أولا: التعريف بالمقولة وشروطها:
1-كثيرا ما تتردد هذه المقولة اليوم في مساجد المسلمين، وأحيانا يدور نقاش في حلقة مفرغة تؤدي إلى الجدل وعدم الظفر بطائل من ورائها، بسبب وصول النقاش إلى طريق مسدود، كما أصبحت هذه المقولة تستخدم دليلا على رد أصول الشريعة الثابتة بالكتاب والسنة بحجة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك، بالرغم من أن الفعل قد يكون ثابتا بنص عام أو مطلق، أو الأصول الأخرى مثل: المصالح المرسلة، سد الذرائع، البراءة الأصلية، وغير ذلك من الأصول التي ليس هنا محل بسطها وسردها، بل يكفي التمثيل بها، فأردت أن أناقش هذه المقولة، وهل لها أصل في الشرع أم لا.
2-يـُحتج أحيانا بهذه المقولة (لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم) بشرط قيام المقتضي للفعل في حياته عليه الصلاة والسلام، مع إمكانه، وانتفاء الموانع التي تحول دون القيام بالفعل، ووددت أن أطرح جملة من الأسئلة، حول مدى حجية هذه المقولة في إنشاء الأحكام الشرعية.
ثانيا: مناقشة ركن المقولة (لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم):.
1-لماذا عرَّف أهل الحديث السنة بأنها ما ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفه، ولم يجعلوا الترك في التعريف على أنه سنة من سننه -صلى الله عليه وسلم، فلم يجمعوا تروك النبي صلى الله عليه وسلم إحياء لسنته!!! بل جمعوا لنا أفعاله وأقواله وإقراراته وصفاته الخِلْقية والـخُلُقية، في أدق تفاصيلها
2- ورد في الكتاب العزيز الأمر بالاقتداء بما آتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، أمرا أو نهيا، ولم يَرِد الترك في قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، فمن أين جاء الترك حجة من حجج الشرع، خصوصا وأن الترك عدم، ولا حجة في العدم.
3-قالها أبو بكر رضي الله عنه في جمع المصحف ثم جمع المصحف، ولكنه فعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع المصحف، ولم يستمر الصديق في الاحتجاج بالعدم.
4-إذا كان الذي تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- عَدَما، فكيف نثبت العدم، وما المصادر التي سنعتمد عليها في إثبات العدم، والتي نقلت لنا العدم، مما يعني أن أحد الأركان للمقولة غير موجود، وإحالتنا على العدم هو إحالة على العدم،وهو عَبَث.
5-إذا كان العدم حجة فهذا يعني أن فجوة في التشريع يكملها العدم غير الموجود أصلا، والله تعالى يقول (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فليس في تشريعنا الإسلامي عدم يملأه العقل الذي هو “المقتضي للفعل وتركه النبي صلى الله عليه وسلم” على فرض كونه عقليا، وتركنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ولم يُـِحلْنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على العدم، بل أحالنا على السنة القولية والفعلية والتقريرية، التي حفظها لنا جهابذة المحدثين
6-لماذا لم يضع الأصوليون الترك النبوي أنه من مصادر الشرع، و لم يجعلوه جزءا من السنة، بل اتفقوا مع المحدثين على أن الترك ليس من السنة، لأنه عدم لا يدخل في السنة المنقولة ولا المعقولة، ولم يضعوا الترك أصلا من أصول الشريعة أصلا، هذا فضلا عن أن يضعوا له قيودا وشروطا: كالمقتضي، وانتفاء المانع، والإمكان؟
7-لماذا لم يضع علماء الأصول الترك بشروطه عند من قالوا بأن الترك حجة، ولم يضعوا الترك ضمن صيغ التحريم: ما تركه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قيام المقتضي والإمكان وانتفاء المانع، بل أضربوا عن ذكرها صفحا، وأنها ليست من المصادر لا عند المحدثين ولا الأصوليين من أهل السنة والجماعة.
8-هل هناك دليل شرعي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا بالاقتداء بتركه -صلى الله عليه وسلم- وهل تَركُه مفصَّل أم مُـجْمل، فإن كان مفصلا أو مجملا، فأين بيان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمجمل والمفصل وهو الترك، وحاشاه -صلى الله عليه وسلم- أن يترك أصلا من أصول الشريعة والاستدلال مجملا دون بيان.
