحيت هي حالة من انتفاخ التدين، ظاهره التنسك بالشريعة، وباطنه الانحلال منها، وتشابهت الشريعة على الناس، وكان التنحيت الذي انشق عن الجماعة يحمل في طياته بذرة الردة عن التنحيت إلى تنحيت آخر، وانقلب التنحيت على التنحيت، وصار العامة مخيرون بين التنحيت والتنحيت الآخر، وصارت الشريعة ضربا من الرأي العام القابل للتحول في أي لحظة، حتى في الكفر والإيمان والسنة والبدعة، وصدق من قال في علامات الساعة: أن تلد الأمة ربتها.
7-قواعد الترجيح أم فكر الأولويات:
نتيجة لظاهر ة إعادة تفسير النص الديني في الفكر المعاصر، نشأ بديل هش لقواعد الترجيح، وهو ما يسمى فقه الأولويات الذي يخدم الحزب والجماعة والرؤى الدينية على مستوى الفئة والجماعة والشخص، أو حلول ما يسمى بفقه الواقع، بدلا من تحقيق المناط، حيث نهجت الجماعات الدينية طريقة أحادية في تفسير الشريعة وجعل رؤية الجماعة أو السلطة قيودا على الشريعة، وقد مكنها من ذلك استبعاد المقابل الشرعي الذي تمت إزاحته مثل، قواعد الترجيح، وتحقيق المناط، وإحلال ما سمي بفقه الأولويات وفقه الواقع، وهذا كله إمعان في العزلة عن الشريعة الأصل، وإحلال شريعة وهمية هي الربة المزيفة التي نسلت من خيوط الشريعة الأصل، حقا ولدت الأمة ربتها.
الطريق إلى السنة إجباري
الكسر في الأصول لا يَنْجبِر
عبد ربه وأسير ذنبه
أ.د وليد مصطفى شاويش
عَمان الرباط
16-رمضان-1445
27-3-2024