ما علاقة الغلو في الدين والتحلُّل منه بحركة بندول الساعة في الفيزياء… أعيدوها على قواعد إبراهيم

 حركة البندول

درسنا حركة البندول في الفيزياء وأن حركته ستبقى دائمة، ذلك لأن البندول عندما يذهب ذات اليمين تتشكل فيه طاقة وضع كامنة، هذه الطاقة ستعيد البندول ذات الشمال، وسيمر البندول بنقطة التوازن مارا  بين اليمين واليسار، ثم يذهب ذات اليسار للنقطة المقابلة لأقصى نقطة مقابلة لليمين، حيث تتشكل طاقة الوضع الجديدة التي سترد البندول إلى النقطة أقصى اليمين، وهكذا دواليك ستستمر هذه الحركة إلى ما لا نهاية، وكنت قد بينت سابقا أن التحلل هو مقدمة للغلو، والغلو هو مقدمة للتحلل،  إلا أن مَن يجب علي أن أجيب طلبه، سألني مزيدا من الإيضاح والربط المنطقي بين التحلل والغلو وأن كلا منهما يؤدي للآخر، وأن العلاقة بينهما هي علاقة المقدمة بالنتيجة.

تمهيد

– ميزان الشرع: إن النص الشرعي كتابا وسنة هما  نقطة التوازن في هذه الدنيا، قال تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (سورة الحديد: 25)، فقد جاءت الشريعة بنقطة التوازن في الحقوق الشرعية، بين الرجل والمرأة والأبناء، وصاحب العمل والعامل، والحاكم والمحكوم، والفرد والمجتمع، والإنسان والطبيعة، بل بين الإنسان وخالقه، فنهت عن الغلو في العبادة وأمرت بالاعتدال فيها، فليست الأحكام الشرعية سوى نقاط توازن في الحياة، كنقطة توازن البندول التي تتوسط بين أقصى الشمال وأقصى اليمين، وفي حال تثبيت البندول عند هذه النقطة، ستمنع ذهابه ذات اليمين وذات الشمال، وإلا فإن البندول سيرتد ذات اليمين بقدر انحرافه عن ذات الشمال، وسيرتد عن ذات الشمال بقدر انحرافه عن ذات اليمين.

– حالة تاريخية: قامت الكنيسة على الغلو والتشدد في أمور الحياة ونبذ مباهجها وزينتها، حيث يولد الإنسان ملوثا بالخطيئة والإثم، ونظروا للمرأة نظرة الريبة والشك، وأنها سبب من أسباب الفساد، وأن الزواج هو ارتكاس عن عالم الروح السامية في ظنهم، فكانت هذه المقالات هي طاقة وضع كامنة تحمل في ثناياها التحلل، حتى نقم الناس على الكنيسة وذهبوا أقصى الشمال، وأنكروا الدين أصلا، واعتبروا فاحشة الزنا فضيلة ردا على غلو الكنيسة، بل ذهبوا إلى إباحة الشذوذ الجنسي، كما أن ظلم إقطاع الأراضي أدى إلى ظهور أقصى الشمال وهو إقطاع الشركات العابرة للقارات، وبقيت البشرية تترنح بين الغلو والتحلل. ولكن اقتضت الرحمة الإلهية الواسعة، البعثة المحمدية بعدلها ويسرها، ونفي الحرج فيها، والعدل الإلهي الذي أنزله الله في كتابه بالميزان والحق.

