حوار مع أخي (32) مذهب إمامنا مالك وحديث المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا


سعيد: عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار)وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم، فكيف نترك سنة نبينا صلى الله عليه وسلم  لقول إمام مجتهد غير معصوم، ونقول بأنه لا يوجد خيار المجلس في العقد، ألسنا متعبَّدين بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب أن نرجِّح ما عليه الدليل.

وليد: لا حرج إذا كان القول المقابل لمذهبنا هو مذهب إمام مجتهد هو الإمام الشافعي الذي يقول بخيار المجلس، فهو اجتهاد معتبر، ولكن الإشكال أن يُنكر الاجتهاد المعتبر الآخر وهو مذهب الإمام مالك بذريعة أنه خالف السنة، فمَحل بحثنا ليس إبطال خيار المجلس، إنما هو الإنكار على من أبطل الاجتهاد المعتبر بعدم مشروعية خيار المجلس، وهو مذهب المالكية والحنفية، وهو إبطال الاجتهاد المعتبر هو التعصب بعينه.

سعيد: كيف يكون قول الإمام مالك معتبرا وهو يخالف السنة الواضحة، ويروي الحديث في الموطأ، فكيف ذلك يكون اجتهادا معتبرا وهو يخالف الحديث (ما لم يتفرقا)وجْهًا لوجه.

وليد: لا تعْجل في أمر فيه أَناة وتأمُّل، فنحن سندرس الحديث في نفسه، ثم ندرس الحديث من حيث علاقته بالنصوص الأخرى وأصول الشريعة، فإنَّ مذهبَ مالك أنه يعرض الحديث على الأصول ولا يرده، ولكنه يفسره بما يتفق مع الأصول.

سعيد: حسنا لندرس الحديث في نفسه أولا، ثم نتحدث عن الحديث مع أصول الشريعة.

وليد: قول النبي صلى الله عليه وسلم  (ما لم يتفرقا) فإن كلمة (يتفرقا) فعل، والفعل نكرة  لا معرفة، وسبق الفِعل نفي، وعليه فإن الحديث (ما لم يتفرقا) من صيغ العموم، لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، أليس كذلك؟
سعيد: بلى.

وليد: وهل العموم في الحديث يشمل التفرق بالأقوال والأبدان.

سعيد: نعم، فالعموم يشمل كل تفرق سواء بالقول أم بالبدن.

وليد: وعليه يكون العقد انعقد بالإيجاب والقبول، وصح العقد بوصفه عقدا،  ولو بقي المتبايعان مجتمِعَين بأبدانهما.

سعيد: وماذا لو أن أحدهما وهو في المجلس بعد البيع قال ردَدْتُ البيع ولا أريده، فهو بالخيار أيضا فلماذا يُمنع من حقه.

وليد: هل انعقد العقد بالإيجاب والقبول.

سعيد: نعم انعقد.

وليد: هل لنا أن نذهب إلى أدلة الشريعة الأخرى لنفهم النصوص ونجمع بينها

سعيد: نعم، ونصوص الشريعة يدل بعضها على بعض.

وليد:  قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)، ألم تقل يا سعيد بأن البيع انعقد باجتماع الإيجاب والقبول.

سعيد: نعم

وليد: إذن يجب الوفاء بالعقد بصرف النظر هل تفرَّق المتبايعان بالأبدان أم لا، فالوفاء بالعقود المأمور به في الآية يعُم جميع الأحوال والأفراد والأزمنة والأمكنة، وبناء عليه فإن قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)،  يشمل التفرق بالأقوال، بعد ارتباط الإيجاب بالقبول، فيجب الوفاء بالعقد بمجرد انعقاده ولو بقي الاجتماع بالأبدان، وخصص ذلك بخيار الشرط الوارد في الحديث، فلصاحب خيار الشرط أن يرجع وتكون الآية (أوفوا بالعقود) مخصوصة بخيار الشرط.

