ملاحظة: لا بد من التفريق بين الأقوال المأثورة المنقطعة السند في التحرير والرواية في الفقه المقارن، التي لا تعتبر فتاوى لأصحابها من الناحية الفقهية، وبين خطاب الفتاوى الشاذة في المجتمع، المصادمة لأصول الفتوى.
تمهيد:
لا زلت أتابع منحنى التحلل الهاوي بسرعة ذات الشمال، ولاحظت أن الحديث والمناقشة في ذات المسألة أمر عَسِر، ولا يمكن أن تخرج مع التحلل بنتيجة حاسمة، بسبب طرح الشكوك والاحتمالات على الأدلة الشرعية، ومن ذلك: القول بأن دعوى وجوب غسل الرجلين إذا نزع خفيه أو جوربيه الصالحين للمسح لا دليل عليها، ولعل سبب ذلك هو عدم وضوح مفهوم الدليل الشرعي، وهو أمر مشترك بين الغلو والتحلل، وغالبا ما يظن الاتجاه المتحلل أو المغالي أن الدليل هو ما يستفاد من ظاهر النص، على خلاف ما جاء في الكتاب العزيز في قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83]، ومعلوم أن الاستنباط يكون باستخراج معنى من محلٍّ خفي، لا يحسنه العامة، ولكن يحسنه أئمة الاجتهاد كأئمة مدارس فقه السلف الأربع المجمع عليها، والمشهود لأئمتها بعلو كعبهم في مجال الاستنباط من النص والقياس عليه.
أولا: وجوب غسل الرجلين إذا مسح على الخفين ثم نزعهما:
1-اتفقت المدارس الأربع على بطلان صلاة من نزع خفيه ولم يغسل قدميه، إن كان مسح عليهما سابقا، لأنه مصل بلا وضوء، في مذهب الإمام أحمد، لأن وضوءه انتقض بمجرد النزع، وعليه أن يبتديء وضوءا جديدا للصلاة، أما الجمهور فقد أوجبوا غسل القدمين بعد النزع على تفاصيل، ليس هنا محل بسطها، وإنما تبسط في دروس الفقه المعمَّقة، مما يعني أن من نزع الخفين أو الجوربين الصالحين للمسح، دون غسل قدميه أنه مُصَلٍّ بلا وضوء، باتفاق المدارس الفقهية الأربع التي هي جذع الفقه الإسلامي.
2-ولكن المشكلة أن الأفراد الذين يفتون الناس بعدم وجوب غسل القدمين يزعمون بأن هذه المدارس العلمية لا دليل لها فيما ذهبت إليه، وهذا الوهم منهم جار على طريقتهم في فهم الدليل الشرعي وهو ظاهر النص بادي الرأي، وأبى هؤلاء الأفراد أن يردوا الأمر إلى جهابذة الاجتهاد الذين يستنبطونه منهم، ولكن هل فعلا لا يوجد دليل عند السلف على ما ذهبوا إليه من وجوب غسل القدمين عند نزع الخفين؟
ثانيا: أدلة وجوب غسل القدمين إذا مسح على خفيه ثم نزعهما:
بما أن الدعوى أنه لا دليل لفقهاء السلف فيما ذهبوا إليه، فإنه يكفي دليل واحد لدحض هذه الدعوى، ولكن بما أن الأمر ليس في النقاش الفقهي أصلا، إنما هو في حالة التحلل التي أصبحت نمطية في مسائل الشرعية بصفة عامة، كما ذكرت سابقا في الموسيقى، وها أتكلم عن التحلل في عمود الإسلام، وهو الصلاة والطهارة لها، وإليك بعضا من أدلة الجمهور:
1-الغسل أصل والمسح بدل:
معلوم أن المسح على الخفين بدل عن الغسل وهو رخصة للتخفيف والتيسير ونفي الحرج عن هذه الأمة، وإذا نزع خفه لم يعد ماسحا عليه، وانتقض وضوؤه عند الإمام أحمد وذهب الجمهور إلى وجوب الأصل لزوال البدل، فقد زال البدل وهو المسح على الخفين بنزعهما، فلا بد من غسل القدمين عندئذ.
