حديث ابن عباس رضي الله عهما في جمع الصلاتين قراءة فقهية أصولية

أولا: نص الحديث وتأويله:

1-النص:

جاء في صحيح مسلم  عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، في غير خوف، ولا سفر» وفي رواية أخرى عن ابن عباس، قال: «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة، في غير خوف، ولا مطر» في حديث وكيع: قال: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: «كي لا يحرج أمته»، وفي حديث أبي معاوية: قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: «أراد أن لا يحرج أمته».

2-تأويل الإمام مالك-رحمه الله:

وجاء في تأويل الإمام مالك في الموطأ لبعض الروايات عن ابن عباس أنه قال صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر» قال مالك أرى ذلك كان في مطر)، وهذا من تأويل الإمام للنص بحسب كليات الشريعة وأصولها، وأن النصوص الجزئية تعرض على كليات الشريعة التي عليها جمهور نصوص الشريعة، فيكون المنهج الأصولي فهما للنص الجزئي بمَعُونة جمهور النصوص الشرعية، لا نظرا مجتَزَأً يعمل ببعض الكتاب ويهْجُر بعضه.

ثانيا: دلالات الألفاظ في الحديث:

1-دلالة  الفعل (جَـمَع) في الحديث:

إن الصحابي ابن عباس رضي الله عنه يحكي فعلا بلفظ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلالة الفعل مُـجْمَلة، أي محتملة لأكثر من معنى من حيث ما يأتي:

أ-الدلالة على الحكم: 

إذ تجرد الفعل عن القول فإنه يتحمل أن يكون: مندوبا، أو واجبا، أو مباحا، أو مبينا للمكروه كشُربِه صلى الله عليه وسلم  مِن فَم القربة ،وقد نهى عن الشرب من فمها، فتكون دلالة الشرب صرف النهي عن الشرب من فم القربة من التحريم إلى الكراهة.

ب-الدلالة على العموم:

كما أن الفعل مجمل في الحكم فهو أيضا مجمل في العموم، فلا يقتضي عموما في الأفراد والزمان والمكان، من حيث دلالة النص نفسه، مع العلم بأن الأمر بالقدوة هو أمر بالاقتداء في الفعل والقول والتقرير، ولكن هنا ينبغي بيان دلالات الألفاظ من حيث هي، ثم الجمع بين الأدلة الفعلية والقولية.

ثالثا: كيف يرتفع الإجمال عن الحديث:

وبناء على ما سبق فإن الفعل (جمع) في الحديث محتمِل للحكم، ولا عموم فيه من حيث نفسه، وعليه فهو حالة معينة، يكفي للعمل به مرة واحدة، ويرتفع به الإجمال، ويكفي ذلك للعمل فيه، وهذا هو الذي عليه عمل به السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان من أئمة المذاهب المتبوعة، أن حديث ابن عباس رضي الله عنه مجمل ويكفي لرفع الإجمال فيه العمل بما فيه مرة واحدة.

رابعا: لا داعي لمناقشة سند الحديث بسبب المتن:

لا يصح الذاهب إلى رد حديث ابن عباس بسبب متنه بعلة أنه مخالف لعمل السلف والمذاهب المتبوعة، لأن الحديث صحيح في متنه وسنده، ولكن العبرة في فهمه، وكثيرا في زماننا ما تُتوهم مخالفة الحديث للأصول والقواعد ويُشَكَّك في صحته بسبب مَتْنه، وهذا آفة هذه الزمن، الذي تجرأ فيه بعض الكتاب على الصحيحين توهُّما منهم أن الحديث يخالف الأصول، ويرد بسبب ذلك الوهم، وحديث ابن عباس ليس بيانا بل مجمَل، فكيف يعارض الأصول، وهو حالة معينة للإجمال في دلالة الفعل التي يكفي أن يعمل لها  واقعة معينة، لأنها لا عموم لها.

خامسا: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا:

بعدما بينت أن حديث ابن عباس رضي الله عنه مجمل من الخفي الذي يتضح بفعله ولو مرة واحدة، لأنه مجمل في العموم والحكم، فإن السؤال أين البيان في أوقات الصلاة، والجواب هوالآية : (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) فهي من  البيان  الواضح لا من المجمَل، ذلك أن الصلاة المحلاة بأل تفيد العموم كل الصلوات المفروضة وحكمها المؤكد بقوله تعالى: (إن، وكتابا ) هو التوكيد على الحكم، بأنها لها أوقات محددة، وهذا حكم يعُم الأفراد، وهي كل الصلوات المؤقتة، وكل الأزمنة والأمكنة والأفراد.

قال في المراقي:

ويلزم العموم في  الزمان*** والحال للأفراد والمكان.

سادسا: تخصيص العام من الشارع لا من الواقع:

كما أن الصلوات جاءت مؤقتة، فإنها خُصَّت في الجمع بعرفة والمطر والسفر  وأمثالها، أي بأحوال معينة عينها الشارع، ولا يجوز أن تُخترع حالات جديدة تغير على أوقات الصلاة مثل: الحظر، والغبار، وزحمة العمل، لأن الجمع بين الصلوات رخصة، والرخص شرعت بنوعها لا بجنسها، واختراع رخص جديدة بالقياس على جنس المشقة لا نوعها هو إحداث في الدين، وتبديل لأحكام الصلاة، بحيث تصبح الصلاة تشبه الصلاة ولكنها ليست هي الصلاة، في هذا الزمن الذي ولَدَت الأَمة ربَّتها.