سعيد: إذن الحديث متشابه، أي محتمل لاعتبار التفرق بالأقوال والتفرق بالأبدان، والآية الكريمة(أوفوا بالعقود) رفعت الاحتمال وأصبح الحديث مع الآية محكما في قول مالك في الإلزام بالعقد، ولو لم يحصل  التفرق في الأبدان.

وليد: نعم آية (أوفوا بالعقود) رفعَت احتمال التفرق بالأبدان في حديث (ما لم يتفرقا)، وأبقت على الإلزام بالعقد بمجرد ارتباط الإيجاب بالقبول ارتباطا صحيحا.

 سعيد: ولكن ابن عمر رضي الله عنه وهو إمام مجتهد، كان يفارق المجلس ليُلزِم بالبيع،  وأيهما أولَى: فعل ابن عمر الصحابي أم قول مالك، وهو من تابعي التابعين ،أليس قول السلف كابن عمر من الصحابة أولى من قول مالك؟!

وليد: إذا نظرنا إلى الحديث والآية فهما دليل متفق على حجيته وإذا نظرنا إلى فعل ابن عمر رضي الله عنها فهو استدلال، أي يمكن أن يكون دليلا لأنه اجتهاد الصحابي، واجتهاد الصحابي هنا خالف العمل الذي عليه أهل المدينة والفقهاء السبعة إلا سعيد ابن المسيب، وعليه يدخل الاحتمال على اجتهاد ابن عمر في الحجية على حجية الآية والحديث.

سعيد: كيف يدخل الاحتمال على اجتهاد ابن عمر رضي الله عنه

وليد:  إن مفارقة مجلس العقد للإلزام به مروي عن ابن عمر رضي الله عنه رواية صحيحة، ولكن الشأن في فهم الرواية الصحيحة مع الأدلة، فإذا علمنا أن مالكا رحمه الله قال بعد روايته لحديث المتبايعين: (وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه) يعني أن أهل المدينة لم يعملوا به، وعمل أهل المدينة منقول عن جمهور الصحابة وفعل ابن عمر رضي الله عنه وليس عليه فتوى ولا قضاء، بل العمل على خلافه، وعمل أهل المدينة لا يحتمِل النسخ ولا التقييد، فيكون عمل أهل المدينة الشامل لجمع الصحابة والتابعين أرجحَ من فعل ابن عمر رضي، الذي هو  تفقهٌ منه واجتهاد، ورتبه اجتهاد الصحابي، ويمكن تأويل فعله بأنه فعَله ثم تركه جمعا بين عمل الصحابة والتابعين وفقه ابن عمر رضي الله حيث خالف ما عليه العمل، وهذا الاحتمال وإن كان بعيدا فهو للجمع، والجمع يكون بأدنى سبب، لأنه حماية للدليل من الطرح، لأنه عارض ما هو أقوى  منه.

سعيد: دخل الاحتمال حتى على فعل ابن عمر بما هو أرجح وهو عمل الصحابة والتابعين بالحديث أنه لا خيار في المجلس، وعمَلُ الجمْع المنقول عن الجمع لا يحتمل فهو مُحْكَم، خلافا لفعل ابن عمر رضي الله عنه فرتبته من رتبة قول الصحابي ويمكن أنه عمله مرة وتركه.

وليد: نعم وهذا من العمل بكثرة الأدلة وعمل الصحابة والتابعين، والقاعدة في مذهبنا بالنسبة لقول الصحابي رضي الله عنه إذا خالف مرويه: العبرة بما رَوَى لا بما رأى، فالعبرة في النص الذي يرويه ابن عمر فهو دليل، أما اجتهاد ابن عمر فهو ما رآه  وهو استدلال، ويمكن أن يكون دليلا، ويقوى بالأصول والأقيسة، وعليه نفرِّق بين الدليل الذي هو حجة في نفسه كالكتاب والسنة، وبين الاستدلال الذي يمكن أن يكون دليلا كقول الصحابي، وكل المباحث  بعد المصدر الرابع  استدلال لا دليل، والمصدر الرابع هو القياس كما تعلم.

سعيد: حسنا ، قلتَ لي: إن الحديث في ظاهره مخالف للأصول، فبيِّن ذلك لي.