9–كيف يمكن تطبيق (لم يفعله رسول الله) على ميراث الجد والإخوة، حيث لم ينص شرع على ميراثهم، مع أنه قام المقتضي لإعطائهم وهو حقهم الشرعي، وانتفى المانع وكان الإعطاء ممكنا ، فمقتضى المقولة أن لا يعطى الجد ولا الإخوة من الميراث، وقد وقع الإجماع من الصحابة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على توريثهم، ولو طبق سلفنا من الصحابة هذه المقولة، لم يورثوا جدا ولا أخا، ولكن وقع الإجماع على توريثهم بالشروط المعروفة في محالها، قال الإمام القرافي في نفائس الأصول: (…كيف أفعل ما لم يفعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم -) وفي هذه الكلمة اعتبار لمن تدبر، وأن أبا بكر- رضي الله عنه- ما عمل بالرأي إلا وهو عالم على القطع بأنه من مدارك الشرع؛ فإن من يتقيد بالاتباع حتى في كتب القرآن كيف يخترع من قبل نفسه الحكم بالرأي؟ ومن ذلك مسألة الجد الإخوة، اجتهدوا فيها، واختلفت أقيستهم فيها، والاعتراف بعدم النص).
10-ما تاريخ هذه المقولة ومتى نشأت، إذا كان أول الخلفاء والصحابة والتابعون لهم بإحسان من أئمة السلف لم يعملوا بها، فأرجو من العالم بتطبيقات هذه المقولة أن يحيلنا إلى سلفنا الصالح لنعرف متى نشأت هذه المقولة بشروطها، إذا كان سادة السلف من الصحابة أجمعوا على تطبيقات فقهية خلافا لهذه المقولة؟
11-كيف يمكن ضبط الترك وملاحظته ونقله إذا كان عدما، فما الذي سينقله الراوي أصلا، وكيف يمكن إحصاء تروك النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا كانت عدما، وكيف يمكن الاقتداء بالعدم؟
12-ما مدى صحة من زعم أن الترك بالشروط المذكورة، سنة خاصة بل مقدمة على كل عموم وكل قياس، وما حقيقة الموقف من فعل الصحابة في توريث الجد والأخ السابق نقلها عن الإمام القرافي، وكيف يصبح الاحتجاج بالترك الذي لم يعتبره المحدثون سنة في تعريفهم، ولم يعده الأصوليون شيئا مذكورا، أصبح حجة في رد الكتاب والسنة على الزعم بأن الترك يخصص العام ومقدم على القياس، وماذا يمكن أن يبقى من الشريعة بعد تخصيصها بالترك، الذي يعني قصر الشريعة على واقع معدوم، وتخصيصها بالمعدوم، ولم يعد الأصوليون العدم مخصصا للشريعة.
13-إن صح تخصيص الشريعة بالترك، فهذا يعني أنها أصبحت قاصرة على وقت النبوة فقط، ومن هنا تتفق هذه الدعوى مع دعوى تاريخية الشريعة التي ينادي بها اللادينيون لتعطيل الشريعة واصطدموا مع عموم النص في الزمان إلى قيام الساعة وحاولوا تخصيصه بالسبب الذي ورد عليه النص، وإن لم يكن له سبب عللوه بما توهموه من المصالح، لمحاصرة الشريعة في التاريخ الضيق، وتعطيلها عن النزول على الواقع بأصولها العامة ونصوصها الثابتة.
ثالثا: شرط قيام المقتضي:
1-أن يعرِّف المقتضي تعريفا جامعا مانعا.
