أولا: مقدمة بين يدي النص:
1-نص الحديث:
الحديث: جاء في صحيح البخاري عن عائشة، أن هند بنت عتبة، قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك، بالمعروف»، وهل قول النبي صلى الله عليه وسلم من باب الإمامة، أو القضاء، أو الفتوى، أم أن هناك محكمات أخرى يمكن أن تفسر الحديث وتزيل عنه أوجه الاحتمال، وتخرجه من الاحتمال إلى البيان المحْكَم.
2-خطورة الفتوى من ظاهر الحديث:
هذا حديث نيوي شريف، له تفسيرات عديدة، ولا يصح حمله على ظاهره، بل لا بد من تمييز محاله التي يكون فيها راجحا وتلك التي يكون فيها مانعا مغمورا، وغايتي في هذه المقالة، بيان خطأ بعض المفتين الذين يفتون بأن تأخذ الزوجة النفقة من الزوج دون علمه بناء على ظاهر الحديث، مما يؤدي إلى ظاهرة التدين التواصلي الذي يخبط خبط عشواء في الكتاب والسنة، بسبب عدم إعمال الأصول والمحكمات التي تفسر النص الشرعي.
3-فساد ظاهرة التديُّن التواصلي:
أدى إقصاء المدرسة الفقهية السنية المتبوعة إلى نشأة التدين التداولي التواصلي، الذي يفتي من كل حديث بظاهره، ويحسِب كل بيضاء شحمة، وكل مدورة كعكة، ويحشد نصوص الشريعة حشدا قصصيا سائلا يغر ي به العامة، ثم تناقضت عليه الظواهر ، بسبب ظاهرة اللاَّمجتهد واللاَّمقلِّد، مما يجعل من الضروري بيان المنهج الأصولي في النظر في ظاهر النص، وتأويله مع مجموع الأدلة والأصول، برد متشابهه لمحكمه، ومِن ثَمَّ تنزيله على محَلِّه.
4-الهدف من المقالة:
ذكرت سابقا أنه ما من آخِذٍ بظاهر إلا تناقضت عليه الظواهر، وشأن الطوائف أنها أوتيت نصيبا من الكتاب جادلت به النصيب الآخر، وضربَت بعض الكتاب بعضه ببعض، وسبب ذلك تناقُض الظواهر عليهم، وفيما يأتي أبين المنهج الأصولي في جمع ظواهر الشرعية معا، لتشكل لوحة تامة يُرَدُّ فيها المتشابه لمحْكَمِه، حيث يتنزل النص على محله في الواقع، ويكون في محله معارضا راجحا، وأما المحال الأخرى التي لا يتنزل فيها فيكون عندئذ مانعا مغمورا، وتلك المحال الأخرى يتناولها معارض راجح آخر.
ثانيا: حالات الحديث من المانع المغمور:
1-القضاء والبينة على مَن ادعى:
لا يجوز العمل بالحديث في القضاء لأن القضاء قائم على البينات، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب من الزوجة أن تقدم بينة، ولا يجوز القضاء على المدعَّى عليه الغائب، بل يُدْعَى الزوج أو وكيله إلى مجلس القضاء، فقد يكون ترَك النفقة، وله بينة على ذلك، وفي الحديث لم يستدعِ النبي صلى الله عليه وسلم المدعى عليه، كما هو الأصل في أصول التقاضي في المسألة المنظورة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2-الإفتاء في مال الغير بغير إذنه:
إن الفتوى قاصرة على المستفتي وقولِه، ولا يجب على المفتي أن يتقَصَّى البينات، لأن القصد من الفتوى براءة العبد في آخرته، فيُصدَّق المستفتي في قوله ونيته، لذلك لا يجوز للمفتي أن يفتي السائل بأخذ مال شخص آخر ، لأن الأصل في مال الغير التحريم والحكم فيه من باب القضاء على وفق البينات، لا من باب الفتوى.