وليد: إن طول المجلس فيه جهالة فقد يعقِد سجينان عقدا ويمكثان مجتمعَين بأبدانهما سنوات، وقد تقصر المدة وتطول دون إلزام بالعقد، وهذا الطول والقصر جهالة في مدة المجلس، لذلك قال مالك رحمه الله:  (وليس لهذا عندنا حد معروف)، مما يعني جهالة العقد، وهذا مخالف لأصول التعاقد في المعاوضات.

سعيد: حسنا، ولكن في المذهب المالكي يجوز خيار المجلس في الزواج، ولا يجوز في البيع، فلم يجوز عندهم الغرر في الزواج ولا يجوز في البيع،  وهذا تناقض عند المالكية، حيث يجوز خيار الشرط في البيع تمنعون خيار المجلس في البيع، وحيث مُنع خيار الشرط في الزواج أجزتم خيار المجلس في الزواج، يعني حيث أجازت الشريعة خيار الشرط، مَنَعتُم خيار المجلس، وحيث منعَت الشريعة خيار الشرط أجزتم خيار المجلس، فما تفسير ذلك؟!

وليد: خيار المجلس فيه جهالة طول المدة كما قلت سابقا، وهو غرر ممنوع شرعا، أما خيار الشرط فهو معَيَّن المدة كثلاثة أيام تقل أو تزيد، ولما كان خيار المجلس فيه مدة مجهولة فقد يطول المجلس بين محبوسين أو ساكنين في غرفة واحدة وقد يقصر  وكل ذلك من  الغرر في التعاقد، وينافي أصل العقود وهو الوفاء بها.

سعيد: يعني هل يجوز الغرر في عقد الزواج أم هو كبقية العقود يمنع فيه الغرر,

وليد:  إن الجهالة في ثمن البيع مفسدة له، كأنْ يقع البيع بلا تعيين الثمن، لأنه عقد معاوضة، على خلاف الزواج، فيصح عقد الزواج بلا ذِكر المهر، كما هو في نكاح التفويض المجمع على صحته أنه يقع الزواج صحيحا مع عدم ذكر المهر أصلا، كما في قوله تعالى: ( لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) فالآية صريحة في صحة نكاح التفويض حيث لم يعين المهر في عقد الزواج ولا مَن يحكم في قيمة المهر،  فصحَّ الطلاق لأن الزواج صحيح مع عدم ذكر المهر فيها بنص الآية، وعليه فالشريعة فرَّقَت بين البيع والزواج، فلما جاز هذا الغرر في الزواج صح فيه خيار المجلس الذي هو أقل غررا من عدم ذكر المهر، بينما لم يصح خيار المجلس في البيع لأنه لا يصح البيع دون ذكر الثمن، فظهر هنا وجه الفرق بين الزواج والبيع في خيار المجلس.

سعيد: هذا يَعني أن خيار المجلس تابع لجواز الغرر في العقد عند مالك، فلما منع الغرر في المعاوضات كغرر الثمن وجهالته في البيع، منع مالك خيار المجلس في البيع، ولما صح عقد الزواج دون ذكر المهر، صحح مالك خيار المجلس في عقد الزواج، وعليه فمالك باقٍ على أصله في التفريق بين الزواج والبيع في وقوع الغرر فيهما جوازًا ومَنْعًا.

وليد: صحيح، ويزيد عقد الزواج أنه لا يجوز فيه خيار الشرط، فلما ضاق الأمر اتَّسع، فليس لأحد الزوجين أن يعقد الزواج على خيار الشرط، فناسب أن يوسع عليهما في خيار المجلس لما فيه من مزيد روِّية لكليهما.

سعيد: ولكن لماذا مُنع خيار الشرط في الزواج؟

وليد:  لأنه لا فائدة من خيار الشرط، ، لعدم جواز الاختبار بينهما بالمس والنظر الزائد على الوجه والكفين ثم يرجع الزوج عن عقد الزواج مع كامل المهر، فهذا لا يصح  والعلاقة ليست اقتصادية سلعية، بل هي علاقة لها حُرمتها وقداستها بين المسلمين، فلا يجوز تسليعها وإخضاعها للتجربة.

