مباديء التوجيه في تمييز الاقتصادي الإسلامي والأصولي والفقيه

ملخّص

تتقارب التخصصات أحيانا، وتحتاج إلى التمييز بينها بمعايير موضوعية، ومن تلك التخصصات الاقتصاد الإسلامي، حيث يستفيد من تخصصات مختلفة، كالعقيدة، والشريعة وخصوصا فقه الأموال، فقد بينت مدخل التأصيل لتمييز العلوم في المعرفة الإسلامية العامة، القائمة على التمييز بين الحكم الشرعي والعقلي والعادي، وبينت المسارات الثلاثة التي تشكل الاقتصاد الإسلامي وهي مسار العقيدة والشريعة والحكم العادي، فالإضافة إلى بعض الفوائد التي تترتب على التمييز بين هذه المسارات، وكيف تلتقي جميعا عند المصبّ لتشكل معا الاقتصاد الإسلامي بهُويّته العقدية والفقهية، ذلك المصب المسمى أصوليا بتحقيق المناط، مع شيء من التوضيح بالأمثلة، وقد سميت هذا المقالة بمباديء التوجيه، رغبة مني بالاقتصار على الخطوط العريضة في مباديء التمييز هذه، لتكون نظرة كلية مؤسسة على أسس المعرفة الإسلامية في التمييز بين أنواع الحكم: العقلي، والشرعي، والعادي.

أولا: تمهيد وعرض:

لا شك أن العلوم تتكامل فيما بينها، لكنها تتمايز في موضوعها، فلكلٍّ موضوعه الخاص به، وهذا التمييز هو من حيث الموضوع، لا من حيث الأشخاص، فكما يمكن أن يكون هناك شخص واحد هو محدث وفقيه فقد يكون هناك اقتصادي فقيه، إلا أن موضوع الفقه ليس هو موضوع علم الحديث، ولا الاقتصاد هو موضوع علم الفقه، وإن اجتمع الموضوعان في شخص واحد، وكذلك الحال في مجال الاقتصاد الإسلامي، فيمكن أن تجد فقيها واقتصاديا، في شخص واحد، لكن لا يعني أن الفقه هو الاقتصاد، ولكن أحيانا تتداخل الموضوعات بحيث يتساءل المهتمون بالاقتصاد الإسلامي، أين يبدأ دور الفقه وأين ينتهي؟ وأين يبدأ دور الاقتصادي وأين ينتهي في مجال الاقتصاد الإسلامي، وهل هناك نقطة التقاء بينهما يلتقيان فيها؟ وكيف تتحدد المعالم الفكرية الاقتصادية الإسلامية على ضوء ذلك؟

ثانيا: مدخل التأصيل في تمييز العلوم بصفة عامة:

1-الحكم العقلي:

تنقسم الأحكام بصفة عامة إلى ثلاثة أقسام رئيسة، هي الحكم العقلي، والشرعي، والعادي، أما العقلي فهو ما يعرف من جهة العقل استقلالا، أي لا يحتاج فيه العقل إلى التجربة والشرع لمعرفة الصواب، مثل حل المعادلات الرياضية، والنصف أصغر من الواحد، والكل أكبر من الجزء، والنتائج مرتبطة بأسبابها، ولكل فعل فاعل ولكل أثر مؤثر، وهذا لا تختلف فيه البشرية تماما، بل هو ضمن العقل الطبيعي بصرف النظر عن الدين والمعتقد، وهذا العقل هو العقل الفطري أو الطبيعي الذي تبنى عليه العقيدة الإسلامية، وهذا هو العقل المشترك بين بني الإنسان، وهو العقل المخاطب في آيات القرآن الكريم.

2-الحكم العادي:

أما النوع الثاني من الأحكام فهو الحكم العادي، وهذا الحكم لا يستقل العقل بمعرفته على نحو ما ذكرته سابقا في الحكم العقلي، بل يعرف صوابه وخطؤه من جهة العادة والتجريب، مثل الفيزياء والكيمياء، والتي تحتاد إلى تجربة وتكرار التجربة للتأكد من النتائج، ويندرج تحت الحكم العادي النظم الإدارية، التي تدار بها المؤسسات الاقتصادية كمجالس الإدارة، والأقسام والشعب وتحديد الصلاحيات للمسؤولين في هذه الإدارات، وهذه تبقى متغيرة بحسب ما تؤدي إليه من تحقيق المصالح ودفع المفاسد، يعني باختصار لم ينص الشرع على جزئياته وتفاصيلها، بل اقتصر الشرع على تقرير أصلها وهو جنس المصلحة، أما تقدير الجزئيات ومدى كفاءتها في تحقيق المصلحة الشرعية فيعرف من جهة العادة ويعلمه أهل الخبرة على مستوى التفاصيل والجزئيات.

