خطورة المشترك اللفظي على المعرفة (8) هلال رمضان بين الرؤية الفلكية والبصرية

تمهيد:

كتبت سابقا مقالة “هلال رمضان … ليس حديثا في الفقه ولا في الفلك” رغبة في إظهار أهمية الرؤية البصرية في إثبات الهلال، لأن هذه الرؤية تملأ قلوبنا بهجة وسعادة في لحظات الترقب والاستقبال للضيف الكبير وهو شهر رمضان، أو عيد الفطر، بينما تحسم الحسابات الفلكية الأمر في وقت رمضان والعيد لسنوات عدة مقبلة، مما يعني أننا لن نترقب الرؤية ترقبا للضيف الكبير، لأن الحساب الفلكي قد حسم الأمر ولو لمئة عام.

أولا: تحديد مفهوم الرؤية الفلكية والبصرية:

يشيع بين المسلمين أن الرؤية الفلكية هي الرؤية بالمرقاب (التلسكوب)، فيتوهم أن الفقهاء ينكرون اعتبار هذه الرؤية، ولكن في الحقيقة الرؤية الفلكية هي الحسابات الفلكية دون الرؤية، وتسمية هذه الحسابات بالرؤية هي من باب المشترك اللفظي لمعنيين مختلفين تماما، مما أدى إلى توهم أن المسألة هي خلاف بين العلم والدين، فالشرع حدد رؤية الهلال أو تمام شعبان أو رمضان ثلاثين يوما سببا لوجوب الصوم والفطر، وكل ذلك كان بسبب إطلاق كلمة الرؤية على الحسابات الفلكية، وأدى إلى اختلاط معاني مختلفة تماما تحت كلمة “الرؤية”، وما كان ينبغي إطلاق كلمة رؤية على العمليات الحسابية التي يقوم الفلكيون، حتى لا نقع في فخ الاشتراك اللفظي، ومن ثم توهم أن الرؤية الشرعية للهلال تتناقض مع طبيعة العلم.

ثانيا: تعليل الشارع أحكام الصوم والفطر بالرؤية:

1-نص الحديث وبيان العلة:

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: أو قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمِّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين»، ومن الملاحظ أن الشارع البليغ الفصيح عبر بلام التعليل بقوله “لرؤيته” ويعتبر هذا التصريح بالعلة هو أقوى طرق معرفة علة الحكم الشرعي، وقد صرح به الشارع الفصيح وهو أعلم بما يقول، وعبر بالرؤية.

2-تصريح الشارع بالعلة:

فالرؤية في الشرع تكون بالبصر وتكون الرؤية البصرية أيضا بواسطة أدوات حديثة كالمنظار والمرقاب (التلسكوب)، فهي رؤية شرعية يثبت بها الهلال، أما إجراء حسابات فلكية لولادة هلال رمضان لمدة مائة عام مثلا، فهذه لا يتناولها الوضع اللغوي ولا العرف الشرعي، ولا يندرج بحال تحت الوضع اللغوي للرؤية البصرية، وتسمية ذلك رؤية من باب الاشتراك اللفظي لعدم وجود أي تلاقٍ في المعنى، على خلاف الرؤية بالمرقاب (التلسكوب) فهي مندرجة في الوضع اللغوي، ويجوز إطلاق اسم الرؤية عليها، أعني الرؤية بالمِرقاب، لذلك نقول: الرؤية بالمرقاب رؤية شرعية، ويثبت بها رمضان والشهور الأخرى المتعلقة بالعبادة، لأنها داخلة في العرف اللغوي في عهد الوحي. 