سعيد: هل توجد مسائل أخرى أجاز فيها إمامنا مالك الغرر في غير المعاوضة.

وليد:  نعم أجازه في التمليكات التي ليس فيها معاوضة، مثل أن يقول رجل إن ملَكتُ دار فلان فهي وقف، فيلزمه الوقف، إن ملَكَها لأن الوقف ليس معاوضة، وصحح مالك تعليق الطلاق على شرط في المستقبل ولو كان فيه غرر كقدوم زيد، لأنه يملك الطلاق، والطلاق ليس معاوضة، فمالِك يُعمِل أصوله باطِّراد، لذلك نستطيع أن نجمع الجزئيات تحت الكليات بسهولة، وهذا الذي نتحدث فيه الآن هو نموذج على اطراد الجزئيات وترتيبها تحت الكليات.

سعيد: إن المصارف الإسلامية تخرج الإجارة المنتهية بالتمليك على جواز تعليق الوقف على ملك العين عند المالكية، كأن يقول إذا ملكت هذا البيت وقفته، فأجازوا تعليق تمليك العين على شرط سداد الثمن، فهل هذا التخريج صحيح؟

وليد: قياس تعليق تمليك العميل العين على شرط سداد الثمن، على مذهب المالكية في جواز تعليق الوقف على شرط الملك، هو شبهة فكرية، لأنه يقيس جواز غرر التملك في التبرعات على المعاوضات، وقد علمت أصل مالك هنا أن المعاوضات لا يجوز أن تبنى على الغرر.

سعيد: هل نقول إن إمامنا مالك ردَّ حديث (المتبايعان بالخيار)  لأنه خالف أصلا كليا، فرجَّح الأصل، وهو النهي عن الغرر في المعاوضات على الحديث.

وليد: لا نقول مالك ردَّ الحديث، بل نقول لم يَعمل بظاهره المتبادَر، ولكنه عَمِل بالجزئي وهو حديث المتبايعان بالخيار بقَدَره، والكلي وهو النهي عن الغرر بقَدَره.

سعيد: كيف أعمل الحديث وقد رد ظاهره؟!

وليد: قلنا إن قوله صلى الله عليه وسلم  : ما لم يتفرقا ، يشمل التفرق بالأقوال والأبدان، فعمل فيه مالك ببعض أفراده وهي التفرق بالأقوال، وخص عموم الحديث الشامل للتفرق بالأقوال والأبدان، بقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) فيكون مالك عمل بحديث: المتبايعان بالخيار في التفرق بالأقوال، وعمِل بالأصل الكلي وهو النهي عن الغرر في المعاوضات، وعمل بالآية الكريمة (أوفوا بالعقود)، فلم يسلُك مسلك الترجيح بل عمل بكل ما جاءه عن ربه، وعليه لا يصح القول إنه طرح الحديث، لأنه عمل به في التفرق بالأقوال بعد انعقاد العقد صحيحا وإن لم يتفرقا بالأبدان، فهو أَعمَل العام فيما بقي من أفراد العام في الحديث بعد التخصيص بالآية.

سعيد: وهل الذين قالوا بخيار المجلس لم يُعمِلوا كل الأدلة.

وليد: سلك مالك في الحديث (المتبايعان بالخيار)  مَسلَك  المعنى حيث رَدَّ معناه إلى الأصول الكلية في النهي عن الغرر في المبايعات، وأما سيدنا الإمام الشافعي فقد أعمل ظاهر النص، وظاهر  النص معتبر شرعا أيضا، وهو من الشريعة.