أولا: التحلل من النص الشرعي ومراحله:

يمثل التحلل من النص الشرعي انحرافا عن الحق واجب البيان والتصحيح العلمي من الناحية الشرعية،  ولكن قد تكون هناك ردود أفعال بعض المسلمين غير منضبطة بالشرع، وتكون من الحمية أو نقمة على الواقع، وهذه الحمية ليست منضبطة بالنص الشرعي، بقدر ما هي نقمة على الواقع المتحلِّل، ويصبح رد فعل الناقمين أثرا للواقع، وليس أثرا للنص الشرعي وسلطان الاستدلال العلمي، ولا يخفى في ذلك غياب الانحياز للشرع الذي يمثل نقطة التوازن، ويظهر حظ النفس أكثر من حظ السنة، مع تعدد مراحل الغلو تتعدد مراحل التحلل من النص الشرعي، على النحو الآتي:

1-التحلل في النصوص الشرعية:

-أكدْتُ أن النص الشرعي من الكتاب والسنة هو نقطة التوازن التي يجب علينا الاستمساك بها، ولكن مع تفشي الثقافة اللادينية الغربية بسبب تفوقها العسكري والتقني والاقتصادي، أدى ببعض أهل العلم إلى أن ينظروا إلى بعض النصوص الشرعية الصحيحة على أنها مشكلة بالنسبة لهم، كبعض الحدود الثابتة  بالنص والإجماع، وبدأ يتعسف بتأويل بعض النصوص الشرعية إلى أن أسقطها، وشرع يضع كليات جديدة فضفاضة غير منضبطة، ترد بها تلك النصوص الشرعية، مثل الحرية والإنسانية، وتم توظيف مقاصد الشريعة بشكل تعسفي يسقط النص، تحت ضغط ثقافة الواقع، وليس تحت سلطان الاستدلالي الأصولي ومنهجيته العالية الانضباط.

– هذا التعسف مع النص نشر الارتباك حول نقطة التوازن في الحياة وهي النصوص الشرعية، فصاغ هؤلاء طريقة جديدة يتم فيها إخضاع النصوص الشرعية إلى مطرقة الواقع، ثم لف بعض النصوص الشرعية بخِرْقة حرية التعبير في الإسلام ومكانة العقل فيه حسب رؤيتهم الخاصة، حتى لا تظهر علامات العنف على النص الشرعي.

-ولم تكن خطورة هذه المقولات أنها خالفت مسألة بعينها من المسائل الثابتة بالنص والإجماع فحَسْب، بل كانت الخطورة أنها تؤسس لكليات وهمية فضفاضة شبيهة لكليات الشريعة العقلية والنقلية، ولكنها ليست من الشريعة في شيء، مثال هذه الكليات الفضفاضة بلغة إنشائية: الحرية وكرامة الإنسان، ومقاصد الشريعة من غير ضوابطها المعلومة، بل هي كلي تشبيهي غير حقيقي، يؤسس إلى طريقة ستصبح عامة فيما بعد، تطرَح بها النصوص الشرعية في رتبة الإجماع، فما بالك بالأحكام التي هي دون رتبة الإجماع، فتصبح أولى بالإسقاط بتلك الكليات الوهمية،  وما طُبق على نص واحد يطبق على بقية النصوص الشرعية،  ويتم بعد ذلك ضرب نصوص الشريعة بعضها ببعض.

2-التحلل الشامل من نصوص الشريعة:

-والتحلل من هذه الفئة ظاهره سِلْمي، وهي تزيد على الطريقة السابقة في أنها تضع كليا واحدا لهدْم الشريعة، تزعم تاريخانية النص الشرعي وقصره على مناسبته التي ورد عليها في التاريخ، أو تخصيصها ونسخها بالعقل وفرض الغموض والشك عليها وعلى مصادرها، وبعد ذلك يزعمون أن لهم أن ينظروا في أمر الشرع كما يرون، لأن الشريعة لا تتناول هذا الواقع الذي نعيشه اليوم إلا وفق رؤيتهم الاستبدادية بالنص، وهنا تقوم هذه الفكرة الناعمة على لف النص الشرعي كله  في خِرقة حرير لإخفاء آثار العنف على الشريعة، ثم تشييع الكتاب والسنة إلى الرفّ في جنازة مهِيبة عظيمة، ظاهرها تقديس الشرع وباطنه هَدْره.