3-الحكم الشرعي:

أما النوع الثالث من الأحكام، فهو الحكم الشرعي الذي لا يعرف إلى من جهة الشرع إما على وجه التفصيل كالأحكام الجزئية مثل: تحريم الربا والميسر، أو أن ينص الشرع على أصل شرعي عام، مثل: المصالح المرسلة، وسد الذرائع، والاستصحاب، وغيرها من الأصول العامة، يعني هناك ما نص عليه الشرع بتفصيل، وهنا ما نص عليه مجملا، مثل رعاية حفظ المال، والنفس، والتعليم، ولم يتطرق للجزئيات، وتركها للناس يقدرون التفاصيل بما يتفق مع الأصول العامة، ولا يتعارض مع الأحكام الشرعية التفصيلية بالنص.

ثالثا: المسارات التي تشكل الاقتصاد الإسلامي:

1-مسار العقيدة (التصورات):

أ-تمثل النظرة الكلية للفكر اللاديني في الغرب أن الإنسان هو صاحب التصرف المطلق في الكون، ولا سلطان لله عليه، وأن الدين لا علاقة له بتنظيم شؤون الحياة العامة، بل هو حالة فردية خاصة، ومن هذه النظرة الكلية للإنسان والكون والحياة تبدأ الفلسفات اللادينية الغربية في فروع المعرفة سواء كانت في النفس، أم الاقتصاد أم السياسة وغيرها من فروع المعرفة.

ب-ومن الملاحظ هنا أن المسار الإسلامي المقابل لهذا المسار في الفكر اللاديني هو مسار العقيدة الإسلامية، التي تبدأ من مبدأ الاستخلاف الإلهي العليم الحكيم، للإنسان الذي تحمل أمانة الاستخلاف، فالله تعالى هو العليم والحكيم، والإنسان المؤمن هو الذي يعبد الله على بصيرة بما جاءه عن رسول الله تعالى فيما يتعلق بأمر الاستخلاف في العقيدة، وأن المسلم يؤمن بأن ما جاءه من ربه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم هو الأصلح من رؤية الإنسان القاصرة.

2-مسار التشريع (الشريعة الإسلامية أم القوانين الوضعية):

أ-انبثق عن مسار العقيدة مسار التشريع، فالغرب انطلق من الإنسان الفرد جاحدا ربه ورسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقابل نعمة الله تعالى بالعناد والاستكبار، فادعى لنفسه حق التشريع المطلق بناء على فلسفته في الكلية للإنسان الكون، فجاءت القوانين الغربية مستجيبة لقوى رأس المال الذي تحول إلى سلطة تصنع القوانين عبر برلمانيين تسمَّنوا على موائد رجال الأعمال، ووصلوا للبرلمان بأموال رجال الأعمال وإمبراطورياتهم الإعلامية، وجاءت القوانين خادمة لسلطة رأس المال، وحلّ رجال الأعمال محل رجال الإقطاع والنبلاء في العصور الوسطى، بينما حل البرلمان محل القيصر، وأصبحت القوانين خادمة لرأس المال الذي أصبح سلطة حاكمة، بناء على أن العقد شريعة المتعاقدين، اللذين يرتبان الحقوق والالتزامات حسب قوة كل منهما.

ب- أما في المسار الإسلامي المقابل للقانون الوضعي فهو مسار الشريعة، وهي تتضمن أوامر ونواهٍ شرعية صارمة معززة بالإجماعات الفقهية، تقيم التجارة على أسس من التبادل التجاري الحر، بعيدا عن قوة النفوذ والسلطة، وهي ضامنة للعدالة، فجاءت الشريعة بنصوص شرعية ناهية كتحريم الربا حيث يحقق الرأسمالي ربحا ماليا ولو خسر المشروع فعلا، وغير ذلك من النواهي الشرعية المتعلقة بالسوق وظروفه، لتضمن تبادلا يحقق سعرا عادلا في عقود متوازنة، لذلك كثرت المناهي الشرعية التي تحول دون تحقيق ربح بواسطة النفوذ والقوة.

