أبو بكر الصديق رضي الله عنه في مواجهة الغموض البناء والتفاؤل الحذر

تم التعريف في المقالة السابقة (الأمة في مواجهة الغموض البناء والتفاؤل الحذر) واقع أمتنا الإسلامية في ظل الغموض المخطط والمتعمد للإطاحة بالمجتمعات الإسلامية ودينها، وتحويلها إلى حطام بشري بين هارب ولاجيء ونازح، كل ذلك لم يكن ليحدث لو أن الأمة استمسكت بدينها وسنة نبيها استمساكا على الذي هو أحسن، بدلا من أن تخوض في تحليلات كثيرة تقف عند ظواهر الأحداث، دون الولوج إلى المنطلقات العقدية والفكرية التي ينطلق منها المتربصون بوجودها على خارطة الكرة الأرضية، وفي ظل هذا الاضطراب والارتباك، رجعت إلى منهج الصحابة رضي الله عنهم في التعامل مع التهديدات الداخلية والخارجية التي تربصت بهذه الأمة، وما زالت، للاستهداء بهم فهم أئمة الكتاب والسنة، وهم لمن أحب الحق والخير هداة مهديون.
رجعت إلى منهج الصديق في التعامل مع أدعياء الإصلاح المزعوم، مستهديا برواية العرباض بن سارية رضي الله عنه: قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلاَلَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ.(حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسلم إلى قيام الساعة بالاستمساك بسنة الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم جميعا، وقد آثرت أن أقف مَــلِـــيـــــَّــا مع الصديق والصحابة رضي الله عنهم، كيف تصرف هو وإخوانه الصحابة، في صَــدِّ هجمتين شرستين من الداخل على الدين نفسه، على مستوى أدعياء النبوة، وهو الكفر الظاهر، والباطنية المستترة وراء تأويلات باطلة تسقط الشريعة على المستوى البعيد كما فعل مانعو الزكاة، وفيما يأتي توضيح ذلك.

أولا: وصف مختصر لحال الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:

لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، فاختلف الصحابة في موته، بين رفعه كعيسى ابن مريم، أو ذهب لمواعدة ربه كموسى عليه السلام، فجمعهم الله على أبي بكر: حيث تلا عليهم قوله تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون، ثم اختلفوا في دفنه عليه السلام، فقال بعضهم ندفنه في مكة مولده ومبعثه، وآخرون ندفنه في المدينة مهاجره من مكة، وقال بعضهم ندفنه عند جده إبراهيم في فلسطين، فجمعهم الله على أبي بكر، فقال لهم، سمعت النبي عليه السلام يقول: إن الأنبياء يدفنون حيث يقبضون، واختلفوا في الإمامة فجمعهم الله على أبي بكر، وقال لهم قال النبي عليه السلام: الأئمة في قريش، واختلفوا في ميراث النبي عليه السلام، فجمعهم الله على أبي بكر، وقال لهم قال النبي عليه السلام: إن الأنبياء لا يورثون، ثم اختلفوا في قتال المرتدين ومانعي الزكاة فجمعهم الله على أبي بكر. (لاحظ هنا أن السنة هي التي تحسم الخلاف مع تسليم كامل من المؤمنين)

ثانيا: خطر دعوى النبوة المزعومة على مرجعية الوحي (الكتاب والسنة):

مثلت إدعاءات النبوة خطرا مباشرا وفوريا على مرجعية الأمة الأساسية في الوحي بشقيه الكتاب والسنة، وكادت دعوات النبوة هذه ترجع بالمسلمين إلى ما قبل البعثة، حيث الافتراء على الله بصناعة الأصنام وأديان بشرية مخترعة ومكذوبة، وغاية أدعياء النبوة هي القضاء على مرجعية السماء، وإعادة الحياة في رُفات المرجعية البشرية للسدنة والمشعوذين باسم الدين، وإعادة الاستيلاء على البشرية مرة أخرى، بعد تحريرهم من مرجعية الإنسان نفسه، بالنبوة الخاتمة التي وصلته بالسماء، وقد استخدم أولئك السدنة طريقة الحداثة والتنوير الجديد بالنبوات المزورة بعد سقوط عبادة الأصنام إلى غير رجعة، وهو اختراع حداثي في ظن أوليائه يناسب الواقع الجديد الذي استجاب للنبوة الخاتمة بعد جهاد النبي وأصحابه جهادا مريرا لتخليص البشرية من مرجعية المشعوذين والدجالين باسم الدين، وهاهم المشعوذون عادوا بلباس حضاري جديد وهو أنهم لا ينكرون نبوة محمد عليها السلام بل هم شركاء ديمقراطيون في النبوة، وقد اتبعهم في هذه الدعوى الكاذبة خلق كثير، من أصحاب القلوب المريضة، التي وإن أعلنت الشراكة في النبوة، وعدم إنكار نبوة النبي محمد عليه السلام، إلا أن هذه الشراكة هي خطوة غير مباركة لإسقاط النبوة الخاتمة، وإعادة إحياء مرجعية الإنسان المشعوذ في التشريع والتوجيه، الذي يوقد الحرائق والحروب هنا وهناك.

