نحو ضبط المعرفة الشرعية: اجتهاد العامي بتنزيل الحكم الشرعي على محله أمثلة وشرح

أولا: توضيح ما سبق:

سبق أن بينت أن اجتهاد العامي هو في تعيين المجتهد الذي يأخذ عنه الدين، وأن من شرط المجتهد أن يكون عالما تقيا، فلا يؤخذ علم من جاهل تقي، أو من مُفْتٍ فاسق، عُرف باقتراف الكبائر، أو بالإصرار على الصغائر، ولكن الحديث اليوم عن اجتهاد آخر للعامي، وهو تحقيق المناط، ومعناه: أن العامي لا يبحث في الحكم الشرعي وأدلته، بل الحكم الشرعي واضح وثابت لديه، ولكن العامي ينزله على محله في الواقع، فكما أن العالم المجتهد في الشريعة هو عامي في الطب، وعليه أن يعين الطبيب الحاذق لحماية الجسد من الضرر، فإن العامي أيضا عليه أن يعين المجتهد في الشرع، حماية لدينه من الخطر، ولكن هناك قدر مشترك بين المجتهدين والعامة وهو الاجتهاد  بتحقيق المناط، الذي يعني تنزيل الحكم الشرعي بعد ثبوته على محله في الواقع، وهذه بعض الأمثلة لاجتهاد العامة.

ثانيا: أمثلة حسية لتوضيح معنى تحقيق المناط:

  1. يعني أن تحقيق المناط هو أشبه بالبحث عن المفتاح الصحيح للقفل المغلق، فالمفتاح هو الحكم الشرعي، والقفل هو الواقعة التي نريد أن نحدد لها الحكم (المفتاح) المناسب، ولا يمكن أن تُنزَّل الشريعة على الواقع إلا باجتهاد، سواء من المجتهد أم من العامي،  وتحقيق المناط مشترك بين العامي والمجتهد، ولا ينقطع إلا بالموت، فعلى فرض أن (س) قدم 10 دنانير للموظف العام وزعم أن هذه هدية، وقال الموظف العام لا أقبلها لأنها رشوة،  فما قُدم للموظف العام لم يصلح له مفتاح الهدية، بل صلح له مفتاح الرشوة، وأن (س) مخطيء في تنزيل حكم الهدية على ما يقدم للموظف العام، والصواب تنزيل حكم الرشوة.
  2. وتحقيق المناط يشبه الطائرة التي يهبط بها الطيار على الـمَدْرَج مستعينا ببرج المراقبة، فالطائرة هي الحكم الشرعي، والطيار هو الفقيه، وبرج المراقبة هو الخبرة الفنية اللازمة أحيانا: طبية، هندسية، اقتصادية، إلخ، ولكن ينبغي الحذر من الهبوط على الطرق السريعة التي يتوهم أنها مدرج لاشتباه المجتهد في محل الحكم، لأن مَدْرَج الطائرة هو محل الحكم في الواقع، ولا بد أن ينزل عليه الحكم الشرعي بدقة.

ثالثا: أمثلة اجتهاد العامة بتحقيق المناط:

