درء تعارض مناصب الشريعة  الإمامة والقضاء والإفتاء

تمهيد: صناعة الاستقرار بتكامل المناصب الشرعية:

إن منصب الإمامة العظمى والقاضي والمفتي هي مناصب شرعية غير متعارضة، بل يكمل بعضها بعضا، في سياسة شرعية قادرة على احتواء الخصومات وحماية العُمْران، وفيما يأتي توضيح ذلك:

أولا: منصب المفتي:

إن الفقه الإسلامي يمثل المصدر الذي يستقي منه المفتي والقاضي والإمام (رأس الدولة)، فإذا أراد المفتي أن يفتي فإنه يفتي في مسائل مشخَّصة، وينزِّل الفقه عليها بحسَب شخص المستفتي، ويخبر بالحكم الشرعي آخذا بالاعتبار شخص المستفتي وبلده وحاله وقصده ووقته، وهو مَسار مُوازٍ غيرُ متصادم مع المنصِبَين الآخَرَين وهما: منصب القاضي وولي الأمر، لأن المفتي لا يجوز له أن يفتي في القضايا المنظورة بين يدي القاضي، بصرف النظر عن مذهب المفتي والخصوم والقاضي، وقد يتولى المفتي التعليم فينشر العلم، ويكون عندئذ ناشرا للفقه، لكنه لا يكون بديلا للقاضي ولا للإمام.

ثانيا: منصب القاضي:

ومنصب القاضي يزيد على منصب المفتي في كون حكمه ملزِما للخصوم، ولا يتجاوز النظر في القضية المنظورة، وليس له أن يفتي فيها، لأنه عندئذ يُوحِي بالحكم الذي سيقضي به قبل البتِّ في القضية المنظورة، وهذا ممنوع شرعا، وفي هذه الحالة يصبح نظرُ القاضي أخصَّ من نظر المذهب الفقهي في القضية المنظورة ويمضي حكمه، ولو خلافَ مذهب الخصمَين ومفتِيهم، لأن منصِب القضاء منصبٌ أخصُّ في القضية المنظورة، والأخَص يُقدَّم على الأعَم، وهذا مهم لاستقرار القضاء، وانسجامه مع تعدد المذاهب الفقهية المتبوعة والفتوى فيها.

ثالثا: منصب ولي الأمر (السياسة الشرعية العامة):

إن منصب ولي الأمر منصِبٌ مُوازٍ لمنصب المفتي والقاضي، وليس متداخلا معهما، وهذا يشير  بقوة إلى انسجام فقه المجتمع والعمران في الشريعة، حيث تحافظ على انسجام المناصب الثلاثة وعدم التصادم بينها، ومهمة منصب ولي الأمر النظر في الصالح العام، من حيث جلبُ المصالح ودرءُ المفاسد لعموم المجتمع، والترجيح بين المصالح المتعارضة،  وارتكاب المفسدة الأخف لدرء المفسدة الأشد، بخلاف نظر القاضي والمفتي فهو في قضايا جزئية مُشخَّصة بين أطراف معينة.

رابعا: شبهة داحضة:

يمكن أن تتعارض هذه المناصب فيما بينها في الواقع  بسبب إشكاليات معرفية فكرية وليست فقهية، مما يستدعي درء هذا التعارض.

1-سؤال لا بد منه:

بناء على ما سبق نجد أن الفقه الإسلامي هو المرجعُ الأعلى للمناصب الثلاثة، وأن هذه المناصب لا يُفترَض أنها تتقاطع، وأن طاعة ولي الأمر لا تحتاج فتوى فهي واجبة بالفقه لا بالفتوى، وأن قرار الحرب مثلا يرجع إلى الفقه لا إلى المفتي الذي هو منصب دون منصب الإمامة العُظمى، وقد يُعترَض على ذلك بالقول: أليس يمكن أن يقع ولي الأمر في منكر من المنكرات، أو يقصِّر في المعروف شرعا، فعندئذ نحتاج إلى فتوى، وعندئذ تتصادم الفتوى مع مسار الولاية العامة.

2-الجواب:

يجاب على ذلك: بأن المطلوب تطبيقه هو قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الفقه، لا أن يتصادم منصب المفتي الذي ليس مرجعا للحاكم في السياسة الشرعية مع منصب الإمام، لأن مرجع الحاكم في السياسة الشرعية الفقه والفقيه، وليس المفتي ولا القاضي، لأن نظر الإمام عام ونظرَهما خاص كما بيَّنْت، وعليه، فإن المرجع في الإصلاح للمناصب الثلاثة هو الفقه، فلا يقع الصِّدام بينها.

انظر : 

أسئلة ضرورية في فقه الإمامة والدولة

طاعة ولي الأمر بين الاختيار والاضطرار في فقه العمران ومقاصد الشريعة

 

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

16-ربيع الثاني-1443

22-11-2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top