كأس العالم مُسْكِرة بلا إسكار

تمهيد:

1-بينا كنت مشغولا بأوراقي إذ ناداني الهاتف، وإذا به أحد الإخوة الأشقاء يدعوني لمتابعة المباراة النهائية لكأس العالم، وأنها بين كرواتيا وفرنسا، وأن الشباب مجتمعين فاحتال علي بحضور الاجتماع، كمقصد أصلي وحضور المباراة مقصدا تبعيا حسبما يعبر عنه الإمام الشاطبي في الموافقات.

2-فقلت: إذن، أنا قادم، فإن فاتني الكثير من المباريات فلا تفوتني الخاتمة، وإنما الأعمال بالخواتيم! وبما أن مقصد الرياضة هو رياضة الجسم والمشاهدة مقصد تبعي، قررت الذهاب ماشيا مشيا رياضيا ولو كان ذلك أثناء عرض المباراة،  لأنه  لا يجوز أن يتقدم المقصد التبعي وهو المشاهدة على المقصد الأصلي وهو الرياضة نفسُها، فوجدت الطُّرق غير مطروقة، خالية من المشاة والسيارات، فهذا الذي وجدتُ عليه الناس في قريتي، وبذلك قضى أهل مدينتي، وكأن ديارنا بغداد عندما جاء إليها البخاري صاحب الصحيح، أو  المدينة عند موت سعيد ابن المسيب حيث انفض الناس من المدينة لاتباع جنازته.

أولا: الوصول إلى حيث ألقت برَحْلها كأس العالم:

 وصلت منزل أخي ووجدت ابن أخي يهرول وكأن أمرا جَللا أهمه، فزدته هما على هم، وغما على غم، وقلت له: اقطف لي ذلك القطف من العنب، واتبعني إلى حيث الجماعة، وما هي إلا لحظة كالبرق، دلفت إلى قاعة المشاهدة وورائي ابن أخي يحمل القطف المعين، ثم يولي مدبرا كالمسبوق في صلاته، لإدراك ما  بقي من المشاهدة، ويقضي ما فاته في فترة إعادة البث!

ثانيا: رياضة بلا رياضيين:

وجدت أمامي أقواما أُدرك أنهم بكَّروا للمشاهدة، وكان صعود الدرج تحديا لهم،  يحتاج منهم خطة خمسية لترتيب فترات الاستراحة أثناء الصعود، مع ضرورة الاستناد على جوانب الدرج، أما مرحلة الوصول، فهو يصل لاهثا يتكلم كلمات لا تدري هل جاء الرجل معزيا أم مهنئا، شاتما أم مادحا، ، ولولا المباراة لظننت من تلعثم الرجل بسبب انقطاع نفسه من الدرج أن بيته قد احترق، أو أنه وَتِر أهلَه ومالَه.

ثالثا: البيان رقم 1:

سلَّمت على الجميع وأعلنت منذ البداية البيان رقم 1، لا للتدخين، ثم أُلقيت إلي الوسائد، وطِـيـفَ علي بفناجين القهوة والشاي وصِحاف الكَعْك،  بصفتها مقاصد تبعية، أما المشاهدة فهي مقاصد أصلية عند القوم، وأما الرياضة فهي تشكو الوَحْشة من المجلس،  وسمعت مناديا ينادي أتدري يا د. وليد كم ثمن اللاعبين في الملعب أمامنا الآن، فقلت في نفسي: لقد دعوني إلى ساحتهم التي لا أعلم فيها شيئا، وما علمي فيها إلا كعلم جدتي باللغة الصينية، فأتبع قائلا: مليارا دولار، فعجبت له يسأل ويجيب، فقلت مازحا المهم الأداء الجيد، وأنا ما لي وللغة الصينية.

رابعا: متابعة المشهد:

المباراة محتدمة، الأمة في حالة ترقب هل تغلب الكروات، أم فرنسا، ومَن هم الذي من بعد غَلَبهم سيغلبون في الدورة القادمة، ونظرا لإرث فرنسا الدموي مع المسلمين وجدتُني منحازا إلى الكروات، كما لو كانوا الروم في حرب الفرس في صدر الإسلام الأول، وبينما كان الكروات يهاجمون، انتبهت إلى قدمي وهي تتحرك، وكأنني في الملعب مع القوم، ولولا ستر الله تعالى لـحُطِّمَت أكواب وهدِّمت أباريق، ومُزِقَت الفُرُش كلَّ ممزق، ولكن الدائرة كانت تدور على الكروات والريح مع الفرنسيين، بهدف تلو آخر، مما أدخلني بألم الشعور بالهزيمة بسبب إفلات الفرنسيين من القصاص العادل على يد الكروات! ولكن الأمل باق في الشوط الثاني، ولسان حال أمتي يقول: إن المجرم لن يفلت من القصاص العادل في ملاعب كرة القدم، ولو تمكن من الإفلات في الميدان!

