حوار مع أخي الحلقة (5) المال الحرام

بما أننا نعيش ضمن مجتمع إنساني، فإن من المتوقع أن يكون هناك أصحاب كبائر، لا يراعون الشرع فيما يكتسبون من مال، فتراهم غارقين في تجارتهم المحرمة، مخدرات، وربا، ورشوة، وغير ذلك من وجوه الكسب المحرم، الذي هو أكل لأموال الناس بالباطل، ومع ذلك فإن خَلَجات الإيمان تخالط أصحاب الكبائر من المسلمين، ولكن يريهم الشيطان طريق التوبة مغلقا، بل ويذهب معهم إلى ما هو أشد من ذلك، فيوسوس لهم أنهم قد أطعموا أولادهم من المال الحرام، وأن لحم أولادهم من الحرام، ولحم نبت من السحت فالنار أولى به، فيزيدهم غرقا وتيها، فيزدادون يأسا على يأسهم، فلو رغبوا في التوبة فماذا يفعلون بأبنائهم وزوجاتهم الذي أطعموهم المال الحرام، فأنى تصح التوبة مع هذا الحرام الذي خالط عظام أبنائهم وزوجاتهم؟ في هذا المحور جرى الحوار الآتي بيني وبين أبنائي وبناتي طلاب مادة النظام المالي والاقتصادي في الإسلام.

بعد الترحيب والمقدمة

خالد: أعرف بعض الإخوة الصالحين أن لهم أختا زوجها يعمل في مصرف ربوي، وهم لا يزورون أختهم حتى لا يشربوا أو يأكلوا من مال زوج أختهم لأن ماله مال حرام!!!

أحمد: طبعا المسلم لا يأكل من المال الحرام، وهذا من باب الورع.

خديجة: الوظيفة في البنك الربوي حرام لأنه يعين على أكل الربا، وعليه فإن مال زوج الأخت مال حرام، لأن الوظيفة محرمة وفيها إعانة على الربا، وهو إثم وعدوان.

وليد: دعُونا نناقش الأمر علميا حسب الفقه وأصوله، بعيدا عن هذا الأسلوب الخطابي الذي يتحدث بالذوق والشعور في أمور الدين، دون تأصيل علمي.

أحمد: وهل هذه تحتاج إلى بحث، الأمر واضح الرجل يكسب مالا حراما، وأولاده يعيشون من مال الحرام الذي يكسبه أبوهم، واللحم الذي نبت من السحت النار أولى به!

وليد: إلى متى نتحدث بالمشاعر والذوق الشخصي في أمور شرعية، دعونا نناقش ونتساءل، فأنتم تتحدثون بلغة العامة، ولم تكلفوا أنفسكم طرح تساؤلات على الأقل في الموضوع، ونحن هنا في مجلس علمي، ولسنا في برنامج حواري للتعبير عن الرأي، وأنا لست هنا مقدم برامج، لا بد أن نطرح الأمر على بساط التشريح الفقهي الأصولي، ونخضعه للمعايير الفقهية، ونتأكد إن كان هؤلاء الإخوة الذين لم يزوروا أختهم للسبب المذكور هو شرع ودين أم لا؟

مجموعة من الطلاب: صحيح فلنناقش الموضوع علميا.

وليد: نتفق جميعا أن الذي يعمل في مصرف ربوي، وله علاقة مباشرة بعقد القرض إعدادا وشهادة وغير ذلك، أن عمله محرم، ومن ثَم فإن راتبه حرام، هل هذا صحيح؟

مجموعة من الطلاب: متفقون، ولا مخالف في هذا.

وليد: إذن واضح أن سبب كسب الراتب هو العمل المحرم، وبناء على أن سبب الكسب هو الوظيفة المحرمة، إذن الراتب حرام بناء على أن سبب الكسب الوظيفة المحرمة.

أحمد: إذن هو مال حرام والزوجة تأكل هي وأولاده من المال الحرام!!

وليد: لا تستعجلوا، إذا كان راتب الزوج حراما لأن سبب الكسب حرام، وهو العمل المحرم في البنك، فهل سبب كسب الزوجة من الزوج حرام، أم أن الزوجة تأخذ من مال الزوج بسبب مشروع وهو النفقة الواجبة؟!

مجموعة من الطلاب: ما تأخذه الزوجة من مال الزوج هو بسبب مشروع وهو النفقة الواجبة على الزوج!

