من فقه الدولة والخلافة عند الصِّديق رضي الله عنهما: ما الذي اشترطه الصِّدِّيق على الفاروق في أمر الخلافة؟

تمهيد: 

1-من فقه المجتمع في الإسلام: 

عندما كانت الخطوب تقرع ديار المسلمين، كان المسلمون يفزعون إلى سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وكانت السيرة العطرة للرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم شعلة الإيمان، تستنير بها الأمة في حُلْكات الظُّلَم، وما أحرانا في هذه الأيام أن نتقدم خطوة إلى الوراء، أو نرجع خطوة للأمام حيث أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يجري مشاورات الخلافة من بعده، بعد أن تيقن رضي الله عنه، أن موعد اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم قد أزِف، وأن رَكْب الإسلام ماضٍ إلى يوم القيامة، لاسيما وأن الله تعالى قد كَحَل عينَـي الصديق بثبوت قدم الإسلام في جزيرة العرب، ولكن أمر الخلافة من بعده ما زال يؤرقه، تعالوا بنا، إلى حضور تلك الخطبة القصيرة، لفهم فقه الصديق في أمر الخلافة والدولة، ونستلهم من عمالقة الدولة والسياسة والانتصار.

2-كلام للصديق  جدير بالوقوف عنده: 
أ-جاء في الجامع الصحيح للسنن والمسانيد ، في خطاب الصديق عندما أراد أن يستخلف الفاروق رضي الله عنهما: … إِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى أَمْرٍ مُتْعِبٍ لِمَنْ وَلِيَهُ , فَاتَّقِ اللهَ يَا عُمَرُ بِطَاعَتِهِ , وَأَطِعْهُ بِتَقْوَاهُ , فَإِنَّ الْمُتَّقِيَ آمِنٌ مَحْفُوظٌ , ثُمَّ إِنَّ الأَمْرَ مَعْرُوضٌ , لَا يَسْتَوْجِبُهُ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِهِ , فَمَنْ أَمَرَ بِالْحَقِّ وَعَمِلَ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَعَمِلَ بِالْمُنْكِرِ، يُوشِكُ أَنَّ تَنْقَطِعَ أُمْــنِـيَّـتُــهُ وَأَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ , فَإِنْ أَنْتَ وُلِّيتَ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ , فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُجِفَّ يَدَكَ مِنْ دِمَائِهِمْ , وَأَنْ تُضْمِرَ بَطْنَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ , وَأَنْ تُجِفَّ لِسَانَكَ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ , فَافْعَلْ …)
ب-استهل أبو بكر رسالته لعمر رضي الله عنهما بالحث على تقوى الله تعالى وطاعته، وجعل التقوى سببا للحفظ للحاكم والرعية، وهو أمر أساس في حياة هذه الأمة المؤمنة في دولتها وشعبها، وهنا أقف عند اشتراطات الصديق رضي الله عنه على عمر كما جاء في الأثر أعلاه، وكيف نَقْبِس من حياة سلفنا الصالح قبَسا نضيء به الطريق لنا ولأبنائنا من بعدنا، ونخرج من حالة الفوضى في التفكير في أمر الدولة والأمة، وفيما يأتي فقه الصديق رضي الله عنه في شأن الدولة.
أولا: إِنَّ الأَمْرَ مَعْرُوضٌ , لَا يَسْتَوْجِبُهُ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِهِ:
يقول الصديق للفاروق إن أمر الخلافة أمر عمل، ولا يستحقه إلا من يأخذه على أنه تكليف لا تشريف ومكافأة، وليس بقوة نفوذه، بل بِجِدِّه في العمل لهذه الأمة، وأن مناصب الإدارة ليست سلطة وسيفا على رقاب الناس، بل إن الخلافة عمل جاد في خدمة المجتمع المسلم وكل من يعيش فيه، فهو من أرفع المناصب في خدمة الدين والأمة، وليس في الأبَّهة والشهوة.