سعيد: إذن نرجع إلى ما قلناه ذات مرة، بأن الإمام مالك يذهب كل مذهب مع المعنى مع أدنى اعتبار للفظ، فذهب مع معنى النهي عن الغرر  كل مذهب وأجراه بأصوله في المعاوضات وغيرها، وأعمل الحديث في التفرق بالأقوال، وهذا هو الحد الأدنى من اللفظ، أما سيدنا الإمام الشافعي فقد ذهب كل مذهب مع اللفظ فأعمَل الحديث على ظاهره، ولكنه أيضا لا يهمل المعنى فيجيز الغرر في مذهبه، وبذلك تكون الشريعة في مجموع المذهبين جمعت كل المعنى وكل اللفظ، والمذاهب الأخرى لا تترك شيئا من اللفظ والمعنى، ولكن هذا الـمَعْلَم في إعمال اللفظ والمعنى يظهر فيه الشافعية والحنابلة طرفا والمالكية والحنفية طرفا آخر، وكلا الطرفين يظهر معهما العمل بكل الشريعة لفظا ومعنى.

وليد: هذا صحيح تماما فعين الشريعة في مجموع المذاهب الأربعة المتبوعة، والذين شَذُّوا عن الأربعة إما ذهبوا مع اللفظ وأضاعوا المعنى كغلاة الظواهر، وإما ذهبوا مع المعنى وأضاعوا اللفظ كغلاة الباطنية والمقاصدية المعاصرة، والحق هو جميع اللفظ والمعنى، دون إهمال لأحدهما، وهذا هو مذهب الراسخين في العلم.

سعيد: هل علم الإمام مالك في حديث (المتبايعان بالخيار) هو  معنى أن المذهب تقديم القياس على الخبر.

وليد: إن الأصول الكلية كالنهي عن الغرر  وعدم جواز النيابة في العبادات البدنية، فهذه أصول كلية تواترت على معناها النصوص الشرعية وتُسمى قياسا أيضا، وهذا هو القياس الذي يقدَّم على خبر الواحد، لأنه الترجيح بالأصول هو ترجيح بكثرة الأدلة، وليس القياس الذي هو المصدر الرابع يُقدَّم على الأصلين الأول والثاني، وهما الكتاب والسنة، فيجب تحرير معنى القياس والتفريق بين القياس الذي هو أصول الشريعة الذي تواترت عليه أدلة نصية كثيرة وترجيحه على خبر الواحد هو ترجيح بكثرة الأدلة، وبين القياس بوصفه مصدرا رابعا.

سعيد: هل رد إمامنا مالك حديثًا بالقياس الذي هو الأصول الكلية.

وليد: لا أعلم أن إمامنا مالكا رد حديثا غير منسوخ بكلِّيته، إنما يتأول الحديث الجزئي بما يتفق مع الأصل الكلي، فربما يظهر ذلك غريبا عند بعض العامة اليوم، أو أنه تكلُّف، لكن أولئك العامة لا يعلمون أن هذا التأويل وإن كان بعيدا إنما هو لإعمال الحديث لِيَنْجُو من الطَّرح، لأن معارِضَه هو الأصل الكلي الذي يرجح على خبر الواحد بكثرة الأدلة، ولِرسوخ الإمام مالك في الاجتهاد والخبر ، خفي مذهبه على عامة زماننا، فردوا مذهب الإمام وأنكروه بقول الإمام نفسه: كلٌّ يؤخذ من قوله ويُرد إلا صاحب هذا القبر، والسبب في ذلك أن هؤلاء العامة تناقضت عليهم ظواهر النصوص، ثم تناقضات الظواهر مع الأصول، وحسِبوا أن لا تكون فتنة فعَمُوا وصمُّوا، وصرفوا الناس عن أئمة الاجتهاد، وانشغلوا بالتنحيت، فلا هو اجتهاد ولا تقليد.

