هل السكر حُلوٌ أو الملحُ أبيض

هل السكر حُلوٌ أو الملحُ أبيض

لماذا لم يطلب أحد دليلا على أن السكر حلو  يا إمام؟ يا بُني لِم تطلبُ دليلا على  أمر نفعله كل يوم مرات كثيرة، وجرى به العمل، وهذا الذي وجدنا عليه الناس، يا بني الدليل هو ما تراه وتفعله،  وإن طلبتَ الدليل على الدليل أبطلت العلوم كلها، الجميع ببلدنا يتذوق السكر  ويعرف الحلاوة قلة وكثرة، وتوضيح الواضحات من المعضلات أيها التلميذ، أما طلب الدليل على الدليل فهو جهل مفسد للعلم، أيها التلميذ النجيب.

 ولكن يا بني: ماذا لو انقطع السكر  إلا في بيوت الأغنياء والخاصة، سيغضب الجمهور، ويقولون نحن سواء في السكر ، فهو من السلع الأساسية للإنسان، ومن حقنا أن نعرف السكر  وأن نتذوقه، وربما بعد زمان طويل، يطلبون دليلا على الدليل، الذي هو عملنا اليومي ونراه أمامنا، لذلك وطَّأتُ لك ما جرى به العمل توطئة، حتى لا يختلف الناس بعدنا، وتركت كثيرا مما ليس عليه عمل، خشية أن يظن الناس أن عليه عمل، ووددت لو ضُربت مائة سوط على ما وطأته من الحديث الذي ليس عليه عمل، خشية أن يأتي أقوام بعدنا فيعملوا بها، ويتركوا ما به العمل.
يا معلمي، تفاقم النزاع،  وصار السكر نادرا حتى في بيوت الأغنياء والوجهاء، وصارت حكايات الأجداد والجدات عن ذلك السكر الحلو لا تَمَلُّها الأحفاد والأسباط في حكايات ما قبل النوم، في وصف السكر وحلاوته  في الشاي، ومذاقه في صناعة الحلويات، سَقَى الله تلك الأيام يا جدي الأكبر، فقد رأيتَ السكر وتذوقتَه، وقلتَ لنا هذا ما وجدتَ عليه الناس، وقلت فيه: هو أحسنُ ما سمعتُ.

يا بني، لم يكن سلفكم الأول يتكلم في ذلك، لأن الحلاوة يعلمها العامة والخاصة، وهي عمل يومي بديهي لا يحتاج شرحا، كما أنك تشرب الماء كل يوم، ولا تطلب له دليلا، أما أنتم يا بني، فعليكم أن تتبعوا أخبار مَن رأى العمل، وورثه من الأكابر  عن الأكابر ، وعمل به السلف الأول وعاش فيه ومات عليه، فقد كان يُغلى الماء ثم يوضع الشاي والسكر، ومعه قليل من العشبيات العطرية، يقال لها النعنع، تتناولها الجدة من حوض جوارَ البيت، يَسمَّى حوض النعنع، وقد وددت يا ولدي  أن ترى كيف نعمل الحوض، ونجعل فيه أبيات النعنع، ورائحته الذكية، فهذا لمن رأى وليس لمن سمع، ومن سمع عليه أن يسير على خطى من رأى.

يا جدي الأكبر،  خَلفَتْ من بعدك  خُلوف، طال عليهم الأمد وقست قلوبهم، واشتبه عليهم السكر، فظهرت في السُّكر  روايتان: الأولى عنك، وهي أنه أبيض وحلو، ولكن في رواية أخرى عن الشيخ الحكواتي تقول: إن السكر  أبيض لكنه ليس بالضرورة أن يكون حلوا، والخلاف لا يفسد للود قضية، وقد  رأى الحكواتي بنفسه جده المالح، يضع ذلك الأبيض على الطعام، وتأكد بنفسه أن المذاق مالح، والتجربة خير  برهان، وأضاف معلومة أخرى يقول إنها مهمة، وهي أنه كلما أكثرتَ من الملح صار الطعام أكثر ملوحة!

ويا جدي الأكبر هذه تجربة مؤكدة، تخالف  قولك أن السكر حلو،  وأنه يوضع على الشاي مع النعنع، وتخالِف قولك أن هذا هو ما  عليه العمل، ويزعم الحكواتي أن ما وطَّأتَه فيما جرى به العمل بالسكر  هو أمر لا دليل عليه، وخبر ضعيف لا حجة فيه، ويزعم أن الراجح هو  رواية الجد المالح، وهي أن السكر  الأبيض مالح الطعم، ويوضع على كل الطعام، وليس على الشاي فقط، وزعم الجد المالح أن ثمة رواية ثالثة، هي أن السكر  طائر خرافي يشبه البَطَّ، من حيث إن كليهما يخالط الماء ويعيش فيه، وبذلك يمكن أن يفسَّر  به الموطَّأ الذي ألفه الجد الأكبر، وأنت تقول فيه:  نحب الشيخ الأكبر ولا نختلف معه، ولكنه ليس معصوما في مسائل الشاي، ونحبه ولكن الحق أحبُّ إلينا منه، ومع ذلك اتسعَت شُقّة  الخلاف، وتنادَى الجميع إلى إعادة النظر في كل الروايات، دون تعصب أو تحيز ، والهدف علمي بحت، وهو البحث عن الحقيقة.

انبرى للأمر ثلة من المحققين الذين شعارهم الفتوى يوم بيوم، والترجيح قبل النوم، ليبينوا الحقيقة للناس، وتوحيد الصف وقطع دابر الخلاف، فقالوا ثبت في الروايات أن السكر   أبيض والملحَ أبيض أيضا، وهذا مشترك بينهما، وهذا ما اتفقنا عليه، وليعذِر  بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه من الملوحة والحلاوة، ونقول تقريبا لوجهات النظر: إن الملح والسكر كلاهما يُوضعان في طعام الإنسان،  بدلا من التعصب للجد الأكبر ، وحتى لا نهمل كلام الحكواتي والشيخ المالح فهو عالم أيضا، ويجب أن نحترم خصوصية الآخر،  الذي يضع  السكر  على الدجاج، أو  يضع الملح في الشاي، فهذه وجهات نظر ، ولا أحد يملك الحقيقة، وكل له دليله، وعلينا أن نستعمل عقولنا، وننبذ الخلاف والجمود، وكذلك نوحد الصف، ولا يشمت العدو بفُرْقَتِنا.

بعد زمان طويل، لم يتوحد الصف، ولم تجتمع الكلمة، بل فسد الكلام والطعام، فالحقائق الثاتبة تحكم بالبطلان على الأفكار العابرة، مهما كان بريق تلك الأفكار، وسُنَّة الذوق تأنف من الشاي بالملح، والدجاج بالسكر، وتنافرت الطباع بين أتباع الحكواتي وجده الشيخ المالح، والشقاق صار أقوى من توافق الأفكار ، فلا البياض المشترك يجمعنا، ولا مقاربات الكلمات تسعدنا، إذا  فسدت الأذواق، وتنافرت العادات، ومع الأسف لم يبق السكر  مفقودا فقط، بل الحقيقة انتهت إلى  مصير السكر نفسه، لأن الشيخ المالح لا يجتمع مع الجد الأكبر،  فهل رأيت  النسور  تسبح مع البط، أم رأيت البط يُحَلِّق مع الصقور، حقا ولَدَت الأمة ربَّتها.

الروح المسافرة

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمَّان أرض الرباط

28- ربيع الآخر -1447

21-10-2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top