ثانيا: فَمَنْ أَمَرَ بِالْحَقِّ وَعَمِلَ بِالْبَاطِلِ… أَنَّ تَنْقَطِعَ أُمْنِيَّتُهُ وَأَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ:
ومعنى قوله هذا أنه لا يجوز للحاكم أن يأمر بأمر ويفعل خلافه، وما أكثر أن يحدث هذا في بعض الدول المعاصرة، فتجد إنجازاتها لا تتجاوز الإعلام، وتجد تناقضا واضحا بين البرامج المطروحة، والفعل على أرض الواقع، فيكون الحاكم بذلك قد أمر في الإعلام بمعروف، ولكن فعله لم يكن كقوله، بل كان مخالفا، ويبين الصديق أن الدعاية الإعلامية للإنجازات، أو أن يزعم الحاكم أنه يسير بنهج السنة وليس هو كذلك، ستكون نهايته الفشل،لأن الأمور ستنتهي إلى الحقائق على الأرض.
ويبين أبو بكر عاقبة التناقض بين دعاية الحاكم وقوله وبين إجراءاته وأفعاله، فيقول: (يوشك أن تنقطع أمنيته، وأن يحيط به عمله)، فمن ادعى دولة الخلافة والإسلام، أو الجدارة بالحكم والمسؤولية، وخالف قوله فعله، فإن ذلك سيرتد عليه بعكس مقصوده، وستكون عاقبة استخدامه الإسلام مادة للدعاية لجمع المسلمين إلى سلطته، وبالا عليه إذا لم يحقق الإسلام فعلا وحقيقة، ولن تنفعه الدعاية السوداء، ولا الصحافة الصفراء، لأن دولة الخلافة ليست دعاية ولا خطبة جمعة، ومجموعة من العمائم، بل هي حقائق قائمة على الأرض، تتمثل جوهر الإسلام في العدل والحق، ولو مع الأعداء والخصوم.
ثالثا: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تُجِفَّ يَدَكَ مِنْ دِمَائِهِمْ:
فالصديق لا تكون الدولة -في نظره- على هدي النبوة بشكل من اللباس، أو حُزمة من القوانين، ويضع أبو بكر الصديق رضي الله عنه شرطه الأول على عمر أن يحقِن الدماء، ويحافظ على الأرواح، ويقول له: إن الدولة التي تستهتر بأرواح الناس ولا تحتاط لدمائهم، لانصيب لها من الإسلام، لأن جوهر الدولة في الإسلام أن يعيش الإنسان على أرضها آمنا على دمه وماله، وإن كان غير مسلم فله يمارس عبادته في ضوء ما حكمت له الشريعة، وأن يضمن الجميع محاكمة شرعية عادلة، وإن العلامة الفارقة لدولة الخلافة تحت أي اسم كانت، أن يهرب المظلومون إليها لا منها، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، فليست العبرة باسم الدولة وشكلها، بل في مضمونها وجوهرها، وبقدر ما تطبق العدل بين أفرادها.
رابعا: وَأَنْ تُضْمِرَ بَطْنَكَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ:
أما إضمار البطن من المال، فهو علامة فارقة أيضا فيمن يتولى أمر المسلمين، فهو يتحرى أشد التحري أن يدخل في جوفه شيئا من أموال المسلمين أو غيرهم بغير وجه شرعي، وهو أمر أقامت له المجتمعات الحديثة الجمعيات والمؤسسات لرقابة رجال الدولة في نطاق المال العام وأمانتهم فيه، وبالرغم من ذلك، فقد اختلطت السياسة بالمال، والشـركة بالدولة، وهنا يحذِّر الصديق خليفتة من بعده أن تزِلَّ قدمه في أموال الناس، وهو نداء أخير يطلقه الصديق في حياته وهو على سرير الموت، لكل موظف ومسؤول يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن لا يقع في أموال الناس، سواء كان حاكما أم محكوما، وأن هذا هو التدين الإسلامي الرفيع في فضاء الدولة والمجتمع.
