حوار مع أخي الحلقة (3) عودة إلى عزيز وأهمية اللغة في فهم الكتاب العزيز

هذه الحلقة اليوم مع أخي عزيز، وقد سبق أن تداولت معه حد الردة وآثاره، والجهة التي تختص بالحكم بالتكفير، وتنفذ آثار الردة، واليوم أتحدث معه في أمر من أمور الشريعة ووجوب اتباعها، وحديثي اليوم معه في نوع من أنواع المجاز في فعل الأمر عند الأصوليين، وهو أن الأمر قد يراد به التهديد، ولا يقصد منه حصول الفعل، كقول أحد المتخاصمين لخصمه: “افعل ما تريد”، “وأعلى ما في خيلِك اركبْ”، ومن هذا قوله تعالى: {فَمَن شاء فَـلْيؤمن، ومن شاء فَــلْـيكْفُر، إِنَّا أَعْــتـَـدْنا للظالمين نارا أحاط بهم سُرادِقُها}، فقوله تعالى: “ومن شاء فليكفر“، لا تخيير فيه، ولا يطلب فيه القيام بالفعل، لأنه أعقبه تهديد لمن يكفر، وهو قوله تعالى: إِنَّا أَعْــتـَـدْنا للظالمين نارا أحاط بهم سُرادِقُها، فهنا وجب تفسير قوله تعالى: (فليكفر) على التهديد لِــمَـن يستحبون الكفر على الإيمان.

ومن الآيات التي تفسر خطأ، قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} فيظن بعض الناس أن الكتاب العزيز، يقرر أنه لا أحد يعرف من هو المهتدي، فربما يكون المؤمنون على ضلالة، ويكون الضالون على هداية، ونسي أن من معاني(أو) الإلغاز والإبهام على السامع، وليس الجهل أو الشك من المتكلم، ومثال ذلك كما كنا نلعب قديمة بالنقود المعدنية (الفَــنــَّــــة)، ونقول: صورة أم كتابة، واللاعب بالنقود يعرف تماما ويقينا، أنها كتابة مثلا، ويُلغِز على صديقه في اللعب ليحثه على التفكير، فهو لا يعني بحال أنه يجهل ويشك في الواقع صورة أم كتابة، بل هو يتفنن في المعرفة واليقين والتثبت، ويُـلْغِز ويبهم على الجاهل ليحمله على البحث والفحص، والتثبت من الحق، فانظر يا أخي كيف فسَّر بعض الجاهلين الآية على التشكيك والإبهام في الدين، وجعل المهتدي والضال سواء، بسبب الجهل بمعنى حرف العطف (أو) أنه للإلغاز والإبهام على الخصم لحثه على الفهم، لا للتشكيك.

وفي إطار هذا الموضوع جرى الحديث الآتي:

بعد الترحيب والمصافحة وتبادل المودة والمحبة

وليد: أخ عزيز، لماذا تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، والله تعالى يخير الناس ويعطيهم الحرية أن يكفروا به، فقد قال تعالى: (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)

عزيز: لا بد من تحكيم الكتاب والسنة، وإقامة الشرع.

وليد: الكتاب يقول لك (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)، فلماذا تكره الناس على إقامة الكتاب، والكتاب العزيز، يقول (ومن شاء فليكفر).

عزيز: لابد من إقامة الدين.

وليد: والدين لا يُجبِر الناس، والآية حُجة عليك، ألم تعط الآية للناس الخيار، وقالت: (ومن شاء فليكفر)؟!!!

عزيز: كيف؟؟!! إقامة الشريعة مسلمات في الإسلام، فلِمَ النقاش في هذا؟

وليد: أليست الآية مسلَّمة يا عزيز، وهي عليك وليست لك، وأنت لم تناقش في معناها، وأنت ما زلت تفهم أن الآية تخير الناس، هذا فهمك يا أخ عزيز.

عزيز: ؟؟؟؟؟

وليد: ماذا تقول في معنى قوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)، أليست هذه الآية يا أخ عزيز توكد معنى الآية السابقة (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)، لماذا تريد يا عزيز أن تقيم الشريعة، والآيات لا تساعدك، أجب على هذه الآيات ماذا تقول يا عزيز؟

عزيز: والله بصراحة الجواب عندك، أسمِعني.