  1. أن يتحرى المزكي أحمد إعطاء زكاته للفقير، فالحكم ثابت شرعا، ومجمع عليه وهو أن الزكاة للفقير لا للغني، فيقدِّر المزكي أن (س) مثلا غير قادر على شراء العلاج فيعطي الفقير أجرة العلاج لأنه فقير، وتقدير المزكي هنا لكون(س) فقيرا هو تحقيق مناط، ولا يحتاج في ذلك عالما يستفتيه في دفع الزكاة لـ (س).
  2. طلب (س) من محمود أن يقرضه الف دينار على أن يردها بعد ستة أشهر ألفا ومائة، وأن هذا من المساعدة والتعاون والاستثمار، فيقول محمود هذا ربا محرم بشكل واضح، فقام محمود بتنزيل حكم الربا على طلب (س)، وهو الصواب، وأخطأ (س) بتنزيل حكم الاستثمار والتعاون على الواقعة.
  3. (س) مع قدرته لا يزور أخته حتى في العيد، ولا في مناسبات زواج أولادها وبناتها، فقال له جاره الأمي، يا بني ما تفعله هو قطع رحم، فنزل جاره الأمي مناط (حكم) قطع الرحم على فعل (س)، وهذا اجتهاد من الشيخ الأمي، وهو مقبول شرعا.
  4. عرض (س) على الموظف العام خالد هدية لتسهيل بعض المعاملات له، فقال خالد، هذه رشوة وليست هدية، فقال له (س) هذه هدية، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الهدية،فعندئذ يكون الموظف الأمين خالد قد نزل على ما سُمي هدية (س)  حكم الرشوة فحرمت، ولو نزل عليها حكم الهدية كما فعل (س)  لجازت، وهذا نموذج شائع من أخطاء العامة في تحقيق المناط، وسببه ضعف النفوس، وربما ما في قرارة نفس (س) هو عين ما قال به الموظف الأمين.
  5. اكتشف الشرطي سعيد أن بحوزة (س) مادة مخدرة ولكنها غير معروفة باسم معين منصوص عليه، فقام بتنزيل حكم الشريعة على هذا المحرم لهذا الوصف وهو المخدر المسكر، فالشرطي سعيد لم يجتهد في الحكم، بل الحكم جاهز، ولكن نزله على محله في الواقع فقط، ولكنه لو اشتبه في كون هذه المادة مخدرة أم لا فإنه يتوقف حتى تأتي نتيجة الفحص المخبري الجنائي، الذي يمثل الحاجة إلى الخبرة في تعيين محل الحكم الشرعي، فإن كانت النتيجة أن المادة مخدرة بالفعل، فلا يحتادج الشرطي سعيد ولا موظف الجمرك إلى المجتهد ولا سؤاله، ويطبق الحكم الشرعي بتحريم المخدرات فورا، مع أن الشرطي سعيد وموظف الجمارك ليسا مجتهدين في الأدلة والحكم، بل في تنزيل الحكم الشرعي على محله في الواقع فقط.
  6. تحري وقت صلاة المغرب، فالحكم الشرعي أن وقتها يدخل بغروب الشمس، فعندما ينظر أهل المدينة في ساعاتهم للتأكد من دخول الوقت حسب التقويم المعتمد، أو ما يفعله أهل البادية والقرى من النظر بالعين المجردة، فيصلُّون حين تغرب الشمس، فهذا يعني أن العامة لهم اجتهادهم في تنزيل الحكم الشرعي على محله، والحكم الشرعي هنا هو إذا غربت الشمس وجبت المغرب، فيبدأ المسلم بتحري الغروب بوسائل مختلفة لتطبيق الحكم الشرعي الثابت، ولا ينشيء حكما شرعا، ولا يحتاج للمجتهد في الأدلة والحكم، بل يصلي عند دخول الوقت، ومثله الاجتهاد في تحري القبلة في السفر مثلا، وهذا اجتهاد واجب على العامة.
  7. ما تجريه بعض القنوات الفضائية من مسابقات بين المتشاركين بشرط دفع مقابل نقدي أجرة زائدة في الاتصال الهاتفي، للمراهنة على جائزة، هل يتناول هذه المسابقات حكم العِلْم المشروع فتجوز، أم حكم القمار فتحرم، فلما كانت دفع مال مقابل جائزة محتملة الفوز بها، كانت هي عينَ القمار، ودخل عليهم الشيطان بحيلة الثقافة، وأحيانا تكون المسابقة دينية، وتكون الجائزة المقامر عليها عمرة، وعندئذ يكون الشيطان لعّب بعض المتدينين قمارا وأرسلهم عمرة!! من أموال أكلوها ظلما من المتسابقين الذين لم يفوزوا بالعمرة، وهذا شكل من أشكال التدين المزيف التي ينتجها سحر الواقع، وليس الشرع.
  8. ما يسمى باليانصيب الخيري، هل هو تبرع لجهة خيرية فيصدق عليه وصف الصدقة، أم هو دفع مال في غَرَر يترجح عدمه وهو القمار، والفائز بالجائزة هو الذي شفط الجائزة من أموال المقامرين الآخرين، فيتبين أن الشيطان دخل من حيلة العمل الخيري، ولَبَس حقا بباطل، وعليه يتنزَّل حكم القمار على واقع اليانصيب الخيري، الذي يسمى في تحقيق المناط محلَّ الحكم.
  9. هل يتناول عملية ربط المعدة لعلاج السمنة حكم الزينة فلا تجوز لما فيها من جرح وكشف للعورة من غير ضرورة شرعية، فإذا أثبت الطب أن السمنة مرض يسبب السكري وأمراض القلب والشرايين، فهذا يعني أن عملية ربط المعدة هي حالة ضرورة إذا تعينت بخبرة طبية معتمدة شرعا، وهنا يمكن فهم قاعدة( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) بشكل صحيح في محله، بسبب تطور الطب وتشخيصه أن السمنة بدرجة محددة يكون مرضا واجب العلاج، وتصبح العملية الجراحية لربط المعدة جائزة شرعا لأنه ضرورة علاج.
  10. لو أن (س) يعاني من تشوه في أسنانه، ويريد أن يقوم بعملية تقويم أسنان، فسأل صديقه عن حكم ذلك، فقال الصديق: لا يجوز لأن هذا تغيير لخلق الله، وتغيير خلق الله تعالى حرام، يعني نزل حكم تغيير خلق خلق على تجميل الأسنان المشوهة، ثم استفتى (س) عالما فقال له، تقويم الأسنان جائز لأنه يتنزل عليه حكم الزينة المباحة شرعا، وأنه إظهار الخِلقة الطبيعية التي خلقها الله تعالى، وهي إظهار خلق الله تعالى، كما هو الحال في جراجة التجميل للحروق والجروح، أما تغيير خلق الله تعالى فيكون بتغيير الخِلقة الطبيعية، كنفخ الشفاه لتبدو بشكل آخر، وتغيير الجنس، فهذا يتنزل عليها حكم تغيير خلق الله تعالى وهو حرام؟، وعليه تتضح آلية تنزيل الحكم الشرعي على عمليات التجميل، وهو ليس اجتهادا في الحكم بل في تنزيله على الواقع.