خامسا: وَأَنْ تُجِفَّ لِسَانَكَ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ:
يتبادر للذهن أن العِرض يختص بنساء الرجل، والصحيح أن العِرض هو موضع المدح أو الذم من الإنسان، وهو ما يعرف بسمعة الإنسان في تعبيرنا المعاصر، وقد جاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغني المماطل في سداد الدين: «لَـيُّ الواجد يُـحِلُّ عقوبتَه وعِرضَه» فتجوز شكايته للقضاء ، ولا يخفى على من يَـنْـبَـري للعمل السياسي والحكم كيدُ الخصوم السياسين لبعضهم، ويصل الأمر إلى حد الإعدام المعنوي للمنافسين السياسيين، واغتيال شخصياتهم بالطعن والتشويه في سبيل إسقاطهم، ويحذِّر الصديق خليفته الفاروق من اللجوء إلى مثل هذه الأعمال، التي تقع ممن يعنون بالعمل السياسي والشأن العام، وهو توجيه من الصديق إلى كل مسلم ينشغل بالعمل السياسي، وأن المنافسة في العمل السياسي تخرج عن هدي النبوة والصحابة إذا ولغت ألسنة السياسيين في أعراض بعضهم بعضا، وتحولت السياسة من سياسة لخدمة المجتمع إلى تناحُر على المراكز ومواقع النفوذ، ولو كان ذلك بالتشويه لشخصية الأبرياء.
سادسا: أمر غريب:
حقا إنه لأمر غريب في أمتنا أن ترى مثل هذا الثراء في المباديء الثابتة، على ألسنة إمام كبير من كبار أئمتها، ثم تذهب لتبحث عن صلاح حالها في مناهج أمم أخرى، لو وجدت تلك الأمم كلمات الصديق القليلة الألفاظ الزخارة المعاني، لكتبتها على باب رئاسة وزرائها تعلمهم كيف تكون أخلاق الحكم وأسسه الثابتة، ولكن الشعور بالهوان والذل يولد فكرا تقليديا أعمى، يعظم الصغار، ويصغر العظام، ويتخذ من الفكر النفعي (البراغماتي) الشرس مثالا له في الحكم والدولة، هذا بالرغم ما بين يديه هذه المباديء الخالدة، التي كانت بمثابة النداء الأخير للصديق رضي الله عنه وهو على فراش الموت.
سابعا: أمر أغرب من الأول:
ولكن ما هو الأغرب من الأول أن يفهم فئام من الناس أن دولة الخلافة جاءت إلى الناس بالذبح، والحرق، والقتل، لا تميز بين ما هو سياسة متغيرة حسب الزمن، والحكم الشرعي القطعي العابر للزمن، وإن أدنى مقارنة بين فقه دولة الخلافة عند الصديق ودعاوى دولة الخلافة عبر الزمن، يجد المسلم أن أمر الخلافة ليس مجرد دعوى، بل لا بد أن تخضع للمعايير التي اشتقّها الصديق رضي الله عنه من آثار البنوة الخاتمة، وإن هذه المعايير التي قطَـفْتُ بعضها من فم الصديق رضي الله عنه هي جزء من معايير أخرى، من الوصية نفسها، ولكنني أخذت قطعة من الوصية، وتركت قطعا أخرى خشية الإطالة، وسأتابع عرض تلك المعايير التي استنبطها الصديق رضي الله عنه من الشريعة في مرات قادمة إن شاء الله تعالى.
س: استخرج من وصية أبي بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما معايير أساسية تُـقَيـَّم على ضوئها الدولة الحديثة.
س: كيف نستفيد من سيرة الصديق رضي الله عنه في إنعاش السَّبْق الحضاري والمناعة الثقافية لأمتنا، في وجه الذين يفرِضون الاضمِحْلال الحضاري عليها، لإدخالها في مرحلة الغلُو الديني والتحلُّل اللاديني المتوحِّش؟