وليد: أكيد يا أخ عزيز أن تطبيق الشريعة واجب، ولكن افترض يا عزيز أنك تدعو إلى الشرع في مجلس عام، وبينما أنت تدعو لتطبيق الشريعة، برز لك أحد المُمتحِنين لك أو المتلاعبين وأتى لك بهاتين الآيتين وهذه الأفهام المنحرفة، وجادلك فيهما ليعطل شريعة الإسلام، وكان موقفك بهذا الضعف في الدفاع عن الشرع. وخسرت القضية في المجلس أمام الناس الذي يحبون شريعة الله تعالى؟ أليس ضعفك هذا فتنة لهم؟ ولك أيضا؟ ألا تشعر يا عزيز بضرورة علم أصول الفقه لضبط الفهم؟

عزيز: نعم، وأرغب في تعلم أصول الفقه.

وليد: أما الجواب في قوله تعالى (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)، فعل الأمر فليكفر ليس لطلب تحصيل الفعل، بل للتهديد والوعيد، وهو نوع من أنواع المجاز في فعل الأمر، ولفعل الأمر نحوا من خمسة وعشرين نوع مجاز، والتهديد والوعيد بفعل الأمر من بعض المجاز في فعل الأمر، وقلنا بالمجاز، لأن الله تعالى هدد الكافرين، بعد قوله تعالى (فليكفر)، فقال تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقا)، فهذا التهديد نـَــقَل فعل الأمر من وجوب تحصيل الفعل إلى التهديد والوعيد على فعله، ومثله حديث الخصوم: (والله لأضربنك)، فيقول الخصم الآخر مهددا: (إذا كنت رجلا فافعل)، فهل هذا يعني أن الخصم يطلب من خصمه أن يضربه؟! أم ينهاه عن الضرب مع التهديد إن فعل؟ فهل يا أخ عزيز الآية تدل على التخيير في الإيمان؟ أم على الوعيد على الكفر وترك الإيمان؟

عزيز: صحيح فعلا، الآية تأمر بالإيمان وإحياء الشريعة والعمل بها، والوعيد على الكفر وترك الإيمان.

وليد: هل عرفت يا عزيز ما سبب خسارتك للقضية العادلة التي تحملها؟

عزيز: نعم، خسرت القضية بسبب جهلي بعلم دلالات الألفاظ، فهو ضروري لفهم الكتاب العزيز الذي ندعو إليه.

وليد: أتذكر يا عزيز عندما تكن تفتي في العقيدة بتكفير المسلم، بل وإقامة الحد عليه دون رجوع إلى القضاء، وتريد أن تقيم الشريعة بيدك؟

عزيز: نعم، وقد كنت مخطئا وقتها، ولم أكن أعلم بأن الحدود الشرعية والقضاء بالكفر على الأعيان، من اختصاص الدولة، وليس الأفراد.

وليد: إذن يا أخي العزيز والحبيب عزيز، كيف كنت تفتي في قضايا الإيمان والكفر والدماء؟ وأنت لا توجد لديك القدرة العلمية اللازمة لفهم الكتاب؟ فكيف يا عزيز ستطبق القرآن الكريم وأنت لا تفهمه؟! بل وفي أخطر قضايا الدنيا: الكفر، والدماء.

عزيز: صحيح أنا كنت مخطئا ولم يـُـعلِّمْنا أحد، وكيف نتعلم الآن؟

وليد: ستتعلم إن شاء، وأرجو أن تكون من خيرة طلاب العلم يا أخ عزيز.

عزيز: وماذا عن قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، لقد حَــيَّـــرتَــني فيها، وما عُدْت أدري ما أقول.

وليد: مفتاح فهم هذه الآية الكريمة هو حرف العطف: (أو).

عزيز: كيف؟!

وليد: إذا عرفت يا عزيز معاني حروف الجر والعطف ستفتح لك بابا عظيما من أبواب فهم كتاب الله تعالى؟

عزيز: إذن ما معنى (أو) في الآية؟

وليد: حسنا، (أو)في الآية الكريمة تفيد الإبهام والإلغاز، وهي صفة في السامع، وليست في المتكلم؛ لأن المتكلم عارف بالحقيقة، أتذكر لعبة (الفـَــــنـَّــة) صورة أم كتابة؟؟!