– وبعد تحويل الإسلام إلى حالة تاريخية لم يعد هناك نقطة توازن في الأرض، ويتهارج الناس في اختلافهم في الحقوق ويضطربون فيها، بسبب تعطيل الوحي، ولم يعد شيء يرجعون إليه ليحكم بينهم بعد التخلي عن الشرع، وتصبح السيادة عندئذ للأقوى، والأكثر مالا والأعز نفرا ، وذلك  بسبب التضحية بميزان الحقوق الإلهي الماثل في النصوص الشرعية، أما الضعفاء فعليهم الانصياع لشريعة القوة، وليس لقوة الشريعة، مما أدى إلى نشر الظلم وردود الأفعال عليه، وأدى إلى اضطراب المعرفة البشرية في مجال الفكر والسلوك.

3-التحلل المتوحش من نصوص الشريعة:

يقوم هذا التحلل على العنف، فيأتي إلى نصوص الشريعة ويقوم بطحنها وتكسيرها ثم يضعها على رف النسيان، ويتهمها بالجهل، وغالبا يلجأ الملحدون الأذكياء إلى التحلل ظاهرها السلمي في المرحلة السابقة، لأنه غير مكلِف لهم ولا يستفز مشاعر الضحايا بل يستدرجهم بخطوات مدروسة، عبر التعليم اللاديني، والدس في التاريخ، وإثارة شبهات الإلحاد حول مصادر الشريعة كالكتاب والسنة، وذلك من باب الرأي والرأي الآخر وحرية التعبير، ويخدم في هذا الاتجاه العديد من العصاة الجدد من مقلِّدة المستشرقين، وهذا مفيد مع الضحايا وله نتائج أفضل من التحلل المتوحش، الذي يحارب الحجاب والقرآن والسنة مباشرة ، ويستفز مشاعرهم الإيمانية، ويستخدم العنف المادي عند القدرة، وهنا تظهر حالة من الصدام العنيف بين الشعوب الإسلامية وقوى التحلل المتوحش، ويؤدي ذلك إلى حالة اضطراب، وعدم استقرار في المجتمعات الإسلامية.

ثانيا: الغلو في النص الشرعي:

1-الغلو في بعض النصوص الشرعية:

-وردت آيات كريمة وأحاديث شريفة تثبت الكفر في ظاهرها، ويحتمل الكفر فيها معنى كفر النعمة غير المخرج من الإسلام، وكفر الملة المخرج من الإسلام، ولكن حملها الغلاة على كفر الملة، مع أن مدارس فقه السلف حملتها على كفر النعمة غير المخرج من الملة، وساعد على هذا الغلو هِجْران مدارس فقه السلف الأربع المتبوعة، وتتبع روايات شاذة هجرها جمهور الأمة، وفشى الشذوذ في الفتيا، والحالة الفردية في التدين، وأصبحت الفتوى تقترب من وجهة النظر الخاصة في الدليل الشرعي، وليست نابعة عن استدلال علمي عميق.

-وأدى هذا الغلو إلى هجر نصوص شرعية صحيحة أخرى مُثبتة للإيمان، مما يعني أن التحلل من النص الشرعي لم يكن خالصا في قوى التحلل فقط، بل إن قوى التحلل اتفقت مع قوى الغلو في هجر النصوص المحكَمة  التي يجب حمل النص المتشابه (المحتمِل لعدة معانٍ) للكفر والإسلام عليها لأنها واضحة، وقد أشرت إلى نماذج من ذلك في العديد من الحواريات والمقالات، فلا حاجة للإطالة هنا، ولكن هذه المرحلة هي ممهدة للمرحلة الآتية، وهي تقابل المرحلة الأولى من مراحل التحلل من السّنة.