وليد: إذن، الزوجة تأخذ كسبها حلالا لأن راتب الزوج المحرم انتقل إليها بسبب مشروع وهو النفقة، وعليه فإن المرأة تأكل من مال زوجها حلالا طيبا، لأنها أخذته بسبب مشروع عند الله وهو النفقة.

مجموعة من الطلاب: لكن الراتب حرام، فكيف يصبح الحرام حلالا؟!

وليد: إن الذي جعل الكسب حراما هو السبب الحرام، وهو الوظيفة المحرمة في البنك الربوي، وكذلك السبب المشروع يجعل المال طيبا حلالا، كما هو الحال في زوجة موظف البنك الربوي، وتاجر المحرمات، فالمرأن تأكل من مال زوجها حلالا طيبا، فكيف تقولون إنها تأكل هي وأولادها مالا حراما، وقد أخذته بسبب مشروع وهو النفقة!

خديجة: وبناء على هذا هل ما فعله الإخوة الذين لا يزورون أختهم صحيح أم غير صحيح؟

وليد: هؤلاء الإخوة يتناولون الضيافة في بيت أختهم بسبب مشروع هو الضيافة المشروعة، ولو كان كسب زوج أختهم محرما، إضافة إلى أن أي إنسان مهما كان واقعا في الكسب الحرام، فإنك ستجد في ماله حلالا، من ميراث وهبة وربح في بيع مشروع …، فـلِم الإعراض عن الضيافة الحلال لذوي الأرحام والأقارب ، وقطع الرحم وعدم زيارة الأخت، وإفساد ذات البين، مع أن الضيافة مشروعة، وهذا من تلبيس الشيطان على الإخوة، فقد أوقعهم في كبيرة قطع الرحم من باب الورع في غير محله؟ وهذا بسبب جهل الناس بالشرع، والجهل من أكبر مداخل الشيطان للإنسان.

أحمد: هذا يعني أنه كلما تغير سبب الملك تغير حكم المال.

وليد: نعم، وهناك قاعدة فقهية تقول: تبدُّل سبب الملك كتــبدُّل عين المَملوك.

مجموعة من الطلاب: تحتاج هذه القاعدة إلى توضيح.

وليد: فكما أن راتب موظف المصرف الربوي حرام بسبب عمله المحرم، فيمكن أن يتحول راتبه حلالا لك يا أحمد؟

أحمد: وكيف يكون لي حلالا؟!

وليد: افترض يا أحمد أنك بعت سيارتك لموظف البنك الربوي، ما حكم الثمن الذي أخذته من موظف البنك الربوي؟

أحمد: حلال لأنني أخذته ثمنا لسيارتي، وبعقد بيع مشروع شرعه الله تعالى.

وليد: وكذلك الزوجة والأولاد والضيوف، يأكلون من مال قربيهم حلالا طيبا ولو كان في ماله حرام، لأن تبدل سبب الملك كتبدل عين المملوك، فكأن النقود نفسها تغيرت من حرام إلى حلال إذا كان السبب حلالا، وينتقل من الحلال للحرام إذا كان السبب حراما.

مجموعة من الطلاب: هل هناك مثال آخر على حالة عكس التي ننظر فيها الآن.

وليد: إذا كانت نقودك في جيبك من كسبك الحلال، ثم سرقها لص، ألا تتحول من حلال لك إلى حرام على اللص؟ّ

مجموعة من الطلاب: نعم.

وليد: ما الذي جعلها حلالا لك وحراما على اللص، مع أن النقود هي نفسها؟

مجموعة من الطلاب: سبب الكسب الحلال لي جعلها حلالا، وسبب الكسب الحرام للص جعلها عليه حراما.

وليد: ولكن هل تغيرت النقود نفسها فعلا، أم هي نفسها كانت حلالا باعتبار السبب الحلال، وأصبحت حراما بسبب الكسب الحرام كالرشوة والسرقة، والربا؟!

مجموعة من الطلاب: نفهم من ذلك أن التحريم لا يتعلق بعين النقود نفسها، بل التحريم والتحليل بحسب سبب الكسب، فإن كان الكسب حلالا كانت النقود حلالا، وإن كان سبب الكسب حراما كانت النقود حراما.