2-أن يحدد نوع المقتضي هل هو عقلي أو شرعي أو عادي، فإن كان المقتضي عقليا، فهو من الأحكام العقلية وليس الشرعية، وعندها تصبح المقتضيات العقلية البحتة متحَكِّمة على النصوص العامة والمطلقة وأصول الاجتهاد العام الداخلة في الأمر باتباعها، وإن كان شرعيا فقد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نص عام أو مطلق أو أصل عام من أصول الشريعة العام كأصل الإباحة، وبراءة الذمة، والمصلحة المرسلة بشروطها، ومن ثم فإن الحكم يرجع إلى الأصل العام الذي آتانا إياه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن الترك حجة، والقول بحجية الترك يعني رد عمومات وأصول الشريعة، فانقلب الترك الذي هو عدم وليس حجة، ذريعة لرد الكتاب والسنة التي أمرنا باتباعها بتلك الأصول العامة.
3-ما ضوابط المقتضي وشروطه، وذلك حتى لا يتحكم الناس على الشريعة، فعلى فرض صحتها لا بد أن تكون هناك ضوابط يضعها المتبني لهذه المقولة، حتى تحاكم أقواله على وفق ضوابط موضوعية مانعة من الانجراف نحو الهوى لرد الكتاب والسنة وفقه السلف بحجة هذه المقولة؟
4-كيف يثبت المقتضي للعدم، وهو يعني إثبات سبب لغير مسبَّب، والمعروف أن السبب لا يؤدي إلى عدم بل يؤدي إلى وجود، هو الذي يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم، فكيف يوجد السبب وينعدم المسبب وهو الترك، وهذا خلاف ما هو معروف عند أئمة المعقول والمنقول من السلف والخلف؟
5-ما الضوابط العلمية الموضوعية لتقدير المقتضي إن كان عقليا أو شرعيا أو عاديا، وكيف توظف هذه المقولة في حالة ثبوت أصل شرعي للحكم الشرعي، وما الضامن لمثل هذه المقولة السائرة اليوم من عدم رد الأحكام الشرعية الثابتة بأصول شرعية أخرى؟
6-إذا ثبت الحكم الشرعي بنص عام أو مطلق وعلى فرض قام المقتضي لفعله -صلى الله عليه وسلم- وإمكانه، فهذا يعني أن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شرط لجواز العمل بالنص وقد اتفق الأصوليون أن العام والمطلق يعمل بهما ولا يُـنْـتَـظر المخصص ولا المقيد، واشتراط عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع القيود السابقة، يعني رد الكتاب والسنة باشتراط عمل النبي صلى الله عليه وسلم بهما.
رابعا: ثبوت المقتضي ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله مع الإمكان:
1-من هو الذي يتقي ربه ويستطيع أن يقدر ما هو المقتضي لفعل الرسول -صلى الله عليه وسلم، ويجعل عقل الإنسان الذي يجب أن يسترشد بالنبوة، يجعل ذلك العقل مبينا للمقتضي للنبوة، وهذا نصب للإنسان فوق منصب النبوة ما دام الإنسان قادرا على تحديد المقتضي لعمل النبي -صلى الله عليه وسلم.
2- لقد بين أهل السنة والجماعة عَوَار مقولة المعتزلة أنه يجب الأصلح على الله تعالى، وسقطت هذه الدعوى تحت مطارق السنة، ولكن مع الأسف يبدو أن هذه المقولة السابقة بالشروط السابق ذكرها، هي تسلل للعقل المعتزلي البشري الضعيف ليبين ما مقتضيات ما يفعله النبي صلى الله عليه والسلم، مع أن الشرع جاء هاديا للعقل، وآمرا للناس، لا أن يبين الناس ما يقتضي أن يفعله الرسول، وزيادة الطين بلة بالقول: لكنه لم يفعله.