2-الوضوء إما غسل أو مسح:
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن الوضوء، ومن أركانه غسل الرجلين أو مسح على الخف في آية الوضوء في سورة المائدة، ونازع الخف لم يعد ماسحا، وإن لم يغسل قدميه يكون قد صلى بلا وضوء لأنه لم يغسل قدميه، وعلى هذا اتفقت مدارس فقه السلف الأربع.
3-قاعدة الشك لا تناط به الرخص:
إن الرخص جاءت على خلاف الأصل، وهي تخفيف من ربنا، والتوسُّع في محلها هو اعتداء على العزائم وإلغاء للأحكام الأصلية، فكما أن نزع الخف دون غسل القدمين، هو شك في أن تكون الصلاة بلا وضوء، وتضيــــيعٌ للحكم الأصلي، أوجب فقهاء السلف غسل القدمين إذا نزع خفيه بعد مسحه عليهما، لأن الشك لا تناط به الرخص، لأنه محتمل أنه يصلي بلا وضوء.
ثالثا: عذْر القائلين بعدم وجوب الغسل إذا نزع خفيه:
زعم الأفراد الذين يفتون بعدم وجوب الغسل إذا نزع خفيه أنه لا دليل لمدارس فقه السلف على وجوب الغسل وقد رأيت ما ذكرته من بعض أدلتهم، مع العلم بأن هذه المدارس هي اجتهاد جماعي متصل السند بالدراية عن الصحابة رضي الله عنهم، على خلاف النظر الفردي في الأدلة، وكان رأيهم أن نزع الخف هو مثل حلق اللحية، أو قص الأظافر، فكما أنه-في زعمهم- لا يجب غسل الوجه إذا حلق لحيته، ولا غسل اليدين أو الرجلين إذا قص أظافره، فإنه لا يجب عليه غسل رجليه إذا نزع خفيه، فأفتوا بمجرد المشابهة في وجه ما في مسألة عبادية، وهذا من سمات أنماط التحلل بمجرد رؤية وجه شبه هنا أو هناك، وهذا شأن الذين قالوا إنما البيع مثل الربا لأدنى مشابهة بين ربح البيع والربا المحرم لأن كلا منهما زيادة على رأس المال.
رابعا: وإن تعجب فعَجَب قياسهم:
1-وددت لو تساءل المفتون بعدم وجوب الغسل إذا نزع خفيه، هل الأئمة الذين قالوا بوجوب غسل القدمين إذا نزع خفيه، بوجوب غسل الوجه إذا حلق لحيته، وغسل الرجلين إذا قص أظافرهما، لم يقل هؤلاء الأئمة بذلك قطعا، وهم أصحاب القِدْح المعَلَّى في القياس والنظر، فليس تغرهم أشباه طردية كتشبيه الخف في الرِّجل باللِّحية في الوجه، فلا تأثير لهذا الشبه في أحكام الشريع، ولا تدخل في باب القياس أصلا لا قياس الشبه، ولا قياس العلة، ولا قياس اللغة، إنما هي شبهة لا يكشفها إلا عرانين الفقه وجهابذة القياس في مدارس الفقه المتبوعة.
2-إذن يلاحظ القاريء أن الذين أجازوا الصلاة دون غسل القدمين لمن مسح على خفيه ثم نزعهما، أنهم استدلوا بوجه شَبَه ضعيف في قياس شبه هو ضعيف أصلا، وهجروا الأدلة الشرعية في مدارس فقه السلف الأربع المتبوعة، وليتهم اكتفوا بذلك بل زادوا الطين بِلَّة والمريض عِلَّة عندما قالوا: إن فقهاء السلف لا دليل لهم، وإن كان فقهاء السلف الذي تشرفوا بسند الدراية المتصل بالصحابة لا دليل لهم، فهل للذين أباحوا للناس الصلاة بلا غَسل ولا مسح لهم أدلة؟!
