شبهة اللادينيين في مقولة: “الموروث الديني” ولكل واحد الحق في فهمه

أولا: السؤال :

وردني سؤال من قبل أحد الإخوة ، بعد اطلاعه على مقالة (لماذا : الحلاق … الطبيب… المهندس… النص الشرعي؟؟؟!!!!)

ونص السؤال: لبعض من السذج يفرق بين (الموروث الديني) وبين بقية التخصصات والعلوم بحجة أن الدين مطالب به كل المجتمع وكل بحسب فهمه واستطاعته، فكيف يكون الجواب عليه؟ … بارك الله فيكم

ثانيا: تحرير محل الجواب:

أما تحرير محل الجواب، فـ” كلمة الحق في فهمه”، مـُجمَلة (غير واضحة)، فهل يقصد بها:  أن يفهم غير المختص (العامي) مباشرة من النص، أو أن يفهم النص الشرعي عن طريق العالم المتخصص، فإن كان الفهم عن طريق العالم المتخصص فلا إشكال، وإنما الإشكال هو أن يقتحم غير المؤهلين ساحة النص الشرعي، مع فقرهم المدْقِع في علوم اللغة والأصول، تلك العلوم الضرورية للنظر في النص، فهذا هو محل النقاش الآتي:

ثالثا: الجواب من وجوه:

1-هناك جواب عملي واقعي وهو أن ندخل صاحب الشبهة ومن معه على مكتبة السنة، ونضع بين يديه القرآن الكريم، ونوجه له سؤالا، ونقول له أجبنا جوابا علميا، ويمكن اختيار عينة من هؤلاء يقدرون مثلا بعشرين شخصا، ثم ننتظر كيف تكون النتائج؟ وأظن أن التجربة سهلة التطبيق، ولكنها ستكون لافتة ومُسلِّية في الوقت نفسه، وعندها نوفر على أنفسنا كتابة المطولات في معضِلات توضيح الواضحات.

2-من المعلوم أن القانون يهم كل الناس، وكل الناس يحتاجون لمعرفة القانون، وإذا حصلت مع واحد من مثيري تلك الشبهة قضية وهي ذات أهمية، فإنه سيبحث عن محامٍ قدير، مع أن القانون محصور في ألفاظه وإجراءاته، بخلاف تعدد مصادر الشريعة واتساع نصوصها وعمق العلاقة بين تلك النصوص، وأنها جميعا كنص واحد في الدلالة على مراد الله تعالى، وعليه؛ يصبح الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للنص الشرعي لعُمْقِه رواية ودراية، ولكن –مع الأسف-  هوان آخرة الناس عليهم، يجعلهم يتجرؤون على النص الشرعي، بينما لـحُبِّهم دنياهم لا يتجرؤون على القانون، ويلجؤون فيه لذوي الاختصاص.

3-نظرا لحرص الناس على دنياهم وغفلتهم، كانوا حريصين على تفسير القانون وعدم التلاعب بتفسيره، هذا بالرغم من أن الصياغة القانونية تحرص على الاسقصاء وقطعية دلالة الألفاظ والبعد عن الاحتمال، ومع ذلك هناك محاكم عليا مختصة بتفسير القانون، وليس ذلك مشاعا للناس حفظا على ضبط المعرفة القانونية، أما القاضي مع أنه مختص فَـيُفَسِّر القانون في القضية المنظورة بين يديه فقط، ولا يتجاوز ذلك، ولكن-مع الأسف- يبدو أن النص المستباح والوحيد هو النص الشرعي فقط، ومن المسلمين من يقلدون من غير شعور طائفة اللادينيين المزاجيين في طريقة تناول النص الشرعي، بينما لكل منهم مقام معلوم لا يتعَدَّونه في القانون.

4-من المهم جدا أن نشير إلى أن هذه الشبهة هي من الأفكار التاريخية المستوردة، وليست نابعة من طبيعة المجتمع الإسلامي نفسه، ولكنها تقليد تاريخي لمقولة القِسّ الكنسي “مارتن لوثر” الذي اعترض على الكنيسة احتكارها تفسير الكتاب المقدّس، وأراد أن يكون ذلك لجميع الناس، ويصبح كل إنسان رجل دين يمكنه أن يفهم الكتاب المقدس، وذلك رَدَّة فعلٍ على احتكار بعض رجال الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس، وفَشَتْ هذه الفكرة بعد الغزوات الاستعمارية للعالم الإسلامي، فهذه الشبهة خارجة من قفص ثقافة المتغلِّب، وليست من بيئة الشريعة، وهذه الشبهة تقليد فجّ يظهر على شكل إبداع مزيف، يعمل على تمييع المعرفة الشرعية، لتلبية حاجة المستهلك الرديء من الثقافة البائرة.

5-لا أنسى بهذا الصدد تأثير التفكيكية في مجال النص، وعَرّابها الأكبر اليهودي “جاك داريدا”، الذي يزعم أن المعنى هو ما يفهمه القاريء (بصفته المستهلك النهائي للنص والثقافة المعطوبة)، بصرف النظر عن مراد المتكلم، وتم تطبيق ذلك على النص الشرعي، بحيث يكون لكلٍّ الحق في الفهم كما يراه هو، وهذا أنتج ظاهرة القطاع الخاص في التدين، الذي يعمل على تفكيك المجتمعات الإسلامية، وتمييع المعرفة الشرعية وإدخال تناقضات المستهلك الرديء للثقافة على الشريعة، ونجم عن ذلك التحلل من الدين والغلو فيه.

6-ترتب على النظرة الشخصية في النص الشرعي تضييع التجانس والتكامل الضروريان لإقامة مجتمع العُمْران، وأصبح التدين حالة فردية خاصة، وهو هدف بعيد لطائفة اللادينيين، وقد وقع في هذا الفخ العديد من الدعاة تحت وطأة ثقافة المتغلِّب، وظهرت “الحشوات الثقافية”، التي ظاهرها ألفاظ الإسلام وباطنها غربي، وتم تشويه المفاهيم والمصطلحات وإعطابها، بسبب حضور الانطباع الشخصي والذَّوق في الحكم الشرعي، وغياب المنهج الفقهي الأصولي، وبقائه حبيسا داخل الغرف المغلقة.

7-يتضح من كلمة “الموروث الديني” التي يرددها مقلِّدو الفكر اللاديني الغربي، أن هناك خلفية مقلدة للفكر اللاديني وتأثيراتها، وأن أفضل علاج لمن يسأل هذا السؤال هو الخروج من قفص التقليد لثقافة المتغلب، فالشرع هو الميزان الذي يوزن به الفكر اللاديني الغربي، وليس العكس صحيحا.

8- أشرت إلى ذلك في تدريسي لنظم ابن أبي كُفّ في أصول المالكية، في الصوتية الأولى،

مقدمة وتمهيد في التعريف بعلم الأصول

وعذرا للاختصار خشية الإطالة، وهذا ما حضر وما غاب أكثر

وكتبه

عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

https://telegram.me/walidshawish

صبيحة الخميس 27-10-2014

عمان المحروسة

1 thought on “شبهة اللادينيين في مقولة: “الموروث الديني” ولكل واحد الحق في فهمه

  1. أكتوبر 28, 2016 - منال عبد اللطيف

    راااائع يا دكتور…..حفظكم الله تعالى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top