3-مسار الاقتصاد بوصفه علما:

كل يمكن أن يعرف بواسطة العادة من أمور الاقتصاد ولا يتوقف على الشرع فهو من الحكم العادي، فعلى سبيل المثال إذا أردت أن تشتري بيتا، فإنك تحرص على أن يكون ملائما لحاجاتك وبسعر مناسب، فكون البيت شقة، أم منزلا مستقلا، لا يوجد حكم شرعي يحدد لك المطلوب، بل يرجع الأمر وفق تقديرك أنت لحاجاتك وملاءتك المالية، لكن الشرع يكون حاضرا في بناء العقد بأركانه وشروطه، ولا يستفسر عن رصيدك في المصرف إن كان ملائما لشراء مثل هذا المنزل، أم عدد أبنائك وغير ذلك فهذا لا يؤثر في العقد من الناحية الشرعية، لأن الشريعة أحالت في ذلك إلى حرص الناس على حاجاتهم وتوفير أموالهم، فلا معنى لتدخلها هنا لأنه من تحصيل الحاصل، ولكن الشريعة التفتت إلى ما يمكن التفريط فيه من قبل البشر، كأن يكون المبيع محرما مثلا.

رابعا: أين مواطن الاتفاق والافتراق بين الاقتصاد الإسلامي والتقليدي؟

1-مواطن الافتراق:

يمثل المساران الأولان العقدي والشرعي المعرفة العلمية الحاكمة للاقتصاد الإسلامي، ولم أشأ أن أقول المذهب الاقتصادي الإسلامي أو الفلسفة الاقتصادية الإسلامية لأسباب ليس هنا محل بسطها لأنها تتعلق بالعلم الإلهي والنبوة وهما لا يوصفان بالفلسفة، والإسلام ليس مذهبا ولا فلسفة، والمذهب، ويقابل هذه المعرفة العلمية الحاكمة للاقتصاد الإسلامي، أما المذهب الاقتصادي أو الفلسفة الاقتصادية في الاقتصاد الربوي التقليدي، فهي تتشكل من المسارين الأول والثاني في الاقتصادي التقليدي الربوي، وقد يكون هناك بعض مواطن الاتفاق في مجال الحكم الشرعي مثلا  كأركان البيع، وتحريم بعض أنواع التجارة كتجارة المخدرات، ولكن مع ذلك هنا خلاف واسع في أصول النهي في البيوع كالربا، والغرر، وتقييد التعاقدات بعدم مخالفة نص شرعي أو مقتضى العقد، خصوصا أن الرأسمالية تطلق العنان للفرد بشكل مخالف لما تقتضيه أسس العدالة في الشريعة الإسلامية.

2-مواطن الاتفاق:

إن موطن الاتفاق بين الاقتصاد الإسلامي والتقليدي الربوي هو الحكم العادي، كقوانين العرض والطلب، فهذه تنتمي إلى الحكم العادي ويتوصل إليها الإنسان بقدراته، ويعلم صوابها من خطئها بالتجربة والعادة، وكدراسات الجدوى الاقتصادية التي لا تبحث في الإطار العقدي بل بتقدير المخاطر والأرباح والمراجحة بينها، ولكن يأتي الافتراق من حيث العقيدة والشريعة في الإسلام في اشتراط الاستثمار في الطيبات، وتحريم الكسب الخبيث كالربا وبيع المحرمات، بينما نجد الأمر مختلفا في الاقتصاد التقليدي.

خامسا: فوائد التفريق بين العادي والشرعي في الاقتصاد الإسلامي:

1-تمييز ما هو علم من الاقتصاد ويمكن أن يستفيد منه المسلمون، وهو مشترك بشري، وبين ما هو مذهب يحرم تقليده على المسلمين.

2-كشف مواطن التأثر والتأثير بين الاقتصاد التقليدي الربوي والإسلامي، وأين تأثر كل منهما بالآخر، في نماذج تحليل الظاهرة الاقتصادية، ويعتبر تأثير الاقتصاد التقليدي في الاقتصاد الإسلامي في المسارين الأول والثاني غزوا ثقافيا.

3-تمييز دور الأصولي المتمثل في التصورات العقدية وهي الفكر، عن دور الفقيه هو البحث في التصرف أي في أفعال المكلفين في عقودهم وشروطهم والحلول الفقهية التي يحتاجونها بعيدا عن الحيل المحرمة.

4-يظهر جليا دور الفقيه وهو في البحث في الحكم الشرعي والمسائل الفقهية المتشابهة التي تأخذ أحكاما شرعية مختلفة، وهو أعلم بكيفية استنباط المجتهدين للأحكام من النصوص الشرعية، فهو أعلم بالحكم الشرعي وطرق الكشف عنه.

5-يظهر جليا دور الاقتصادي وهو معرفة الواقع الاقتصادي وأنه أقدر على تصور المسائل الاقتصادية محل البحث، وتفاصيلها الدقيقة، فهو أقدر على تصور وقائع الاقتصاد والمال من الفقيه، بينما الفقيه أقدر على معرفة الحكم الشرعي وطرق الوصول إليه.