عزيز: نعم أذكرها كنا نلعبها صغارا.

وليد: عندما كانت النقود في يدك وتقول لصديقك صورة أم كتابة، وأنت تعلم أنها صورة، هل كان صديقك يعلم؟

عزيز: كنت أعلم أنا حقيقة أنها صورة مثلا، وصديقي الذي أسأله لا يعلم؟ وكنت أحثه على التفكير؟

وليد: إذن حرف العطف (أو) هنا ليست للتخيير، ومثالها للتخيير قوله تعالى: {فكّفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تُطْعِمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة}، وكقول الأب لابنه: ادرس الطب أو الهندسة، فهل ميزت أخي عزيز بين أو عندما تكون للإبهام والإلغاز، وبين أو عندما تكون للتخيير؟

عزيز: المعاني واضحة عندي في حرف العطف (أو).

وليد: ماذا نستفيد يا أخ عزيز من هذا النقاش المفيد والممتع معك؟

عزيز: لا يجوز للمسلم أن يخوض في كتاب الله تعالى دون أن يكون مؤهلا علميا، خصوصا في المسائل التي يترتب عليها آثار عظيمة كالكفر والإيمان، والدماء، وعلاقة المسلمين بين بعضهم بعضا.

وليد: أسأل الله تعالى يا أخ عزيز أن يفهمنا كتابه وسنة نبيه، وأن يرزقنا شرف العمل بهما، وهنا تذكرت شيخي في النحو الشيخ الطالب أحمد رحمه الله تعالى، وقد كان ينشد في مجلس النحو:

حِفْظ اللغات علينا   ***  فرض كَــفَرض الصلاةِ

فليس يُحفظ دينٌ*** إلا بحفظِ اللغاتِ

ملاحظات مهمة:

  1. هدف الحوار بيان أن الفهم في كتابة الله تعالى وسنة رسوله أمر عميق لا يحسنه إلا أهله، وأن استباحة النصوص الشرعية من غير المؤهلين هو مقتل لهم في دينهم ودنياهم، ومؤذٍ لمجتمعاتنا الإسلامية، وهذه الاستباحة يفعلها اثنان: الغالي في الدين والجافي عنه، فاللادينيون يختطفون النصوص الشرعية ويُلبِّسون بها على عامة المسلمين، والغلاة كذلك لا يتعاملون مع النص على أسس علمية وموضوعية، وهم يوجهونه لخدمة أفكارهم المسبَقة، وتصبح النصوص الشرعية بذلك خادمة لأغراض الغلاة في الدين والمتحللين اللادينيين، وكلاهما يَـحْرِف الشرع عن صراطه المستقيم، ولا بد للمسلمين أن يحذروا من تحريف معاني النصوص الشرعية على يد الغلاة والجفاة.
  2. الدعوة إلى تطبيق الشريعة هو مبدأ إسلامي رصين وثابت، وأكثر ما يَضر به هو الطرق والآليات العنيفة التي ينتهجها بعض الأفراد من عند أنفسهم، متناسين أن الشريعة هي خيار الأمة ودينها، وليس مجرد سلوك فردي، بل هو حركة مجتمعية عامة، وأن المحاولات العنيفة الفردية الخارجة على المجتمع، لتطبيق الشريعة هي مخالفة للشريعة نفسها، بل وتوفر غطاء إعلاميا لأعداء الشريعة، للتحذير من الشريعة وتخويف الناس منها، وتظهر بذلك علاقة التخادم بين الغلو والتحلل، حيث يرد الغلو على التحلل بالعنف، ويستخدم التحلل هذا العنف مادة وسلاحا في محاربة الكتاب والسُّنة، وهذه دُوَّامة تحرم مجتمعاتنا الإسلامية من نعيم الإسلام عقيدة وشريعة، وتبقى هذه المجتمعات فريسة الثنائي الدموي التحلُّـل والغلو.

للمزيد من الحورا مع الأخ عزيز، الرجاء النقر على الرابط أسفله

حوار مع أخي الحلقة (1) التسرع والغلو في تكفير المسلم

وكتبه الفقير إلى عفو ربه

د. وليد مصطفى شاويش

اليوم: صبيحة الجمعة

التاريخ: 20/3/ 2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top