11.هل تعتبر مرحلة التدريس الجامعي كماليات وتحسينيات، أم حاجيات معتبرة، فإن كانت كماليات الحياة فلا تدخل في النفقة الواجبة على الأب بعد بلوغ الولد، وإن كانت حاجيات وجرى العرف بها، فإن الشريعة تعد المرحلة الجامعية الأولى داخلة في النفقة الواجبة على الأب، وهذا ما جرى به العمل في المحاكم الشرعية بشرط أن يدرس الطالب وينجح.

رابعا: تنيبه لا بد منه:

يتضح لدى العامي تنزيل الحكم الشرعي بشكل صحيح إذا كان محل الحكم واضحا لديه مثل بعض الأمثلة السابقة، ولكن في حال احتياج محل الحكم للشرح من أهل الخبرة، مثل المسائل التي تحتاج خبرة فنية اقتصادية أو طبية أو فلكية، فلا بد عندئذ من التوقف وإحالة الأمر إلى جهة الاختصاص الشرعية، التي تقوم بواجب البحث والتقصي لمحل الحكم الشرعي، مثل حكم ما تجريه البنوك التجارية التي تقرض بفائدة، فنجد أن الخبرة القانونية والممارسة الاقتصادية، تكيف العلاقة على أنها قرض، وبناء على ذلك ما تقوم به البنوك التي تقرض بزيادة مقابل الأجل هو الربا المحرم بعينه، ويتضح من ذلك أهمية متابعة العلماء في تحقيق المناط في الأمور التي تحتاج إلى تصور محل الحكم في الوقاع بدقة تليق بحكم الشريعة.

 خامسا: قال الإمام الشاطبي في الموافقات:

(الاجتهاد على ضَربين: أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة. والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا. الموافقات  فأما الأول؛ فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق  المناط، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين  محله).

قطعة فيديو من مشاركتي في مؤتمر  الاجتهاد بتحقيق المناط فقه الواقع والتوقع.

 

الطريق إلى السنة إجباري

في عمان المحروسة

صبيحة الجمعة المباركة

11-3-2016

1 thought on “نحو ضبط المعرفة الشرعية: اجتهاد العامي بتنزيل الحكم الشرعي على محله أمثلة وشرح

  1. مارس 11, 2016 - احمد موسى صيصل

    جزاك الله خير يا دكتور
    ربنا يكثر من امثالك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top