6-دفع شبهة هل الاقتصاد الإسلامي علم أم مذهب؟ فالاقتصاد الرأسمالي جزء منه علم في مساحة الحكم العادي، وجزء منه مذهب فيما قابل المسار العقدي والشرعي في الإسلام وهو المذهب الاقتصادي، وعليه يتبين خطأ من يقول بأنه لا يوجد اقتصاد إسلامي لأن الاقتصاد علم، فحسب زعمه كما أنه لا يوجد كيمياء إسلامية لا يوجد اقتصاد إسلامي، والمساران الأولان يكشفان عَوَر مقولة لا يوجد اقتصاد إسلامي.

7-التمييز الضروري بين تخصص الفقه وأصوله وخصوصا في المعاملات المالية، وبين التخصص الاقتصادي أو المصرفي الذي يُعْنَى بمرحلة ما بعد الحكم الشرعي، فطالب المالية الإسلامية ينطلق من معرفة الحكم الشرعي وليس البحث في طريقة الوصول للحكم واستنباطه، فهذا تخصص فقهي آخر مختلف، وكذلك طالب الفقه فهو مَعْنيٌّ بالحكم الشرعي وأدلته، فالحكم الشرعي منطقة اللقاء بين الفقيه والاقتصادي، ولكن ينفرد الفقيه بطرق الاستنباط، وينفرد الاقتصادي بالتصور الدقيق للوقائع، وهو صاحب الخبرة فيها.

8-لا بد من التأكيد أن المسار العقدي والشرعي في الاقتصاد الإسلامي هما عِلْم أيضا، لوجود مصادر ومناهج علمية موثوقة تحكم عقل المجتهد في طريقه للوصول إلى نتائج ذات صدقية عالية، بينما المذهب الاقتصادي التقليدي هو وجهات نظر فلاسفة متناقضين بين اشتراكية ورأسمالية، واقتصاد مختلط، فلا يمكن اعتبار فلسلفتهم ووجهات نظرهم علما لعدم وجود منهج موضوعي علمي، بل الفلسفة الاقتصادية غير الإسلامية هي وجهات نظر ذاتية مهما ادعى أصحابها أنها علمية، كزعمهم الاشتراكية العلمية.

سادسا: الاقتصاد الإسلامي ثمرة تلاقي المسارات الثلاثة (العقدي، الشرعي، العادي):

أ-لا يتشكل الاقتصاد الإسلامي إلا عند التقاء الروافد الثلاثة: التصور العقدي، والحكم الشرعي، والحكم العادي الذي يمثل جزء العلم المشترك بين الأمم في المجال الاقتصادي بصرف النظر عن فلسفاتهم، مثل عمليات الجراحة الطبية، وثمرة تلاقي المسارات الثلاثة في الإسلام بواسطة تحقيق المناط، الذي يعني تنزيل الحكم الشرعي على محله في الواقع، كأن يلتقي الفقيه مع الاقتصادي، ثم يبدأ الاقتصادي بوصفه صاحب الخبرة بتصوير الواقع، ثم يبدأ الفقيه بعرض الحالة المنظورة أمامه على الحالات المعلومة لديه لينزل الحكم الشرعي الملائم على الصورة الملائمة للحكم وفق خبرة الاقتصادي.

ب-وتحقيق المناط هو ضَرْب من القياس، لأنه تجري فيه المشابهة بين الحكم الفقهي والصورة المناسبة له، وهذه منطقة التواصل الضرورية بين الفقيه والاقتصادي، وهي المنطقة التي يراوح فيها الاقتصادي والفقيه معا، ولا يستغنيان عنها البتة، فمرحلة ما قبل الوصول للحكم الشرعي ليست من شأن الاقتصادي، ومرحلة تصور الواقعة الاقتصادية بتفصيلاتها الدقيقة ليست من اختصاص الفقيه، ولكنهما يجتمعان في تحقيق مناط الحكم الشرعين، أي مرحلة تنزيل الحكم على الواقع، فالفقيه كقائد الطائرة باعتبارها الحكم الشرعي، أما الاقتصادي فهو خبير المدرج وبرج المراقبة التي سيتنزل عليها الحكم الشرعي.

سابعا: روابط فيديو ذات علاقة:

1-التعريف بتحقيق المناط .

2-التمييز بين أنواع الحكم العادي والعقلي والشرعي.

وكتبه

د. وليد مصطفى شاويش (غفر الله له ولوالديه)

 https://www.facebook.com/drwalidshawish/#

صبيحة الجمعة المباركة

14-10-2016

عَمان المحروسة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top