سعيد: هناك بعض الباحثين يرد أحاديث الصحيحين متعللا بأنها تخالف الأصول كالعصمة، أو أصول الشريعة ومقاصدها بناء على مذهب مالك وبعض الصحابة، كعائشة رضي الله عنها ردت أحاديث في الصحيحين-بزعمهم- لأنها تخالف الأصول: مثل حديث إن الميت يعذب ببكاء أهله، فهو مخالف للأصل ولا تز ر وازرة وزر أخرى، فما سبب هذا الإشكال؟ وهل هو من جنس الخلاف بين حديث المتبايعان بالخيار وأصل النهي عن الغرر؟

وليد: هؤلاء الزاعمين لم يفرقوا بين صناعة السند وهو الحديث الشاذ الذي يخالف فيه الثقة من  هو أوثق منه، على نحو  لا يمكن الجمع فيه بين الضدين، فيكون الشذوذ قادحا في الصحة، وبين خبر الواحد باعتبار علاقته مع الأصول، فهذا صناعة فقهية أصولية في إطار الجمع والترجيح، وإعمال دليل في محل دون محل، فلا يكون من اجتماع الضدين، كما هو حديث المتبايعان بالخيار، فظاهره يعارض الأصول، ولكن أوَّله مالك بما يتفق مع الأصول، ولم يرده كما يفعل المقتحِمون، وهكذا حديث النيابة في العبادات: مثل من مات وعليه صوم صام عنه وليه، فلم يردّه مالك، بل أوَّله بإخراج الفدية عن الميت، ولم يرد الحديث.

سعيد: إذن الذين ردُّوا أحاديث الصحيحين خلطوا بين صناعة السند في تضعيف الحديث الشاذ، وصناعة فقه خبر الواحد وعلاقته بالأصول، وهذا هو سبب الاضطراب الحاصل اليوم في رد أحاديث الصحيحين.

وليد: نعم فالذين ردُّوا أحاديث الصحيحين في زمننا بزعمهم أن الحديث مخالف للأصول، خلطوا صناعة السند بصناعة فقه المتن، فكانوا جنسا ثالثا، مُذَبذبين بين ذلك، لا إلى المحدثين ولا إلى الأصوليين، وعميت عليهم الأنباء، يلوون ألسنتهم بكلام المحدثين وما هو بكلام المحدثين، ويلوون ألسنتهم بكلام الأصوليين وما هم من الأصوليين، إنما هم جنس ثالث من العوام الذين يعيشون وهْمَ العلم والتجديد، وكان الواجب عليهم هو إعمال خبر الواحد في وجه يتفق مع المحكم وهو الأصل، وليس طرح خبر الواحد بزعمهم.

سعيد: بقي سؤال، وهو أن الإمام مالك قال في خيار المجلس: ليس عليه عَمَل، فهذا يفيد أن الترك حجة، وأنتَ كتبت كثيرا في أن الترك العدمي المحض ليس حجة، وهاهو إمامنا مالك يحتج بعدم مشروعية خيار المجلس بترك العمل به.

وليد:  أكدتُ كثيرا الفرق بين الترك المقصود والعدم الاعتباري الذي يعبر عنه بصفة وجودية، وهذا الذي يعبر عنه الإمام بقوله: ليس عليه العمل، وما ليس عليه العمل يكون العمل على خلاف ما عليه العمل، فهو  ليس عدَمًا مَحْضًا لأن الترك المقصود فِعل، وتعلّقَ بترك أهل المدينة خيار المجلس أصل من الشريعة  أدلة وأصول أخرى وهي النهي عن الغرر الذي تواترت على معناه النصوص، وقوله تعالى: (أوفوا بالعقود)، وهذه كلها أدلة وجودية وليست عدمية محضة، وهنا نفسر أصل مالك رضي الله عنه في تعبيره ليس عليه العمل، بأن العمل على خلافه، وليس عدما محضا.

سعيد: إذن هذا الترك المقصود يكون ثابتا بخطاب وجودي وهو العمل على خلافه، فما هو الترك العدمي المحض؟

وليد:  إن الترك العدمي المحض لا يعبَّر عنه بصفة وجودية، مثل لم يستخدم الرسول صلى الله عليه وسلم  الهاتف، فهذا عدم مَحْض ليس خطابا شرعيا، وقد استدل مالك بأن العمل على خلاف خيار المجلس،  وهي عبارة تساوي ليس عليه العمل في خيار المجلس، وهو عدم اعتباري، له صفة وجودية بالعمل على خلافه، مثل لم يُصل رسول الله صلى الله عليه وسلم  فرض الظهر خمس ركعات، فهذا ترك مقصود وله صفة وجودية  بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى أربعا، وهكذا يعبر مالك بما ليس عليه العمل بوجود اعتباري عليه عمل آخر، وليس عدَمًا محضا، وعلى غلاة التبديع بلم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتبهوا إلى هذا الفرق.