خامسا: المسح على الخفين وغسل الرجلين من علامات أهل السنة والجماعة:
1-إن مما حبا الله تعالى به هذه الأمة، رخصة المسح على الخفين، وقد أنكر هذه الرخصة الخوارج والشيعة، أما الأمة التي تابعت نبيها وأخذت دينها بسندها المتصل بالصحابة -رضي الله عنهم، أخذت برخصة الله في المسح على الخفين، وعزيمة الغسل للرجلين، وهو تأويلهم لقراءتي النصب والكسر في قوله تعالى في آية الوضوء (وأرجلَـِكم إلى الكعبين) أي فاغسلوا أرجلكم على النصب، وامسحوا بأرجلكم إذا لبستم الخف على قراءة الكسر، فشذَّ الشيعة، وبدلوا نعمة الله عُسْرا، ومسحوا على أرجلهم دون خف، لأن المحروم من حُرم السنة، وشاقوا الله ورسوله في ذلك، بمخالفة السنة.
2-ولكن مع الأسف إن كان الشيعة قد مسحوا على أرجلهم، فإن التحلل في أهل السنة الذي خالف مدارس فقه السلف المتبوعة، نزع الخف ولم يغسل رجليه، وصلى بلا مسح ولا غسل، فلا تابع أهل السنة في مدارسهم العلمية، بل زاد على تحلل الشيعة بأنه لم يمسح ولم يغسل جهلا منه، بينما الشيعة يمسحون أقدامهم على مذهبهم مخالفة للسنة.
سادسا: يصلُّون بلا وضوء ثم يقولون دعَوْنا فلم يستجب لنا!
يلاحظ أن التحلل والغلو في أنماطه المختلفة، إما أنه يتجه نحو الخوارج وإما نحو الشيعة أو طائفة المرجئة أو طائفة المعتزلة، فهذه الطوائف هي مرتع التحلل والغلو في الوقت نفسه، وأن الفتوى الفردية ليست مأمونة على دين هذه الأمة، خصوصا في صلاتها التي هي خير أعمالها، وهي صلتنا مع ربنا، الذي ليس لنا ناصر إلا هو، وإن العبث بهذه الصلة هو قطع لحبل النصر من السماء، وإن صلاتنا هي وسيلتنا إلى الله، ولا يقبل الله صلاة من غير طهور، فحيثما تأخر علينا النصر، فلنعد النظر في صلاتنا، والرخصة في الدين لا تؤخذ إلا من ثقة، والفتاوى الفردية بادي الرأي، لا تعد ثقة في مجال الرخص في الدين.
سابعا: المطلوب الصراحة مع المستفتي ليس إلاّ:
وأنا أرجو من المفتين الذي يفتون بآرائهم في مثل هذه المسألة أن يكونوا صريحين مع الناس الذين يفتونهم، فيقولون للناس: اتفقت مدارس فقه السلف الأربع على وجوب غسل القدمين وذهب الإمام أحمد إلى وجوب الوضوء كاملا، ثم يقول للناس وهؤلاء الأئمة لا دليل لهم، والدليل هو عندي أنا، ولا تغسل قدميك وصلِّ ودعك من كلام أئمة السلف الأربعة، لسنا نريد أكثر من الصراحة مع الناس الذين يريدون أن يصلوا لربهم، فلعلَّ فيهم رجلا صالحا يدعوا لهذه الأمة المنكوبة فيستجيب الله له، ولكن بسبب الفتوى الشاذة صلى الناس بلا وضوء، وحرمنا من دعوات الصالحين بسبب أنماط التحلل السائدة، وكل هذا بسبب الخلط بين التيسير الشرعي والتحلل من الشرع، ويزاد على ذلك اتهام أئمة السلف بأنهم لا دليل لهم، وأن المتمسك بالسنة أصبح متشددا في نظر التحلل.
مقالة ذات علاقة: ليس حديثا في تحريم الموسيقى… بل في تساؤلات في أنماط التفكير
وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه
د. وليد مصطفى شاويش
غفر الله له ولوالديه
عمان المحروسة
9-12-2016
شيخنا
هل ورد أثر عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في عدم الغسل أو الوضوء ، وما الرد على هذا الأثر إن ورد أو ؟
بورك فيكم
الله يجزيك الخير استاذنا على التوضيح..
جزاكم الله خيرا دكتور وليد على هذا التوضيح
وأسأل الله أن يبارك في جهودكم
جزاكم الله خيرا مولانا الدكتور
جزاك الله خير الجزاء ورفع قدركم دنيا وآخرة ونفع الله بك الأمة الإسلامية
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله.