لا أعجب من الجسد بل من (نفس وما سواها)
*سهل أن تفهم جسد الإنسان بأعراضه وأمراضه، فهذه أمور مصدرها التجربة، ثم تُعمِل فيها مشرط الجراحة، ولكن أين مشرط الجراحة، من أوتار القافية وسجع الكلمات على النفس في بحر لا ساحل له، وبئر لا قعر لها، تسمع النثر فيطربك سجعه العفوي، والشعرَ ووزنه غيرَ المتكلَّف، وكأن نفس الشاعر التي بثَّته لك عبر الأثير تلاقي نفسا أخرى تشترك معها في نفس الأوتار والأزمار، ولكنها تعجِز عن أوزان الشاعر ،التي تطفئ جَمْر المعنى الملتهب في حنايا القلب.
*فما قصيدة الشاعر وخطبة الخطيب إلا عَزْفا رفيقا على الألفاظ الرقيقة، ثم إرسالها دون رقابة العقل بين أوتار لها في النفس هَمْس، فتهتز النفس بِبَرد القوافي على حَرِّ المعاني، وقد كانت من قبل هائمة لا تجد مَن يطفئ ظمأها بعد قَيْظ الحياة الطويل، وأما بعد اللقاء فاهتزتت المعاني بعد خمول، وأينعت بعد ذبول، وارتوت النفس القاحلة على أوتار القافية وسجع الخطابة.
*أما إذا سمعَتْ الشيخ المنشاوي يتأوه في آيات الكتاب العزيز ، زُلزِلزت النفس زلزالها، وارتَجفَت بالحنين أوصالها، مشتاقة إلى أصل أبيها في الخلق الأول، وأيقنت أنها مسافرة إليه في قميص الجسد، ستخلعه يوم اللقاء العظيم، وتلبس قميص الجنة، حيث سكونها في موطن الوالدين الأصلي، وراحتُها السَّرمَدية، راضية مرضية في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
*هذه النفس لا يستطيع أحد أن يُلقِي القبض عليها، وإن وُضِعتْ في الحبس، فإنها تطير شرقا وغربا تبحث في الأرض وفي السماء عن سكونها، لا يضرها عَضُّ الجوع ولا حر الصيف، ولا تمنعها حدود ولا تحبسها قيود، بل هي مُرسَلة من الله، لا سلطان لأحد عليها، ولما كانت حرة مطلقة لا تقبل التقييد والعبودية إلا مختارة راضية، صح أن تكون مناطا للتكاليف الإلهية، فسبحان من أقسم (وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا)، والإلهام لا يجبرها، ولا يخرجها من القدرة الإلهية، ولا عزاء لجبرية الجِينات، ولا لِقَدَرية هايدغر.
علم النفس الإسلامي، الجبرية، القدرية، الإسلام والشعر، فن الخطابة، الإيمان بالقدر
الروح المسافرة
عبد ربه وأسير ذنبه
أ.د وليد مصطفى شاويش
عَمَّان الرباط
18-ذي القعدة-1445
26-5-2024