هل تركنا الرسول صلى الله عليه وسلم  من غير دستور  

 

-[printfriendly]

هل تركنا الرسول صلى الله عليه وسلم  من غير دستور  

هذه المقالة تهدف إلى التمييز بين الجدل الفكر ي والاجتهاد الفقهي، وتحاول الإجابة على الأسئلة الآتية:

1-ما المقصود بالدستور  في الدعوى؟

2-ما الأصول الفقهية التي يمكن من خلالها مناقشة هذا الجدل من الناحية الفقهية؟

 3-وهل يصح أن يعتر ض على دعوى تركنا الرسول صلى الله عليه وسلم  من غير دستور  بالآية الكريمة (اليوم أكملت لكم دينكم)؟

 4-هل يمكن أن تولد الدهرية (العلمانية) الجزئية من بين فجوات الفكر  الديني المعاصر.

أولا: كل ما لم يُعيِّنه الشرعي فقد أحال في تعيينه للغوي والعرفي:

1-ضابط صلة الرحم عُرفي:

ذكرت في دروسي العديد من الأمثلة على أن الشارع لم يعين الأحكام التفصيلية في بعض القواعد، مثل ضاب صلة الرحم، ليس نسيانا بل لأن محل الحكم متغير  من جيل إلى جيل، فضابط صلة الرحم اليوم مختلف عن عهد الرسالة، لتوفر المواصلات والاتصالات بشكل يجعل ما كان معجوزا عنه في زمن الرسالة ممكن بسهول اليوم، بينما الحكم المستمر هو وجوب صلة الرحم، مع اختلاف التطبيق في الزمان والمكان، وما لم يضبطه الشرع بنص تفصيلي ترك من غير نسيان ضبطه للعرف أو اللغة.

2-ضابط الفقر عُرفي:

وكذلك لم يضبط الشارع وصف الفقر ، بل ترك أمره لأهل العرف يعينونه بحسب عرفهم وما يجد لهم من حاجات الحياة المختلفة، كحاجة فاتورة  الماء والكهرباء والإنترنت للتعليم والعمليات الجراحية والسلع الأساسية التي لم تكن متوفرة في القرون الأولى، فالحكم المستمر هو الزكاة للفقير، ولأن محل الحكم متغير  في الزمان والمكان، ترك الشارع ضبطه وتحقيق مناطه في الواقع للفقيه حسب الزمان والمكان .

ثانيا: تحرير : لم يترك لنا دستورا لاختيار الخليفة:

يصح القول لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم لنا دستورا بمعنى أنه لم يترك نظاما إداريا يتعين فيه الخليفة، وهذا يتفق مع الشرع الذي يطلق فيما يتعلق تحديده بالزمان والمكان، ولا يحدده شرعا بدليل تفصيلي، لأنه يؤدي فيما بعد إلى جمود الشرعي، وعدم القدرة على السيرورة في الزمان والمكان لتغير الواقع، وأما المنظومة الإدارية فهي حاجة الواقع المتغير، وتتغير بتغيره باختلاف المصالحة المؤقتة واللحظية، وليس من شأن الشريعة أن تحدد  تفصيلا شرعيا للمتغير  وما ليس بمحدد، لأنه يؤدي في المستقبل إلى التناقض بين الشريعة في الحكم التفصيلي والمصالح فيما بعد.

ثالثا: طرق انتقال السلطة إداري متغير وليس شرعي تفصيلي:

1-الدستور نظام إدارة الدولة  المتغير:

الدستور  هو طريقة جديدة لضبط إدارة الدولة والمجتمع، وهو نفسه متعدد الأنواع، وعرضة للتغيير بحسب الحاجات، فهو  تنظيم إدارة وتوزيع السلطات وطرق انتقالها، ولم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم طرق انتقال السلطة لأنها مسألة إدارية تخضع للظروف والمصالح المتغيرة، فلا تكون حكما شرعيا دائما،

2-الحكم الفقهي مستمر  والتطبيق اجتهاد فقهي متغير:

فالحكم الشرعي الفقهي المستمر هو في الشورى، وأما تطبيقها فهو إداري تختلف مقتضياته في زمن الرسالة نفسها فكيف فيما بعدها بقرون، فقد اختلف تعيين الخليفة عمر عن تعيين أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عن الجميع، وكان لكل خليفة طريقة تختلف عن الآخر، هذا في الجيل الواحد فكيف بالقرون الآتية وتبدل الأحوال معرفيا وزمانيا ومكانيا، فكان الشرع أرفق بالعباد من العباد بأنفسهم، وهي رحمة باطنة نشكر الله تعالى عليها,

رابعا: الولايات العامة لا تقبل التشخيص:

الشريعة تنظر إلى الولاية العامة أنها صفة دون اعتبار  ذات الشخص: كأبي بكر  وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لأن التشخيص في الخليفة كتعيين أبي بكر تتحول الخلافة إلى فرض عيني لتشخص المتولي، وليست فرضا كفائيا على المجموع، فتنقلب الشريعة من السنة أن لا تشخَّص الولاية العامة، إلى أن تكون مشخصة بأسماء معينين،  ويكون ذلك سببا في رد الشورى أو تخصيصها، وهو أمر خلاف الشرع.