سابعا: الرخص معتبرة بالنوع لا بالجنس:

ما مِن عام إلا وقد خص، ولو صح إطلاق العمل بقول الله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج، وبقول ابن عباس:   أراد أن لا يحرج أمته، لكان ذلك إلغاء لعزائم الشريعة التي هي الأصل، لأن الرخصة الشرعية اعتبرها الشارع بالنوع، مثل الفطر للمسافر والمريض، ولم يجز الفطر للسائق في البلد ولو قطع أكثر من مسافة السفر، ولا الفطر لأصحاب الأعمال الشاقة كعمال البناء والخبازين لو لحقهم بذلك مشقة معتادة في الصنعة، ومثل ذلك الجمع في الحظر لأن المشقة في الحظر ليست نوع المشقة في المطر، بل الحظر من جنس المشاق التي تعرض للتكليف، ولو أسقطت لسقطت الشريعة، فعُلم من ذلك أن الحرج المدفوع هو الحرج الفادح، أو حيث رخصت الشريعة في مواطن مخصوصة.

ثامنا: أراد أن لا يحرج أمته:

1-لا تعميم ولا تخصيص:

يتحقق معنى رفع الحرج بالصورة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم  في حينه، وتبقى واقعة عَين، وإن المستدل بالحديث على الجمع من غير الأسباب المنصوصة، لا يفعل ذلك في باقي أحكام الشريعة، بل يضطرب في التعميم في رفع الحرج فيرفعه مرة ولا يرفعه أخرى من غير ضابط ولا رابط، إذْ لو صح استدلاله رفع المشقة  في كل حالة لَرُفِعَت الشريعة ولم يبق منها شيء، لأنه ما من حكم تكليفي إلا وفيه مشقة، فلا هو عمم رفع الحرج، ولا خصصه بالحالات المنصوص عليها، ومن خرج من حد الشارع لم يعد له حَدٌّ ينتهي إليه.

2-الانتهاء إلى العدمية الدينية:

 وانتهى إلى العدمية بسبب التناقض، بل انفلت من عقال الشريعة إلى العدم، ومن خرج من حَدِّ الشارع، ولم يَعُد له حَدٌّ ينتهي إليه، بسبب ظهور حالة التنحيث، وهي أن من وجب عليه التقليد ينحت لنفسه متشابهات من الشريعة يبدل فيها الشريعة، ويَرُدُّ ما عليه عمل الأمة في صلاتها كما هو محرر في المذاهب الأربعة المتبوعة، ويخرج إلى الفراغ لا يكاد يَلْوي على شي.

تاسعا: قلْب معاني الشريعة :

بناء على ما سبق، علمتَ أن حديث ابن عباس رضي الله عنه مجمل، وأما الآية الكريمة فهي بيان، وقد تنبه السلف لذلك فصلَّوْا الصلاة في أوقاتها إلا في مواطن الرخص المنصوصة، كعرفة والمطر والسفر وأمثالها، وحافظوا على الصلاة في وقتها، وأما في زماننا فقد شاع التنحيت حيث يلفق المقلد لنفسه دينا من المتشابهات، ثم يزعم أن هذا من السنن المهجورة، مع أن الأمة لم تفعل ذلك على علم وبينة لا عن جهل وعَمَى، ويقلب الصلاة، فهي تشبه الصلاة المشروعة ولكنها ليست هي الصلاة، بل ولدت الأمة ربَّتها.

الخلاصة:

1-يجب تعيين النصوص المتشابهة والمحكمة ثم رَدّ المتشابه للمحكم، ومن عمَّم رفع الحرج وجمَع بين الصلوات من غير الأعذار المنصوص عليها فقَد تتبع المتشابهات وعاند المحكمات.

2-الصلاة آخر عرى الإسلام نقضا، والفتاوى الشاذة نقضت الصلاة في أوقاتها وطهارتها وأدائها.

3-النص بين يدي المجتهد ينتج علما وهدى، وأما النحات فتتشابه عليه الأدلة، وتتناقض عليه الظواهر.

4-النحات مقلد وثق بنفسه، وأبطل اجتهادات الأئمة وهو يظن أنه يحسن صنعا.

5-رد نصوص الصحيحين لتوهم مخالفة الأصول وهْم على وهْم

6-يجب إعمال الصنعة الأصولية في فهم السنة

7-التحذير من التنحيت الذي قلب الشريعة بتتبع المتشابهات

8-تجب العودة الراشدة إلى تحريرات المذاهب الأربعة في فهم السنة

9-تلقت الأمة الصحيحين بالقبول ولا نعيد صناعة العجلة من جديد للتشكيك في السند.

10-الفقه الإسلامي بنائي تراكمي يبني على ما سبق ولا يهدمه.

11-كثرة الوعظ والبكائيات لا تعني أننا على بينة من ربنا، بل لا بد من قواعد أصولية محدِّدة وحاكمة.

12-حالة التيه التي أصابت أهل السنة، سببها تنكب طريق المدرسة الحديثية والفقهية والأصولية السنية والتشكيك فيها باسم التجديد الديني.

13-خطورة الانطباعات النفسية على نصوص الشريعة وتفسيرها بادي الرأي.

مقالة ذات علاقة:

خطورة الفتاوى الشاذة على أركان الإسلام

الكسر في الأصول لا ينجبر

الطريق إلى السنة إجباري

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

22  -جمادى الآخرة-1443

26-1-2022

3 thoughts on “حديث ابن عباس رضي الله عهما في جمع الصلاتين قراءة فقهية أصولية

  1. يناير 26, 2022 - محمد حسين

    بوركتم شيخنا وجزاكم الله خيرا

  2. مارس 10, 2022 - غير معروف

    بارك الله بكم وبعلمكم شيخنا ونفع بكم
    جزيتم خيرا .

  3. أغسطس 25, 2022 - غير معروف

    حمله النووي وغيره على المرض، وهو عذر له شاهد من الشرع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top