سعيد: فماذا أقول لمن يستدل بما ليس عليه العمل ويجعله دليلا على البدعة؟

وليد:  قل له إن ما ليس عليه العمل، يعني وجود العمل على خلافه، وهو خطاب وجودي وليس عدما محضا، وقد يكون ما ليس عليه العمل بدعة مكروها، أو  مندوبا وقد يكون واجبا، وقد فعل الصحابة ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم  كصلاة التراويح عشرين ركعة، وصلاة  أهل المدينة التراويح  ستا وثلاثين ركعة، لأن المطلق شرعا لا يقيده العدم المحض كما يفعل غلاة التبديع فيما يزعمونه بالترك دون تمييز  بين الترك المقصود وله وجود اعتباري، والترك العدَمي المحض، ويهدمون بالعدَمِي المحض عمومات الشريعة ومطلقاتها وأقيستها بعدم التاريخ، ويجعلون الدليل عدما والعدم دليلا، وهي فلسفة طبيعية تاريخية ترُدُّ الشريعة بالعَدَميات.

سعيد: كيف يكون ما ليس عليه العمل مندوبا؟

وليد: إذا كان  الفعل ليس فيه توقيفا شريعا توقيفا شرعيا، بل يكون مطلقا، وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم  يكون بعض أفراد المطلق ولا يكون فعله توقيفا، مثل ألفاظ الدعاء كثيرة ونحن نرى اليوم صيغا وأدعية كثيرة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، في الثناء على الله تعالى وسؤاله، وقد برع علماء السنة في تجديد صيغ الثناء على الله بما هو أهله، بناء على أن الإطلاق في صيغ الثناء والسؤال ما لم يتعَدَّ العبد في السؤال، ومثله صلاة الصحابة التراويح في المسجد عشرين ركعة بإمام واحد، فهي باقية على الإطلاق وفعل النبي صلى الله عليه وسلم  لم يكن توقيفيا.

سعيد: أين أجِد بحثا مفيدا في ذلك.

وليد: عليك بالإمام الشاطبي في كتاب الأدلة من كتابه الموافقات، فقد أَوْعَبَ الأمر  وبيَّنه، وعليك بالفقه في المذاهب المتبوعة، فهي معْنية أثناء المقارنة بمثل هذه المباحث، وقد قسم الشاطبي العمل بالدليل إلى ثلاثة أقسام: ما كثر عليه العمل، وما قل عليه العمل، وما ليس عليه العمل، فليس كل ما ليس عليه العمل بدعة، بل يأخذ أحكاما متعددة بحسب مجموع الأدلة.

سعيد: هل يمكن أن نستمر في حوار الجزئيات والكليات في مذهب مالك.

وليد: نعم وعلى الرحب والسعة.

سعيد: الشريعة متماسكة كبناء قوي، فكُلِّياتُها تُمسك بجزئياتها، وجزئياتها تدُلُّ على كلياتها، فالحمد الله على نعمة الشريعة، ويجب أن ننظر إلى المذهبين في خيار المجلس أنهما معتبران، ولا يُنقض اجتهاد باجتهاد، وإن العلم بأدلة المذاهب المتبوعة يجعلنا على بينة، أن عين الشريعة في مجموع المذاهب الأربعة، لا في مذهب بعينه.

وليد: نعم، بارك الله فيك يا سعيد ونوّر قلبك بفقه أئمة السلف، فأفضل منازلنا أن نفقه أقوالهم على وجهها الصحيح، واحذر من الرؤوس الجهال بين يدي الساعة، في زمنٍ وَلَدت الأَمَةُ فيه ربَّتَها.

الكسر في الأصول لا ينجبر

الطريق إلى السنة إجباري

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

16  -ذي الحجة-1443

  15-7-2022

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top