2-الغلو الشامل في نصوص الشريعة:

لا يحسبن أحد أن الغلو في الشريعة يعني التمسك بها، بل هو التحلل منها بعينه، فمن المسلمين من غلا في تطبيق ظاهر آيات الحكم بغير ما أنزل الله تعالى والولاء والبراء، دون الرجوع لفقه السلف،  فأنزل آيات الكافرين على المسلمين بصفة عامة، وهجر المجتمعات الإسلامية المفرطة في دينها لأنها في نظره مجتمعات كافرة، ونأى بنفسه عن المسلمين، ونظر لهم نظرة الريبة والشك في أفضل أحواله، واعتبر دار المسلمين دار كفر، بسبب تعطيل الشريعة العادلة، وأخذ يعتقد في إخوانه من المسلمين ما يعتقده في الكافرين وأصبح المسلم والكافر عنده سواء، وهذه المرحلة هي ممهدة للمرحلة الآتية، وهي تقابل المرحلة الثانية من مراحل التحلل من السنة.

3-الغلو المتوحش في نصوص الشريعة:

هذه المرحلة هي تابعة للمرحلة السابقة، التي يكون فيها الغلو الشامل قد تخمَّر تماما، وأصبحت درجة السُّمية فيه عالية، وتأتي بعد ذلك مرحلة الفعل، ويعتقد المغالي هنا أن المسلمين مرتدين وأنهم أولى بالحرب من الكافرين كفرا أصلا في ديار الكفر، لأن الكافر لا يقتل في الإسلام إلا إذا قاتل، بينما يقتل المسلم بحد الردة بصرف النظر عن كونه قاتل أم لا، وأن الأولى في نظره هو استرداد ديار الإسلام قبل دعوة الكفار، وأن المسلمين الذي كفرهم بظاهر النص هم العدو القريب، وهنا يتضح أن الغلو ليس تمسكا بالإسلام بل هو عين التحلل منه، فمن غالى في التكفير فقد تحلل في الدماء والأموال، وسبق ذلك كله تحلل من نصوص الشريعة المحكَمة والمنهجية العلمية في فهمها على النحو المقرر في أصول الاستدلال، وهذه المرحلة تقابل المرحلة الثالثة من مراحل التحلل في الشريعة.

ثالثا: المخرج هو تثبيت البندول على نقطة السُّنة:

1-إن حركة البندول هي حركة مستمرة، ولا يحسبن الذين يحاربون الغلو أنهم ينجحون ما دامت حركة التحلل من السنة قائمة، فالتحلل هو طاقة وضع كامنة للغلو، والعكس صحيح أيضا، وأزيدك من الشعر بيتا أن تلاحظ انتعاشا في حركة الإلحاد عند تفشي الغلو، والعكس صحيح أيضا، ويجد الغلو نفسه مـحِقا ما دام المقابل له هو الإلحاد، ويزيده ذلك إصرارا، فإذا كان من يحارب الغلو هم الملحدون الذين يقومون بدور السدَنة في إثارة نار الغلو، فهذا يعني استمرار حركة البندول في الحركة، ومزيد من الوقود الوسخ يصبُـه التحلل في محركات الغلو، ولمزيد من التأكيد أرجو إلقاء نظرة على أمتنا التي كانت ضحية للطرفين، وأن تراقب التحلل المتوحش من الشريعة والإسلام، يرافقه جنبا إلى جنب الغلو المتوحش الذي هو ردّة فعل على التحلل المتوحش، وكلا الفريقين متحللان  من نصوص الشريعة، وأهل السنة والجماعة  هم ضحية حركة البندول باتجاه الغلو والتحلل.

2-إن السنة ليست شيئا كماليا في الحياة، والنبوة ليست من زينتها وشكلياتها، بل النبوة من يقينيات الدنيا وضرورياتها،ولا نجاة للبشرية إلا بها، وعندما ترى أن هناك تسويغات يقدمها الفكر اللاديني بأنه هو الحل في مواجهة الغلو، مع أن التحلل بدرجاته المختلفة هو باعث للمرحلة المقابلة له في ترتيب مراحل الغلو والتحلل الآنف بيانها،  بل إن الفكر اللاديني يخترع الأزمات ويستوردها في مجال الدين والمجتمع، ثم يدفع بقوة نحو الغلو، ثم يطرح التحلل نفسه أنه هو المنقذ، وهنا ينْتحِل المتحلّلون دور اللص والشرطي في وقت واحد.