خامسا: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ):

1-تعيين الإداري صدام بين المصلحة والشريعة:

ولو  أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على منظومة إدارية لانتقال السلطة، لكان مناسبا لعُرف الصحابة والمدينة النبوية في ذلك الوقت المحدَّد، ولكن مع تطور  طرق الانتخاب ومجالس الاستشارة، سنجد أن المنظومة الإدارية تلك كانت تناسب وقتا دون آخرا، ومكانا دون آخر، وإما أن نرجح المصلحة ونعصي الشرع، أو نرجح الشرع ونهجر  المصلحة، وهذا هو عين العنت في الدنيا والآخرة، أن نصبح بشرع لا مصلحة فيه، ومصلحة لا شرع فيها، وهو تناقض في أصول الشريعة المنزهة عن العيوب.

2-ولو  أطاعكم رسول الله في الدستور  لَعَنِتُّم:

 وحتى لا يُدخل النبي صلى الله عليه وسلم أمته في العَنَت، لم يُعيِّن نظاما إداريا لا نتقال السلطة، حتى لا تضطرب المصلحة المتغيرة، مع الشرع التفصيلي الدائم، فلم يجد الصحابة فراغا تشريعيا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وجدوا فراغا إداريا لا يتوقف سدُّه على نقص شرعي تفصيلي من الرسالة، بل يتوقف سده على اجتهاد فقهي، لأن الرسالة كمُلت (اليوم أكملت لكم دينكم)، ويتطلب ذلك الفراغ جوابا في لحظة خاصة، وليس فقها مستمرا كتحريم الربا ومنع الغرر .

3-الولايات العامة على الصفة لا على التعيين خلافا للشيعة:

وكذلك تولية الولايات العامة، فهي في فراغ إداري يُملأ على وفق قوانين الشريعة في مراعاة جنس المصالح، وليس متوقفا على الحكم التفصيلي بدليل شرعي جزئي، لأنه ليس فراغا في نقص التشريع، ومن هنا نميز بين الفراغ الإداري الذي يشغله المجتهد حسب فرض الزمان والمكان، والكمال التشريعي منذ عهد الرسالة في اعتبار جنس المصالح والقواعد العامة كما هو في قوله تعالى (اليوم أكملتُ لكم دينكم)، ولم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على الإمام من بعده، مراعيا طبيعة الولايات العامة تتعين بالصفة لا بعين الشخص.

سادسا: بطلان العلمانية الجزئية:

إذا كان الفكر الدعوي المعاصر دخل في العنت والجدل ، بسبب عدم التمييز  بين الفراغ الفقهي، والفراغ الإداري في تحقيق مناط الفقه المتغير، في تعيين النظام الإداري المناسب، وشكَّل ذلك فجوة معرفية، أدت إلى اتساع هو ة الثغرة الإدراية في الفكر الدعوي العاجز عن تحقيق مناط جنس المصالح في الإدارة (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)، (اليوم أكملت لكم دينكم)، وطلب  فيه دليلا جزئيا تفصيليا، وكان طلبهم ذاك من طلب العنت عليهم في الشريعة، ولم يطعنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا العنت اليوم، هو  الذي أدى إلى ظهور العلمانية الجزئية، والمسؤول هو الفكر الدعوي العاجز  الذي تجاوز المذاهب المتبوعة وأعاد النظر في النص من غير بينة ولا هدى، ويتحمل وزر الاختلالات المعرفية في المجتمع الإسلامي.

#الخلاصة:

1-يعسر على الفكر الدعوي المتجاوز الجمع بين المباديء الأساسية والممارسة العملية نحو  المصالحز 2-بسبب غياب الاجتهاد الفقهي اخترعت الجماعات الدينية فكرة فقه الواقع ومرونة التشريع الإسلامي من أجل التكيف مع الظروف الجديدة والمصالح المؤقتة  مع تحويل المبادئ إلى حالة مثالية.

3-الاجتهاد الفقهي يميز بين ما شرع بتفصيله وهو فقه مستمر، وبين ما شرع بجنسه يتغير بحسب المصالح والأعراف وتجدد الوسائل.

4-الفكر الديني المتجاوز للمذاهب المتبوعة عاجز عن الاستمرار بسبب تحول أفكاره إلى مثاليات تنفصل عن المصالح، وتحولها إلى مرحلة التكيف والنفعية (البراجماتية).

5-الفكر الدعوي المتجاوز غير قادر على تفهم الشريعة إلا من خلال تفعيل الفقه وأصوله، ولا يصح نسبةتناقضاته إلى الشريعة.

6-  الفكر الديني المتجاوز  تسبب في الفصل المعرفي بين المجتمع والشريعة، ما أدى إلى اضطرابه في موضوعات الدولة والجهاد خصوصا.

7-بطلان فكر اللاهوت الديني في نطام الدولة في الإسلام، لأنه يقوم على تحقيق المناط في الاجتهاد الفقهي له قواعد علمية أساسها البحث النظري لمحل الحكم وتنزيل الحكم الفقهي.

8-على المعارض أن يطلب معنى قول المدعي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تركنا بلا دستور، وإن الاعتراض بقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) لا يصح الاعتراض به على المستدل، ولا يمثل حجة على المدعي.

9-بطلان اللغة الإجمالية للمفكر  أدونيس في الثابت والمتحول، ووجوب بيان تحقيق مناط الأحكام الشرعية في الأحكام التفصيلية المستمرة، واعتبار جنس المصالح، مع البحث النظري في بيان محل الحكم في الواقع.

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمَّان أرض الرباط

6- جمادى الأولى -1447

28-10-2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top