ما هذا الشيب في رأسك والتجاعيد في وجهك
أعلَمُ أنك متضايق من تلك الشَّيبات في رأسك، ومن تلك التجاعيد حول عينيك وفي جبهتك، فلم هذا السخط على نفسك، وقد نال منك الدهر ما ناله، فذهبتَ تعالج الشيب بالصباغة، والتجاعيد بأقنعة الوجه، وبدلا من أن تضع البيض في المقلاة وضعته على وجهك، ناهيك عن الخيار الذي فقد اتجاهه نحو صحن السلطة، وصار يملأ عينك وأنفك، ولا أدري ما هو ذلك الشئ الأبيض على وجهك الذي يذكرني بأعمال الصيانة المنزلية لجدران البيت من المعجون والدهان، ولكن أقول لك: مهما حاولت فهذه حلول مؤقتة ومكلفة ماليا ومعنويا، ولكنني اليوم يا صديقي أدلك على العلاج المجاني الذي يحميك من الاستهلاك الجائر للخضروات، ويميز بين أعمال الصيانة المنزلية وبين عمليات التجميل.
قف أمام المرآة، متأملا في نفسك، لتنظر إلى شيبك شاهدِ عدلٍ أنك قطعت شوطا طويلا في عالم التضحية والإنجاز، وهو أنك أنهيت مراحل دارسية طويلة، وتزوجت ورُزقتَ الأولاد، بالإضافة إلى أن الزمن الذي مضى مُستراح منه، وما بقي من التعب أمامك إلا قليل، وولَّى عهد الشباب بما فيه من المغالَبة، فأنت كل يوم أقرب إلى الغاية، وتكاد تصل النهاية، وليست تلك التجاعيد على سطوح الجلد إلا لحظة عناق الجلد مع نفسه فرحا بذلك الإنجاز، وهي أيضا مصافحةٌ مع نفسك لاستلام الجائزة من نفسك جاءت بعد زمن الشقاء، وكأنها يد في يد قَبْل الوداع.
وأما الدم فهو يسري في تضاعيف وجهك كما ينساب الندى في تلافيف الوردة الجميلة المعطرة، وليست الشيبات في لحيتك ورأسك سوى أشواك تحمي تلافيف الوردة الجميلة من سَفهِ الصغار بوقار الكبار ، حين يلتف حولك الأحفاد والأولاد، فإنك ترى نسخا منك ذات قطع صغير، وكأنها آثار قوم أعْلَوا بنيانهم الناجح، وهم اليوم على وشك التسليم إلى ذريتهم، وقريبا يغادرونا لينالوا ثمار تضحياتهم وأدائهم الأمانة عند ربهم.
لذلك حافظ على الأشواك البيضاء في رأسك، وتلافيف الورد الندية في وجهك، تَمَوَّجُ في وجهك تمَوُّجَ نسيم البحر في هَدَأة الليلة المقمرة، وشيب رأسك يطل كالبدر فيها، ولا تحاول-يرحمك الله- خَنقَ آلة الزمن، ووقفَ عقرب الثواني، فعبَثًا تحاول يا صديقي فَمَيْعةُ الصِّبا ولَّتْ والشباب لن يعود، ولن تفلح في مسح أمواج الزمان في وجهك، ولكن عليك بأعماق نفسٍ بلا نهاية لتُدرك الغاية، وهي أبعد قَعْرا من المحيطات بلا ساحل، وهي بحر زاخر من عوالم السعادة، ووهج دافئ من العواطف، تلهيك عن متعة الجسد الزائل، في زمن رفاهية المادة وصحراء الأرواح، لِتلقُط من محيطها اللامتناهي الدرر الفاخرة والمعاني النادرة، في زمن مات فيه المعنى وعاش الناس على القفا.
المحجة البيضاء
الكسر في الأصول لا ينجبر
عبد ربه وأسير ذنبه
أ.د وليد مصطفى شاويش
عمان أرض الرباط
3-جمادى الأولى -1446
5-12-2024
رائع ورائع ورائع.. سلم قلم الوليد..