وكتيه الفقير إلى عفور به

د. وليد مصطفى شاويش

عمان المحروسة

الطريق إلى السنة إجباري

صبيحة الجمعة المباركة

8/5/ 2015

5 thoughts on “من فقه الدولة والخلافة عند الصِّديق رضي الله عنهما: ما الذي اشترطه الصِّدِّيق على الفاروق في أمر الخلافة؟

  1. نوفمبر 22, 2016 - انوار صبح

    عندما يُعرض تاريخ امتنا السياسي بهذا العرض المنمق نشعر بالفخر بانتمائنا لهذا الدين العظيم

  2. سبتمبر 25, 2019 - مثنى الراوي

    جزاك الله خيرا على مجهودك الرائع الذي بذلته من أجل إثراء عقل المسلم بهذه المقالة القيمة

  3. سبتمبر 25, 2019 - غير معروف

    اكرمك الله دكتور وليد…
    عندما يكثر الرجال من امثالك غيورين لهذا الدين ويعملوا به ويعلموه…
    سادمج السؤالين واجعل لهما جوابا واحدا
    فان لوصيةابو بكر الصديق جامعة لعز الدين…فهي وصية تكتب بماء الذهب..بالرغم من انها قليلة الكلام ، الا انها بينت كيف الحفاظ على الدين الحنيف كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.فهي ابتدأت بصلاح الوالي وان الولاية ليست بالامر الهين، وأن يتحلى الناس بالتقوى فهي رأس الامر وصلاحه وصلاحه. أيضا نستفيد من سيرة الصديق اشياء كثيرة منها:
    عندما يكون نظرة الشباب من الزواج لامها نصف دينه،ولا يكون جل همه الشكليات (سيارة،بيت ،وظيفة …) واعمال الاسرة..في كسب المال ويخسر الاسرة.
    عندما يكون اهتمام الأم فقط منصب على الطعام والشراب والملبس وما إلى ذلك،وتتجاهل ان انشاء جيل منذ نعومة أظفاره على حب هذا الدين ، بأن تقص عليهم ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة وما ما بدأت لنشرها الدين.

  4. سبتمبر 25, 2019 - غير معروف

    وكيف تضرب الأم لأولادها قصص الابطال كصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح، والشافعي وكيف كانت امه ترافقه لصلاة الفجر وهو بعمر الست سنوات….
    وان هذا الدين هو عزنا وفخرنا ،والجد والاجتهاد وليس التواكل والسلبية، وليس جالس على وسائل التواصل ومحطات التلفاز والذي يعرض عليها افلام الانحلال والخيال اللامعقول في الوصول للشهرة،حتى يتمنى العيش فيها ،وهي حياة اشبه بالجاهلية الاولى.
    عندما يكون لدينا نظرة للمرأة نظرة عادلة ومنصفة عادلة كما كرمها الاسلام،فهي نصف المجتمع..وقال نابليون عنها (الأم التي تحرك سريرابنها بيدها تحرك العالم بيدها الاخرى).

  5. سبتمبر 25, 2019 - غير معروف

    كل الاديان كانت صالحة لزمان ومكان محدد، الا الدين الاسلامي فهو صالح لقيام الساعة، وهو لخيري الدنيا والاخرة.
    عندما نشعر بالعزة والفخر لهذا الدين ،ونعمل بمقتضاه في السر والعلن، وبذلك يهاببنا كل العالم ،ويكون العزة لنا بهذا الدين…اذلة على المؤمنين اعزةعلى الكافرين رحماء بينهم.
    واخيرا اختم بمقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه..نحن قوم اعزنا الله بالاسلام فإذا ابتغينا العزة من غيره اذلنا الله.اللهم اعز الاسلام والمسلمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top