خامسا: تحليل الشوط الأول:

انتهى الشوط الأول وبدأ التحليل الرياضي لمجريات الشوط الأول، وتلخصت مفردات التحليل في الكلمات الآتية: الدفاع، الهجوم، الميمنة، الميسرة، القلب، ولولا أنك تشاهد المحللين لقلت إن القوم يتحدثون عن معركة اليرموك أو القادسية، ويكاد المحللون يصدقون أنفسهم أن حركة اللاعب في الملعب، تخضع لقوانين التحليل ومنهجية البحث.

سادسا: تحليل التحليل:

ذكَّرني المحلل الرياضي الذي حسبته يتحدث عن اليرموك أو القادسية، بما حصل مع ثلاثة أطباء عظام مبتدئين، كانوا يسيرون معا في الطريق، فرأو رجلا  يتفاحج في مشيته، وأحيانا يبدو أنه أعرج، فقرروا المباراة بينهم في تشخيص مرض العظام الذي يعاني منه الرجل، ثم يتأكدون النتيجة بسؤال الرجل، فحكى كلُّ طبيبٍ تشخيصه، ثم اقتربوا جميعا من الرجل فسألوا الرجل عن النتيجة، ولم يقبلوا أن يذهب واحد للسؤال، خشية الخطأ أو التزوير في الإجابة، فأجابهم الرجل: أنا رجل مسهول، ولم أتمالك نفسي حتى تغوطت في ثيابي، ومشيتي هذه هي مشية المتغوِّط، وأرجو أن تصححوا إجاباتكم على حالتي التي تمثل الحقيقة!

سابعا: مشهد ضربة الجزاء تقشعر منه جلودهم:

يبدو أن أحد اللاعبين مس الكرة بيده، فصفّر الحكم معلنا وقف اللعب، ليتحقق لمسَ الكرة باليد بشهوة الصد عن المرمى أم بغير شهوة، وأصبح العالم وكأن على رؤوسهم الطير، يارب سلم يا رب سلم، وذهب الحكم لمطالعة الشاشة، للتأكد من اللمس باليد، فأطال الخشوع أمام الشاشة، ثم رجع القهقرى دون أي إشارة، مما فاقم القلق العالمي على المصير، وإذا بالحكم يعود إلى الشاشة مرة أخرى ويتأملها، فإن الخطب عظيم، وإن الأمر جلل، وإن الورع الرياضي والتقوى الكروية هي أساس العدالة، والحكم في شِباك المرمَى أصبح أشدَّ حَـيْـطة من الحكم في الدماء والأموال.

ثامنا: اللمس مطلقا ولو دون شهوة موجب لضربة الجزاء:

 ولكن الحكَم لم يسأل اللاعب، هل كان لمس الكرة بشهوة الصد عن المرمى أم لا، والملاحظ في مذهب القوم أن اللمس مطلقا موجب لضربة الجزاء، وأن الحكم يتعلق بالفعل نفسه لا بقصد اللاعب، ذلك لأن الصدَّ باليد ولو كان غير مقصود يؤدي إلى الفساد، والأثر في نتيجة المباراة لا يختلف بقصد المكلف، لذلك تَعلَّق الحكم بصورة الفعل بصرف النظر عن قصد المكلف، كما أن المقصِد الكلي هو كرة القدم، ودخول اليد بأي حالة يتعارض مع الكلي القطعي الذي يعيشه القوم وهو القَدَم! ويترتب على ذلك إهمال قصد اللاعب تماما، وتقديمُ القَدَم على القصد من لمس اليد.

تاسعا: إعلان ضربة جزاء:

اقترب الحسم، فالحكَم يؤشر بيده، ويعلن بها شيئا لم أَفهمْه، وإذا بالغرفة تضج بأصوات  الشباب، ضربة جزاء!  وحركات غير طبيعية في الغرفة لترقب النتيجة، حيث ظهرت مع حركات بعضهم نتائج السُّمنة المفرطة، فقد وقعت الزلازل في التِّلال الجبلية على الصدر، وامتدت إلى الهضبة العليا من جهة الجنوب، باعثة أمواجا عاتية على الكَرْش أزاحت القميص عن أسفل الهضبة، وتكشفت منها السُّرة بل السُّرَر، فمنهم من تبدو سرته كطعنة برمح، أو ضربة بساطور، أو كحفرة غائرة في شوارع البلد، ومنهم مَن تبدو سرته وكأنها عضة تمساح، وأُخرى كبَـقِـيّـة حَبْل قُطع في لعبة شد الحبل السُّري بين الممرضات، ويمكن اعتبار ذلك من التنوع الطبيعي، ومظهرا من مظاهر التعددية، ولكن المشترك بين الجميع هو الولادة في مستشفيات الحكومة، وعلينا أن نبحث عن المشترك بيننا، فإن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا.