ثالثا: خطورة مانعي الزكاة:

لم يكن مانعو الزكاة أقل خطورة من أدعياء النبوة، ولكنهم كانوا أكثر حنكة وذكاء، فهم أرادوها حربا طويلة لإسقاط الشريعة الإسلامية السمحة، بالتأويلات المحرفة التي تقر بوجود النص الشرعي، ولكنه يوظف نصوص الشرع لغايات إسقاط الشرع نفسه، وتحويله إلى جثمان هامد لا أثر له في الواقع، وهذا ليس اتهاما جزافيا لهذه الفئة، ذلك لأن تأويلهم غير محتمل لقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، حيث قالوا إن الأمر موجه للنبي وليس لأبي بكر، والله خاطب النبي بقوله: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ ، وهؤلاء المانعون لم يقرأوا الآية التي بعدها مباشرة، التي تؤكد أن الله تعالى هو الذي يأخذ الصدقات، (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، فهو اجتزاء النص، وأخذ بعض الكتاب وضربه ببعضه الآخر، وهو ما يعني شعوذة إسقاط الشرع بأدلة الشرع، مع أن الشرع يصدق بعضه بعضا، إلا أن الحكمة من المتشابه في الكتاب والسنة هو استدراج لكشف الذين في قلوبهم مرض، وفضحهم إلى قيام الساعة.

رابعا: الغلاة والمتحللون كلاهما يتخلى الشرع:

ويظهر اجتزاء النصوص في يومنا هذا بين فئتين، الغلاة في الدين، بحيث يأخذون نصا ويغطون بيدهم على النص الآخر الذي يبين النص الأول، وهو أيضا شأن اللادينيين الذي يثيرون الحرب على الشريعة باجتزاء النصوص، يرفعون نصا ثم يغطون باليد الأخرى النص المحكم الذي يفسر المتشابه، كما فعل أسلافهم من يهود، وكلاهما اليوم يَـعـــِـيــثـان الفساد في دين المسلمين ودمائهم، الذين وصلت الأمة بسببهم إلى حد أن الشعب يريد إسقاط الشعب، وكلاهما عمِل على تغييب المرجعية الإسلامية الفقهية الأصولية التي تقول كلمتها في الجميع، دون محاباة، وفق ضوابط شرعية موضوعة تحكم المجتهد ولا يحكم المجتهد عليها، وذلك للحفاظ أن النص متبوع لا تابع لشهوات الناس.

خامسا: أبو بكر يتخلى عن الشرعية الثورية والتاريخية والشعبية في مواجهة الغموض البناء (الهدام):

نرى في الفكر البشري المضطرب أن من الناس من يبحث عن شرعية بلا شرع، فيلجأون إلى شرعيات تشبيهية، كالشرعية التاريخية التي كان من الممكن أن يدعيها الصديق وهي سهلة وممكنة، فقد دخل كثير قيادات المجتمع الإسلامي في المدينة الإسلام على يديه، وهو صاحب النبي عليه السلام في الغار، ويكفيه أنه أبو بكر إمامهم بالصلاة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتمسك بالشرعية الشعبية المتمثلة في البيعة بالإجماع تقريبا، ولا بالشرعية الثورية التي كان فيها هو الرجل الثاني في في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لإخراج الإنسانية بالوحي والنور الإلهي من الظلمات إلى النور، لم يستثمر الصديق حالة الفوضى لإعلان أن الظرف غير مناسب لحقوق الناس التي قررها الإسلام، ويصبح هو الزعيم الأوحد، صاحب المرجعية الأولى التي لها الشرعية التاريخية، بل أدرك الصديق أن القضاء على الفوضى الفكرية لا يكون إلا بمرجعية الشرع، وأن الأمة أحوج ما تكون إلى الشرع في وقت الاضطراب، فهو ضروري في كل وفي وقت الاختلاف والاضطراب أشد ضرورة.

سادسا: أبو بكر يرجع إلى الوحي في مواجهة الاضطراب الفكري والأمني:

بالرغم من أن أبا بكر رضي الله عنه اجتمعت له كل مقومات قيادة المجتمع الإسلامي، وشرعية الرمز الوارث لمقام النبوة، إلا أن الصحابة رضي الله عنهم جميعا عارضوا أن ينفذ بعث أسامة في الظروف المستجدة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لحماية المدينة، وكان هذا رأي جماعة الصحابة رضي الله عنهم بلا مخالف إلا أبا بكر، واعتقد الصحابة رضي الله عنهم، أن هذه من مسائل الإمامة والدولة، وللأمة فيها رأي بعد النبي عليه السلام لاختلاف الظروف، وهذا وجيه جدا من الناحية الفقهية، ولكن بالنسبة للصديق له توجيه آخر، وهو الاتباع الكامل مع الوعي الشامل، ولم يختلف الصحابة رضي الله عنهم في المرجعية نفسها، بل تنوع اختلافهم في فضاء المرجعية الشرعية، التي تقيم فضاء رحبا في النظر والاجتهاد ولكن في فهم النص واتباعه، لا في التلاعب به وإلغائه.