ثالثا: حمل ألفاظ الشرع على المعاني الحادثة:

1-خطورة المشترك اللفظي:

بينت سابقا خطورة المشترك اللفظي في سبع مقالات، ومما استقر عند الأصوليين عدم جواز حمل ألفاظ الشارع على المعاني الحادثة بعده، وذكرت مثالا لذلك بالتصوير الشمسي والورقي والطبي الشعاعي، وأنها لا يتناولها تحريم التصوير الوارد في السنة، بسبب الاشتراك اللفظي، حيث اتحد اللفظ واختلف المعنى، وإطلاق الرؤية على الحسابات الفلكية هي من هذا الباب تماما، فهي ليست رؤية في الحقيقة، قال في المراقي منبها على وجوب مراعاة عرف الشارع في ألفاظه:

والعُرفَ حيث قارن الخطابا… ودَعْ ضمير البعض والأسبابا

وهذا توكيد من سيدي عبد الله بن الحاج (ت1230هـ) جدِّ شيخي “محمد الأمين”، على كلام الأصوليين في وجوب مراعاة العُرف المقارِن للخطاب، في فهم الخطاب الشرعي، وإن الحسابات الفلكية وأنواع التصوير آنفة الذكر، لا تدخل في معنى الرؤية ولا معنى التصوير، وهي من المشتركات اللفظية.

2-المشترك اللفظي يحُوْل دون مراعاة مقاصد الشريعة:

فقد أدى ذلك المشترك اللفظي إلى توهُّم بعض المسلمين أن الإسلام يعارض العلم، ولا يستفيد منه، مع أن للشارع قصدا مختلفا، لا يتعلق بمجرد الإثبات، فكما أن الشارع لم يعتبر الفحص الجيني للجنين لإثبات الزنا، مع أن الفحص الجيني يقترب إلى القطع أكثر من الشهود الأربعة، لتَشَوُّف الشارع للسَّتْر وإثبات النَّسب، فكذلك اعتبار الرؤية البصرية للهلال، لاعتبارات تتعلق بحكمة الشريع، وهذا لا يتناقض مع العلم، بل هو مراعاة لمقاصد شرعية، دلت عليها نصوص الشريعة بصريح النص.

رابعا: تفريق الشارع بين أوقات الصلاة ووقت وجوب الصوم والفطر:

مما لا يخفى أن الشرع ربط أوقات الصلاة بدخول الوقت، فيدخل وقت الظهر بزوال الشمس عن كبد السماء، والمغرب بغروب الشمس لا برؤية الزوال ولا رؤية الغروب، وكذلك فِطر الصائم في نهار رمضان يكون بغروب الشمس لا برؤية الغروب، فقد جاء في الصحيحين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم».

خامسا: وجوب مراعاة فصاحة النص النبوي:

 فالشارع ربط الفطر في نهار رمضان بالغروب لا برؤيته، وربط وجوب صوم رمضان برؤية هلال رمضان، وفطر شوال برؤية هلال شوال، فلمّا عَدَل الشارع عن الربط بالوقت الذي بيّنه في أوقات الصلاة، ووقت إفطار الصائم بالغروب، إلى الرؤية لهلال رمضان وشوال في وجوب الصوم والفطر، كان للشارع قصد من هذا العدول، وليس العدول هنا عبثا، هذا لأن الشارع يعرف ما يقول، وله قصد معتبر في ذلك العُدول، وإن اللجوء إلى تحديد شهر رمضان وشوال بالحسابات الفلكية، لا يراعي نص الشارع، ولا قصده، بل هو هدر لكلام الشارع، ومن المعلوم أن نص الشارع مُنـزَّهٌ عن الحَشْو والزيادة بلا معنى، جاء في المراقي.