3-ماذا يعني أنه قام المقتضي لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يفعل مع إمكان الفعل، وليس ثَمَّة مانع من الفعل غير معنى كتِمان الرسالة، وهنا يكون العقل الضعيف قد وقع في الشَّرَك الثاني بعد أن تجرأ على الرسالة والنبوة، وحدد المقتضي لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم ارتكب خطيئة أخرى وهي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل مع إمكان أن يفعل، ولم يكن ثَمَّة مانع يمنع من الفعل، ولو بحثتَ أخي القاريء عن معنى كتمان الشريعة المستحيل على الرسل –عليهم السلام- لم تجد أفضل من هذه المقولة، وهي:( ما قام المقتضي للفعل، ولكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع إمكانه من غير مانع) فهذا أفضل وصف لكتمان الرسالة المستحيل على الرسل عليهم السلام، وهذه الصفة المستحيلة على الرسل تُدرَّس في مباديء طلب العلم، قال ابن عاشر في المقدمة العقَدية:
يجب للرسْل الكرام الصِّدْقُ أَمـانـةٌ، تبليغهم يحق
محال الكذب والمنهي كعدم التبليغ يا ذكي
4-بالرغم من أن هذا المعنى مرفوض من كل مسلم، حتى من أولئك المرددين لهذه المقولة التي ظاهرها الرحمة وباطنها من قِـبَـله تعطيل الكتاب، وأن هذا المعنى غير مراد لهم، بل ظاهر الحال السلامة من استلزامات هذه المقولة، إلا أنني أكون سعيدا لمن يزعم أن هذه المقولة لها أصل في الشرع، فهذه أسئلة طرحتها على الذين يتبنَّوْن هذه المقولة، دون محاولة مني لِرَصّ الدعاوى والأدلة، بل اكتفيت أن أكون أمام حضراتهم متسائلا هذه الأسئلة، وقد اكتفيت بها خشية الإطالة وإلا فإن النواقض الواردة على هذه المقالة كثيرة وفيرة.
5- وربما تكون هذه المقالة فيها مشقة على من سار بهذه المقولة ردحا من الزمن، ولكن أرجو أن يقف ملِيّا أمام هذه الأسئلة، وأن يتحمل مسؤوليته تجاه الشريعة وفقه السلف، بعد أن أصبحت هذه المقولة ذريعة لرد عموم الكتاب والسنة والأصول الشرعية الإجمالية الأخرى ووقف العمل بها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعمل بها، وانظر في (حوار مع أخي الحلقة: 16) كيف ردت السنة وخصص العام بالعدم، وهو مقولة (لم يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم) مع أنه أمر به، ولا يعني أن ما درج عليه بعض الشباب المسلم من مقولات أن هذا يعفيهم من التحري في أمر دينهم، لاسيما أن المحدثين والأصوليين لم يقولوا بإدراج تروك النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة، فمن أين جاءت هذه المقولة وما صلتها بسلفنا الصالح؟
خامسا: نموذج من الأدلة الشرعية التي تحمي من البدعة في الدين:
من هذه الأدلة: الصورة المنقولة، الحقيقة الشرعية وغيرها، وهذه سأشرحها إن شاء الله مستقبلا، وقد كانت أمثلة الذين يمثلون على هذه المقولة يمكن أن تندرج تحت هذه الأدلة، وبعد متابعة بعض الأمثلة يمكن أن تكون صحيحة في أنها بدعة ولكن ليست تحت المقولة (لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بل مندرجة تحت الأدلة السابقة التي ذكرتها في “خامسا”، والإشكال يقع في المقولة التي عالجتها في هذه الرسالة القصيرة، ولو تم الاعتماد على فقه السلف في رد البدعة ومحاربة أصحابها، لكان أسلم لنا من هذه المقولة التي تنطوي على خبايا في الزوايا لو عرف أصحابها بلوازمها ما قالوا بها.
مقالة ذات علاقة: حوار مع أخي(16) الغلو في إقحام البدعة على العادات، التبديع بالسلام والمصافحة بعد الصلاة
الطريق إلى السُّنة إجباري
د. وليد مصطفى شاويش
عمان المحروسة
صبيحة الجمعة المباركة: 18-3-2016
ما شاء الله احسنت واقنعت جزاك الله خيرا
ماشاء الله نفع بك دكتور.. ورزقنا الله من علمك.. وجعلنا هداة مهديين على هدي السلف الصالح ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين
لو تبسطون اكثر عوار هذه المقولة “لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم” مع الادلة على عدم شرعية الاحتجاج بها شيخنا الموقر
ادام الله خيركم ونفع بكم الامة
ما شاء الله
بارك الله فيك
سلمت يمينك دكتور وليد وأكثر الله من امثالكم
جزاك الله خيرا
بارك الله فيك وجزاك عنا كل خير
جزاكم الله خيرا دكتورنا