سابعا: حوار في اتباع النص لا في إلغائه:

جاء الفاروق عمر رضي الله عنه إلى الصديق قائلا : كَيفَ تقَاتل النَّاس وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ” أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله، فَمَن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله عصم مني مَاله وَنَفسه إِلَّا بِحقِّهِ، وحسابه على الله " فَقَالَ أَبُو بكر: وَالله لأقاتلن من فرق بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة، فَإِن الزَّكَاة حق المَال، وَالله لَو مَنَعُونِي عنَاقًا كَانُوا يؤدونها إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقاتلتهم على منعهَا، فَقَالَ عمر: فوَاللَّه مَا هُوَ إِلَّا أَن رَأَيْت أَن الله شرح صدر أبي بكر لِلْقِتَالِ، فَعرفت أَنه الْحق.
يلاحظ أنه لم تكن شخصية الصديق هي المرجع في الحوار بل كان الحوار حول النص الصحيح نفسه، بين الأخذ والمراجعة من أهل الاختصاص والنظر في الأمر، وكانت المدينة المنورة في حالة انتظار لما يقرره الاجتهاد الذي يتبع النص بصدق وإخلاص ويتجرد من النوازع الدنيوية ويكون فيه طلب الحق على لسان الشرع هو أسمى أمنيات المسلم، ولما رأى المجتمع بقياداته العلمية والعسكرية والاجتماعية صدق اتباع الصديق للنبي صلى الله: بجوابه كيف أحل راية أسامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه: أنفذوا بعث أسامة والوحي ينزل؟!

ثامنا: ثمرة الاتباع للسنة:

وفق الله المسلمون لاتباع للسنة بما قدموا بين يدي الله ورسوله من صدق الاتباع، وترك الابتداع والإحداث في الدين، فأنفذوا بعث أسامة، وقال الصديق لأسامة: انفذ لما أمرك رسول الله! ولكن أبا بكر أرشد أسامة أن يطأ بخيله تخوم القبائل العربية في طريقه للشام، حتى وصل الجيش إلى تخوم الدولة الرومانية وأفزعها على حدودها، وتوجس من تحدثه نفسه بالردة خيفة من جيش أسامة وهو يَـــــفْـلُق الصحراء باتجاه الروم، ورجع الجيش بعد شهرين موفورا دون قتال وغنم وحقق نصرا معنويا أقوى بكثير من نصر عسكري في معركة، وقام الصديق بتأمين جزيرة العرب، وأشعر فارس والروم بأن المجتمع الإسلامي متماسك ومتحد، وما زال المسلمون يجثون بركبهم وقلوبهم الصادقة بين يدي النبوة الخاتمة ينهلون من الحق فيها ثم يبلغون رسالات الله للإنسانية.
تذكر بعض الروايات أن أبا رجاء البصري قال: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلا يقبل رأس رجل، وهو يقول: أنا فداؤك، ولولا أنت لهلكناا.ه، عمر كان يقبل رأس الصديق رضي الله عنهما، نعم لتكن هذه العلاقة مع الكبار من قيادات المجتمع المسلم ينشغلون بقضايا الأمة المصيرية ويقفون فيها وِقفتهم في صف الصلاة، فإن لم يفعلوا ذلك في شؤون المسلمين العامة، فماذا تعلموا من صفهم صفا مستقيما في الصلاة.

تاسعا: عاقبة التخلي عن السنة:

إن النص هو وحي من الله سواء كان كتابا أم سنة، والمبلغ عن الله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي آمن كل مسلم أنه نبي الله تعالى ورسوله، فإذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو سيد منابر المسلمين ونواديهم، في شأنهم العام والخاص، فمن هو ذلك الشخص الذي يمكن أن يحل مكانه؟ يعني ذلك أن وحدة المسلمين وجماعتهم هي في نبيهم، ولن يجتمعوا على أحد غيره أبدا في تنظيم الحياة وتوجيهها، وحسبك بالمسلمين اليوم فرقة وتشرذما، وقد ملئت حياتهم بكثرة الإشكالات، إشكالية الدستور، والمواطنة والانتماء، والمرأة، والفقر …، مع الأسف تركوا البيان في كتاب الله وسنة نبيه، وانشغلوا بوهم الإشكالات الكثيرة، فكانت عاقتبهم أنهم تفرقوا، واستبيحت أرضهم، ومقدساتهم، ودماؤهم بلا طائل، ولو أنهم في أجواء الغموض المتعمد والمخطط اقتدوا بأجدادهم الفاتحين لكان خيرا، لهم، ولقادتهم نصوص الوحي إلى مصلحة الدنيا والآخرة،

(ومَــنْ لـَــم يجعلِ اللهِ لهُ نوراً فما لهُ مِن نور)

وكبته الفقير إلى عفو ربه
د. وليد مصطفى شاويش
عمان المحروسة
صبيحة الجمعة، 20/2/2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top