رابعا: وقفة مع الإمام الشاطبي (توفي 790 هـ)  في كتابه الموافقات:  

رأيت أن أسوق نصا للإمام الشاطبي يوضح أصلا شرعيا في خطورة التعامل مع ظاهر النص، وهو أن الجري على ظواهر النصوص يترتب عليه رد نصوص أخرى للشريعة، وهو ناتج عن خطأ في قانون في الاستنباط، أدى إلى إنتاج حالة الغلو التي  ترتب عليها تناقض الشارع في ذهن غير العارفين بأصول الشريعة، وهو الذي أدى إلى سفك الدماء المعصومة، واعتقاد كفر المسلمين بالجملة، وأنهم مرتدون أولى بالقتال من الكافرين المحتلين لأرض المسلمين،  وسفكت دماء الأمة على أيدي أعدائها وأبنائها، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وفيما يأتي يأتي نص الإمام الشاطبي الذي أرجو من القاريء أن يقرأه أكثر من مرة، وهذا هو النص:

1-قال الإمام الشاطبي: (وقد وجدنا في الشريعة ما يدلنا على بعض الفِرَق التي يظن أن الحديث شامل لها، وأنها مقصودة الدخول تحته، فإنه جاء في القرآن أشياء  تشير إلى أوصاف يتعرف منها أن من اتصف بها، فهو آخذ في بدعة، خارج عن مقتضى الشريعة، وكذلك في الأحاديث الصحيحة، فمن تتبع مواضعها ربما اهتدى إلى جملة منها،  … فقد عرف عليه الصلاة والسلام بهؤلاء، وذكر لهم علامة في صاحبهم، وبين من مذهبهم في معاندة الشريعة أمرين كلِّيين:

–أحدهما: اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده، والقطع بالحكم به ببادئ الرأي والنظر الأول … ألا ترى أن من جرى على مجرد الظاهر تناقضت  عليه السور والآيات، وتعارضت في يديه الأدلة على الإطلاق والعموم …

–والثاني قتل أهل الإسلام وترك أهل الأوثان على ضد ما دلت عليه جملة الشريعة وتفصيلها، فإن القرآن والسنة إنما جاءت للحكم بأن أهل الإسلام في الدنيا والآخرة ناجون، وأن أهل الأوثان هالكون، ولتعصم هؤلاء وتريق دم هؤلاء على الإطلاق فيهما والعموم، فإذا كان النظر في الشريعة مؤديا إلى مضادة هذا القصد، صار صاحبه هادما لقواعدها، وصادا عن سبيلها).

2-ولم يعد الإشكال في جزئيات بعينها بل إن الغلو والتحلل أصبح كل منهما يريد أن يصنع لنفسه أصول فقه وهمي تشبيهي يناسب ذوقه الخاص في الشرع،  فيناسب جريان الغلو على ظاهر النص الذي حذر منه الإمام الشاطبي في نصه السابق، خصوصا بعد أن وقف علم الأصول بمسائله الدقيقة في النص عائقا أمام زيغ الغلو الذي اخترع فكرة تنقية علم أصول الفقه من الشوائب وتخليصه من الدخيل ليصل لمآربه ليجري على ظاهر النص بادي النظر فيه، لأنه استشكلت عليه دقائق علم الأصول فأراد إلغاءها ليجري على النظرة الأولى في الدليل الشرعي، وهذا نفسه هو الذي فعلته قوى التحلل التي اصطدمت بأصول الاستدلال العلمية في أصول الفقه، فذهبت لتخترع أصول فقه وهمي تشبيهي جديد تحت عنوان التجديد والحداثة وإعادة صياغة علم الأصول ستارا لإزالته وهدمه، وتسمية هذه الأوهام عقلا ليست إلا زخرفَ القول غرورا، وجافَى ذلك التجديد الحقيقي لعلم الأصول الذي تداولت عليه يد الراسخين في علم الأصول عبر تاريخ المسلمين، وأصبح علم الأصول اليوم يواجه تحديا مع الغلا والجفاة معا، ولا بد من الصدع بالفرق بين التجديد والتهديد في علم الأصول لبيان زيغ الطائفتين، أعني الغلاة والجفاة.