وليد: هذا صحيح وهو عَين الشرع يا أبنائي، وهذا معنى كلام السادة الفقهاء: (النقود لا تـــتـعيــَّن بالتعيين)، ولاحِظ أنها تثبت في الذمة، ولا يجب ردها بعينها في القرض والوديعة، بل يُرَدُّ مثلها فقط، ومن كَسَب مالا حراما على شكل نقود فإنه يلزم ذمته، ولا يضر الآخرين إذا أكلوا من طعام اشتراه من كسب المال الحرام، لأن المظلوم لا يتعلق حقه بما اشتراه الجاني بائع المخدرات من الطعام، بل يتعلق بالنقود التي دفعها الضحايا ثمنا للمخدرات، وهي لازمة في ذمته، وعليه رد ما أخذه من الضحايا مقابل المخدرات، لأنه أكل أموالهم بالباطل فيما لا يُنتفع به شرعا.

مجموعة من الطلاب: هذا يعني أن المرابي إذا أخذ مائة دينار ربا، ثم اشترى طعاما لأهله فإن حق المظلومين بالربا لا يتعلق حقهم بالطعام، إنما يتعلق حقهم بمائة دينار ربا في ذمة المرابي، وليس في الطعام الذي يشتريه المرابي لأولاده.

أحمد: ليس من المعقول أن يجيز الله تعالى النفقة للزوجة على الزوج، ثم إذا أنفق الزوج عليها حرم عليها وعلى أولادها أن تأكل من مال الزوج؟ ولو قلنا بذلك أنه يحرم عليها، فليس من خيار إلا الطلاق أو أكل المال الحرام، بسبب جريرة الغير وظلمه، وهذا ليس معروفا في ديننا، إنما هو من الجهل بالشرع.

وليد: لا حظوا أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم، لحق بالرفيق الأعلى ودرعه مرهونة في عشرين صاعا من طعام أخذها من يهودي، ومن المعروف أن اليهود أهل الربا والخَنا، وجاز التعامل معهم بمعاملات مشروعة، بصرف النظر عن طريق كسبهم المحرمة، وأكدت الشريعة على أسباب الكسب المشروع، وأن الإنسان مسؤول عن كسبه هو، لا عن كسب غيره، وإن كان يجب إنكار المنكر على من تكسب بالحرام.

سعيد: يقولون إن أموال  بعض البنوك الإسلامية هي من البنك الربوي الذي أسس ذلك البنك الإسلامي، وبناء عليه هل من أثر للتعامل مع ذلك البنك الإسلامي بسبب علاقته مع البنك الربوي الأب الذي أنشأ البنك الإسلامي؟

وليد: قلنا إن النقود لا تتعين، سواء كانت في البنك العربي الربوي أو البنك المركزي، بل إن النقود تنتقل من مصرف إلى آخر، والنقود التي في المصارف الإسلامية كانت في البنوك الربوية، أو البنك المركزي، ورواتب الموظفين جميعا والنقود التي بيد الناس لا يعنينا في التعامل بها إلا شيء واحد هو كيف وصلت إلى يدك أنت، بصرف النظر عن الطريق التي سلكتها النقود حتى تصل إلى جيبك، فربما مر الدينار في صندوق المسجد، والبنك الربوي، وبيد تاجر مخدرات، وبيد متصدق، كل هذا لا يعنينا تتبعه من الناحية الشرعية، والبحث في ذلك هو من الوسواس المذموم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتتبع ذلك بالرغم من تعامله بدنانير الروم ودراهم الفرس، ولم يسأل هل جاء من عند اليهود أم من غيرهم، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، فهم أتقى منا ولم يبحثوا فيما نبحث فيه اليوم، بل انشغلوا بأمور أكبر نحن تركناها.

أحمد: إذن المهم أن يهتم المسلم بالسبب المشروع الذي يكسب به المال، وعدم البحث والتتبع في أسرار الناس وخصوصياتهم، وليس من الشرع أن يتتبع الإنسان من أين أتى المشتري بالمال، بل هو من التنطع المذموم شرعا، وغلو في الدين وليس في محله، وتشكيك في الناس وإساءة للظن بهم.

عائشة: إن الرجل الذي كسب مالا حراما تسهل عليه التوبة عندما يعلم أن ذنبه قاصر عليه هو، وأن أولاده وزوجته ما زالوا أطهارا من معاصيه، وأن الأمر متوقف عليه هو، وأن باب الصلاح مفتوح، وليس كما يعتقد أن أولاده نبتوا من مال حرام، وأنه هو وأولاده يُصبحون في حرام وينامون في حرام، ولحمهم نبت من الحرام.