عاشرا: قرار حاسم بالعودة للأوراق:

رجَحَت كفة بني فرنسا، وأصبح فريقِي المفضل يلعب لعبة اليائس، فقررت الرحيل، والعودة  ماشيا إلى أوراقي، لأحافظ على المقاصد الأصلية وهي الرياضة نفسها، وليس المشاهدة من كروش متدلية تبدو منها السرة، وأفضل ما فيها أنها تثير قضية إنسانية لا علاقة لها بالرياضة، بل كيف يتم استقبال الإنسان في غرف الولادة في المستشفيات الحكومية، ولعل هذا هو أفضل ما كان في مجلسنا الرياضي، حيث أصبحت الصحة هي المقصد الأصلي الذي ينبغي الالتفات إليه، وهو حفلة استقبال المواليد الجدد.

حادي عشر: تحليل ما بعد تحليل التحليل:

بينا أنا أجوب الشوارع الخالية أثناء العودة إلى مكتبي، هجَمَت عليَّ كل النظرات الفقهية والاقتصادية في معنى المنفعة التي لها قيمة مالية معتبرة شرعا، فهل ما رأيته في كأس العالم يستحق مئات الملايين التي دفعتْها الشعوب المقهورة والمفلسة ثمنا للمشاهدة، أم هي المتعة في الفلسفة الاقتصادية الغربية، وأن ما يتم دفعه ليس على منفعة معتبرة شرعا، بل هي المتعة واللذة التي حولت البشر إلى رقيق في أسواق النخاسة الرأسمالية التي تقدس المنفعة واللّذة، وأصبح النظام الرأسمالي شكلا من أشكال الحنين إلى عالم الـرِّقّ الـمُـرَفَّـه.

ثاني عشر: عكس دورة الإنتاج:

كان المنتِج سابقا يبحث عن حاجة السوق، ثم يلبي حاجة السوق من السلع والخدمات، أما في الرياضة اليوم، فإن الرأسمالي يخترع حاجة غير موجودة، ثم يوهم السكارى بأنها ضرورية، ثم يصل بهم إلى حَدِّ الإدمان، كما حصل معي أيام التعليم المدرسي، حيث طُلب مني حصة احتياط عند طلاب الابتدائية الدنيا، فدخلت مستخدما خبرتي في ضبط صفوف الثانوي إلا أن الفوضى عمَّت وطمَّت، وحِرْت فيهم، فقلت: كيف يتعامل المعلمون مع هذه الكائنات الصغيرة، حتى مَنّ الله علي بدخول معلمهم، فقلت له: كيف تفعلون مع هذه الأمة من الناس، فأعلن إعلانه الشهير قائلا: أي طالب يجلس في مكانه سأسمح له بالذهاب للحمام، وإذا بالقاعة هادئة هدوء المقابر.

ثالث عشر: اشْترِ الصداع وخذ المسكنات مجانا (اثنان في واحد):

  مع أن الطلاب في الصف ليسوا بحاجة للذهاب للحمام، ولم يطلب أحد منهم ذلك، إلا أن الاستاذ اخترع حاجة غير موجودة، ثم أوهم الصبيان بها، ثم حقق مكاسب كبيرة بذلك الوهم، وهو إمكانية النوم الهاديء للمعلم في الصف دون إزعاج،   وهكذا تمكنت الرأسمالية من اختراع حاجات مزيفة ثم باعت الوهم للشعوب، وأخذت عَـرَق جبينهم مقابل اللذة والمتعة، بينما أطفالهم  ما زالوا يعانون من لعبة شد الحبل في غرف الولادة، فإلى متى نبقى نشتري وهم الصداع مع المسكنات اثنان في واحد حسب عبوات (الشامبو) بلسم مع غسيل مخ: 2 في 1.

الطريق إلى السنة إجباري

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان المحروسة

السبت 5، رجب، 1441

 29-2-2020

5 thoughts on “كأس العالم مُسْكِرة بلا إسكار

  1. فبراير 29, 2020 - غير معروف

    فتحت جروحاتنا يا دكتور وليد

  2. فبراير 29, 2020 - غير معروف

    دكتور…
    دخلت ما وراء عالم الميتافيزيقيا…وهذا هو الهدف من كل ذلك الوهم والضياع…

  3. مارس 6, 2020 - غير معروف

    جزيتم عنا كل خير دكتورنا وعلامتنا الفاضل

  4. مايو 29, 2022 - غير معروف

    كم أنت عظيم ومهم في هذا العالم المكتض بالتفاهات والسخافات

  5. فبراير 6, 2024 - غير معروف

    بارك الله فيكم دكتور

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top