131-تواتُر السَّبع عليه أجمعوا

 

ولم يكن في الوحي حَشْو يقع

 

132-وما به يُعنى بلا دليل

 

غير الذي ظهر للعقول

 

سادسا: الحكمة من الرؤية البصرية:

عما قريب سيطلع علينا الخلاف المعهود في ثبوت هلال رمضان بالرؤية البصرية أم بالحساب الفلكي، وعلى جميع الأحوال، لست من عشاق الدِّجِتال، ولا ملفات الإكسل والبرامج المحوسبة في العبادة، التي ستخبرني بساعة ولادة هلال رمضان أو هلال العيد، ولو بعد مائة عام، ذلك أن الضيف الكبير كرمضان، لا بد من استقباله في حالة من الترقب والاستنفار في قلوب المؤمنين، هل وصل الضيف أم لا؟! وأظن أن عملية الاستطلاع في الرؤية، والتشوُّف لسماع خبر رمضان، هو جزء من الاستقبال الحافل الذي يحفُّ الضيف الكبير بما يليق به، أما حوسبة وقت دخول الضيف لمدة مائة عام مقبلة، كما هو الحال في الحسابات الفلكية، فسيحرمنا من فرحة الاستقبال، وروعة المفاجأة بحلول الضيف بعد ترقّب واشتياق للضيف العزيز على القلوب الـمُفعمة بالإيمان.

سابعا: سبب آخر للإشكال: عدم التمييز بين العادي والشرعي:

بما أن النص الشرعي وارد بالتصريح بعلة الرؤية، فإن مسألة الرؤية شرعية ليست عادية، أما أوقات الصلوات فطرق تحديدها عادي، يكون بأية وسيلة من وسائل الحساب، لأن الشرع ربط العبادة بالوقت، لا بنص الرؤية وإن كانت الرؤية البصرية في ذلك العهد هي الوسيلة لمعرفة أوقات الصلاة، ولا تمنع وسيلة أخرى في زماننا حسب تطور أدوات الفلك، بخلاف توقيت شهر رمضان وشوال، وذي الحجة، فقد ربطه الشرع بعلة منصوصة ،كما ورد في الحديث، وعلينا أن نميز بين ما هو عادي، وما هو شرعي، وعلة الرؤية منصوصة في الحديث، والعلة المنصوصة يدور الحكم عليها.

ثامنا: ماذا لو تعارضت الرؤية الفلكية القطعية مع شهادة الشاهد:

إذا كان الحساب الفلكي لا خلاف فيه، ويمثل قطعيا حسيا، فإن شهادة أحدهم برؤية الهلال ترد؛ لأن شهادته ظنية والحس قطعي، وهذا رد لشهادة الشاهد، لا لطريقة ثبوت الهلال بالرؤية، وهذا لا يعكر على صفو الحكم الشرعي الأصلي الذي يبقى هو الأصل، وردت الشهادة من الشهادة لتكذيبه، أو لعدم عدالته، فرد شهادة الشاهد لعدم عدالته، أو لكذبه، لا يعد تغييرا للحكم الأصلي، وهو الثبوت بالرؤية البصرية ولو بالمرقاب، وذلك كما لو شهد أحدهم بما لا يقبل حسا ولا عقلا، كشهادة أحدهم أن الأكبر سنا هو ابن الأصغر سنا، وهذا محل إجماع لمخالفتة الحس وقطعيات العقول.

وفي الختام تقبل الله مني ومنكم صيام رمضان وقيامه

الطريق إلى السنة إجباري

وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

عمّان المحروسة

الجمعة المباركة

30 شعبان 1438هـ الموافق 26-5-2017

2 thoughts on “خطورة المشترك اللفظي على المعرفة (8) هلال رمضان بين الرؤية الفلكية والبصرية

  1. مايو 26, 2017 - صالح شاهين

    لم يبين د. وليد قصد الشارع من العدول الوقت الى الرؤيا بل اكتفى بالقول انه ليي عبثا ومع تسليمنا بانه ليس عبثا لكن نود ان نعرف الحكمه عاى الاقل فما هي يا ترى؟

  2. مايو 26, 2017 - د. وليد شاويش

    هل قرأت سابعا في المقالة ؟ ففيها الحكمة أما بخصوص العلة المنصوصة فاتفق الفقهاء على وجوب العمل بها وهي دلالة نص ولا اجتهاد في محل النص أعني الدلالة بقوة دلالة النص وحياكم الله ومرحبا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top