خديجة: إن زيارة الأقارب لابنائهم وأنسبائهم الذي تلوثت جيوبهم بالمال الحرام، واعتقاد أن الأكل والشرب من ضيافتهم حلال، يجعل المجتمع متماسكا متقاربا، ولا يتمكن الشيطان من الانفراد بأصحاب الكبائر، بعد أن تخلى أصدقاؤهم عنهم بسبب الكسب المحرم، وأن كلام الفقهاء يحافظ على قوة العلاقة بين المسلمين من أصحاب الكبائر وذويهم، ويحافظ على تماسك الأسرة ولو مع الكسب المحرم مع السعي في الإصلاح والنصح لإخواننا من أصحاب الكبائر، وهذا ركيزة مهمة من الركائز التي يرسيها الفقه الإسلامي للمحافظة على السلم المجتمعي.

وليد: يجب الانتباه إلى أن الفقه يسعى للمحافظة على علاقة التواصل بين المسلمين وأن هذا من وسائل إصلاح المجتمع واحتواء أصحاب الكبائر قريبا من أخوانهم الصالحين، وعدم إعطاء فرصة للشيطان والمفسدين للانفراد بهم، وأن القطيعة والتدابر في المجتمع لن تكون حلا لأي مشكلة، بل إن الحل لأي مشكلة يصبح سهلا تحت مظلة التواصل والأخوة، التي تهيئ الجو لإجراء إصلاح شامل يجمع الكلمة، ويسوي الصف في مواجهة التحديات الكبرى التي تواجه المجتمع المسلم.

المنطلقات الفقهية لهذه المقالة:

  1. يحرم التعامل مع من كان كل ماله حرام، ولكن هذا الأمر نادر في الواقع، فما من إنسان إلا وله كسب حلال ولو قل، سواء كان من ميراث، أو هبة، أو بدل إجارة، إلى غير ذلك، ومن ثم فإن وجود شخص كل ماله حرام، أمر قليل، أو هو قليل يؤول إلى العدم.
  2. يجوز التعامل مع من في ماله حرام، وليس كل ماله حرام، واستحب العلماء الورع في التعامل مع هذه الحالة.
  3. النقود لا تتعين بالتعيين، وهي لازمة في الذمة، ومن ثم يفرق بين النقود والأعيان، فالعين المسروقة يحرم شراؤها، ولا قبولها هبة، لأن حق صاحبها متعلق بعينه، فمن سرق طعاما يحرم الأكل منه بعينه لأن حق صاحبه متعلق بعينه، بخلاف من سرق نقودا، واشترى طعاما به، فيجوز الأكل منه، لأن حق المظلوم متعلق بالنقود لا بالطعام.

قال الناظم:

ومُشترٍ من مالِه الحرام *** مستهلَــكا كالشراب والطعام

يـَـلزمُه الثمن أما الأكَـلَة*** فلم يكن يــَـهمُّهم ما فعله

على خلاف غاصب المطعوم*** إذ عينه لربه المظلوم

ملاحظة: لا تعني هذه المقالة، التباطؤ في إنكار المنكر على أصحاب الكسب المحرم، بل تضع إطارا من التواصل في العلاقات يتيح تغيير المنكر، وينشر المعروف، لأن القطيعة مع أصحاب الكبائر تعني إخلاء الساحة للشيطان والمفسدين في الأرض، وإن من الأمر بالمعروف المحافظة على علاقة الأخوة الإسلامية أملا في التصحيح والتغيير.

د. وليد مصطفى شاويش

عمان المحروسة

صبيحة الجمعة المباركة

3/4/ 2015

 

2 thoughts on “حوار مع أخي الحلقة (5) المال الحرام

  1. ديسمبر 4, 2015 - غير معروف

    طيب اللة الانفاس

  2. ديسمبر 20, 2016 - أبو آدم

    ما شاء الله عليك … فعلا كلام الفقه مفقود هذه الأيام.. ولكن استيضاح من فضيلتكم… في مسألة الزكاة لا يحق للزوج اعطاء زكاته لزوجته واولاده فإن فعل كان كمن نقل ماله من يده اليمنى الى الاخرى… وكذلك من تخلص من المال المحرم بإنفاقه على أولاده وزوجته.. فإن صح قياسي فهو كمن انفقه على نفسه والله أعلم..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top