خامسا: ملاحظات لا بد منها:

1-التحلل يصطنع أزمات وهمية في المجتمع، ويفتعلها ليجد للإلحاد مسوغا ومبررا متوهما في بلاد المسلمين، ويستورد مشكلات الفكر اللاديني ويفرضها على المجتمع الإسلامي مع أنها غير موجودة أصلا، وأصبح حال اللادينيين كالذي يعرج من أذنيه، ويتعثر بحاجبيه.

2-إحياء منهج العقل الإسلامي المتكامل مع النص وليس ضده، أمر ضروري لوقف رقْص البندول على دماء الأبرياء والنفوس المعصومة، ولكشف الكليات التشبيهية الوهمية التي أصبحت من فن الموشّحات الصحفية التي تشوش على الأصول العقلية والنقلية الأصيلة في فهم النص الشرعي.

3-كل من التحلل بأنواعه الثلاثة والغلو بأنواعه الثلاثة هي حالة انحراف عن السنة وتضييع لها، واستنزاف للأمة.

4-التحلل من الكتاب والسنة هو جزء من المشكلة، ولا بد من مكافحته أيضا لوقف حركة البندول باتجاه الغلو، ولا يحق للمتحللين من الشريعة أن يعالجوا ما اقترفته أفكارهم من الإثم والعبث في دين المسلمين، وما كان هؤلاء الغلاة ولا هؤلاء الجفاة أولياء للسنة، إن أولياؤها إلا المتقون.

6-التحلل والغلو كلاهما مقدمة ونتيجة للآخر، وهما جزء من المشكلة لا من الحل، ويصبحان من الحل بقدر استجابتهما للسُّنة.

7-التحلل والغلو يتخذان من أرض الأمة مساحة معركة ضحيتها الأبرياء الغافلون على أرضنا الإسلامية.

8-كِلا التحلل والغلو يستندان إلى زوايا نظر منحرفة وكلَّيات وهمية تشابه الشريعة، ويحلفون إنها من الكتاب وما هي من الكتاب، وهي مناقضة للسنة وأصول الاستدلال فيها، والسكوت على انتشار أحدهما يعني تفشي الآخر وتمدده.

9-من علامات حركات الغلو التي ذكرها الإمام الشاطبي الفرقة، فهي تفترق عن جمهور المسلمين ومدرستهم العلمية، وتزعم أنها على الصراط المستقيم والسنة، ثم تبدأ بالانقسام والانشطار، فحركات الغلو متنازعة فيما بينها، وتتفرق إلى فرق يصل الأمر بها إلى أن يكفر بعضها بعضا ويصدق عليها قوله تعالى( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)، سورة الأنعام، فحيث رأيت جماعة تتفرق إلى جماعات، يخاصم بعضها بعضا في الدين، وقد يقع بعضهم في دماء بعض، فاغسل يدك منهم، ولا تحسبنهم على شيء، فإن السُّنة تجمع  والبِدعة تفرِّق، وإن شئت أن ترى السنة فعليك أن تفتح كتاب الاجتهاد في أي مدرسة من مدارس فقه السلف الأربع وتنظر كيف أنها تجعل من نفسها مدرسة واحدة وتراعي الخلاف فيما بينها على نحو يجعلك تعرف وتميز بين الذين فرقوا دينهم، وبين من اجتمعوا على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقتفاء آثار الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان.

إذا كان وقف بندول الغلو والتحلل إجباريا فهذا يعني أن…

الطريق إلى السنة إجباري…أعيدوها على قواعد إبراهيم عليه السلام

وكتبه الفقير إلى عفو ربه غفر الله له ولوالديه

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة

 22-4-2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top