3-السياسة الشرعية:
السياسة الشرعية قائمة على النظر في الصالح العام وليس النظر في شأن الأفراد المعينين، فليس الحديث من باب الإمامة، لأن الحُكْم في الخصومات المالية على وجه الإلزام من اختصاص القضاء، وعلى وجه البيان من اختصاص الإفتاء.
ثالثا: حالات الحديث من المعارض الراجح:
ويعني أن الحديث ينزل على محاله في الحالات الآتية ويكون معارضا راجحا:
1-التعريف بالمقدار:
إن الحديث بين للسائل مقدار حقه، كما لو سألتَ محاميا في قضية لك، فيقول لك يحق لك كذا وكذا، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث مبينا مقدار النفقة الواجبة، وليس قاضيا في مال الغير.
2-الظَّفَر بالحق:
إذا كان الرجل يدخر مونة البيت، وهي تحت إدارة الزوجة في الاستهلاك، فهذا يعني أن نفقة الزوجة تحت يدها بإذن الزوج، أو أنها ظفرت بحقها من النفقة العينية في بيتها، فعندئذ يحق لها أن تستهلك منها ما يكفيها وولدها بالمعروف، وليس للزوج الحق في أن يحجر عليها في حقها ذاك.
3-الاستعانة في إنكار المنكر :
ويعتبر الحديث معارضا راجحا في جواز استعانة مَن وقع عليه ظلم بمن يرفع الظلم عنه، فتكون الزوجة قد طلبت الاستعانة من النبي صلى الله عليه وسلم على رفع الظلم عنها، فبين النبي صلى الله عليه وسلم لها حقها على وجه الإنكار على من ظلم غيره ومنعه حقه.
رابعا: التحذير من تتبع المتشابهات:
إن الشريعة فيها محكماتها وفيها المتشابهات، ومقام الاجتهاد هو رد المتشابه إلى المحكم، فتنتهي الشريعة عندئذ إلى الإحكام والبيان في مجموع أدلتها التفصيلية والكلية، وتصبح بيانا للناس، وصراطا مستقيما لا يزيغ عنها إلا هالك، أما حالة التفسير الانطباعي والنفسي للسنة، واقتحام العامة على نصوص الشريعة فقد جعل الشريعة حالة إنسانية فردية ووضعية اجتماعية بشرية، لا علاقة لها بالشريعة، ويحسبون أنها الشريعة، وصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم أن تلد الأمة ربتها، في أتباع المتشابهات، الذين اضطربوا في الكفر الإيمان، وصفات الرحمن، أما في اضطرابهم في الفقه فحدِّث ولا حَرَج.
الخلاصة:
1-لا يجوز إفتاء من تزعم بأن الزوج لا ينفق عليها ويجب إحال السائل لرفع قضية.
2-القضاء صاحب الحق بالبت في نفقة الزوجة من مال الزوج بعد الاطلاع على البينات.
3-يجوز بيان الواجب من النفقة ليعلم ذلك المجتمع ليعرف كل ذي حق حقه.
4-للمرأة استهلاك نفقتها من مونة البيت المدخرة تحت يدها بالمعروف
5-يجوز للمرأة التي يمنعها الزوج نفقتها أن تستعين بمن يرفع الظلم عنها من المفتين والمصلحين.
6-تحذير من وجبت عليهم حقوق الغير أن يظلموا أصحاب الحقوق.
7-البخل شرعا: هو منع أصحاب الحقوق حقوقهم، والبخلاء واقعون تحت وعيد الشارع.
8-إن الإفتاء من المتشابهات دون ردها إلى المحكمات يؤدي إلى تفكيك الشريعة.
9-المتدثر بالمتشابه عريان.
10-الشريعة تكون بيانا للناس برد المتشابهات للمحكمات
مقالة ذات علاقة :
حوار مع أخي (26) هل يسقط وجوب صدقة الفطر بعد صلاة العيد أم أنها واجبة حتى الموت
الطريق إلى السنة إجباري
الكسر في الأصول لا ينجبر
عبد ربه وأسير ذنبه
أ.د وليد مصطفى شاويش
عَمان الرباط
20-ربيع الثاني-1443
26-11-2021
شرح جميل و بيان عظيم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم