العقد شريعة المتعاقدَين أم الأصل في الأموال التحريم  (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)

تمهيد: في بيان المشكلة:

تطغى العديد من مفاهيم العولمة الثقافية التي ترتكز على الأفراد، ومنها العقد شريعة المتعاقدين، على الحقيقة الشرعية مثل الأصل في الأموال التحريم، وأصبحت مقولة العقد شريعة المتعاقدين تقصي أصول النهي العامة في العقود كتحريم الجهالة والغرر والربا، ونفي قياس العقود المستجدة على عقود الأصول لاشتقاق أحكامها بناء على قياس المسائل على المسائل، وأصبحت المقولة  حصانة فكرية للعقود الدخيلة على الشريعة، وإن كانت مشروعة في أصلها لا في تفصيلها.

أولا: أصول النهي ثبتت بكثرة الأدلة:

تمثل أصول النهي العامة عن الربا والغرر والجهالة في العقود باعتبار المعقود عليه كليات حاكمة على كل عقد، وأن هذه الكليات قطعية في نفسها لكثرة أدلة الكتاب والسنة على معانيها، كالأصل في مال الغير الحرمة حتى يثبت الحق للغير فيه بوجه شرعي، وهذه الأصول ثبتت بكثرة الأدلة عليها، وتواترها على معانيها، فصارت في حكم الكليات القطعية في نفسها، واجتهادية في تطبيقها على الفروع.

ثانيا: العقد شريعة المتعاقدين ليس على إطلاقه:

إن الشريعة أمرت بالوفاء بالعقود الصحيحة باعتبار الشريعة لها، بأن توافق أصول الشريعة في العقود، والأمور الثابتة بأدلة تفصيلية كالنهي عن بيع الكلب مثلا وإن لم يكن فيه تلك الأصول العامة، لتعلق النص به خصوصا مع إجازة الشريعة الانتفاع به، أما في مقولة العقد شريعة المتعاقدين فإن القانون يقر عقود الغرر والجهالة والربا ما لم تُخِل بالنظام العام،وتحت هذا الانحلال أزاحت مقولة العقد شريعة المتعاقدين الأصول الشرعية في النهي، فأجيز بقوله تعالى: (أوفوا بالعقود)العقد الذي ليس عليه نص في التحريم بعينه، والقول الأصل في الأشياء الإباحة بالرغم من أنه مخالف لأصول النهي الشرعية.

ثالثا: العقود المعاصرة لها تسميات خاصة:

وبما أن العقود المعاصرة اتخذت أسماء جديدة، صارت مقولة العقد شريعة المتعاقدين عصا سحرية لإلغاء الأصول الشرعية في التعاقد، لأن الشرع -بزعمهم-لم يَنهَ عن هذه العقود بعينها بنص من الكتاب والسنة، وفرَّخَت المقولة عقودا داخل الشريعة ليست منها، وغبَّرت بمتشابهات  الكتاب والسنة العامة(أوفوا بالعقود)  الأصولَ الشرعية المحكمة بالكتاب والسنة كالأصل في الأموال التحريم، وهذه سمة زماننا إلغاء الشريعة بالشريعة، ورفع المحكمات بالمتشابهات من الكتاب والسنة، والانتهاء إلى حالة التهادم العام، وتسكين الحداثة داخل الأسلام.

رابعا: أهمية الأصل في الأموال التحريم في مكافحة الفساد المالي والإداري:

العقد شريعة المتعاقدين عام موغل في التعميم، ويندرج تحته ما هو ممنوع ومشروع، ولا يمنع الإنسان أن يدعيَ لنفسه حقوقا ويستبدَّ بها، أما الأصل في الأموال التحريم فهو على إطلاقه من غير قيد ولا تخصيص، فهذا يعني أنه لا تستباح أموال الغير إلا بيقين،  لأنها حرام حتى يثبت العكس، وهذا يترتب عليه تحريم ما يأتي أن الأصل في الأموال التحريم:

1-عندما يظن سائق الأجرة أن العداد غير عادل فإنه يبغي على الراكب ليأخذ أكثر ولا يرجع له باقي الأجرة.

2-عندما يظن المعلم أن أجرته دون استحقاقه فإنه يقصر في التدريس ونتقص حق الطالب ولا يؤدي العمل على النحو الواجب فينقص المنفعة ويبغي على صاحب العمل.

3-عندما يظن الطبيب أن أجرته وامتيازاته دون الحق في ظنه فينتقص الخدمة للمريض وهي لها قيمة مالية، ونقص المنفعة على مستحقها وهذا  أكل لأموال الناس بالباطل.

4-عندما يشعر العامل بالظلم ويتوهم أن له أن يأخذ مال الشركة، أو ينتقص من العمل لعدم عدالة الأجرة في ظنه،  نقول له الأصل في الأموال التحريم وأنت أخذت مالا حراما.

5-عندما يظن صاحب العمل أن العامل مقصر وأنه لا  يستحق أجرته فيذهب إلى معاقبة العامل ماليا من أجرته المستحقة

6-عندما يظن البائع أن الأسعار الظالمة فإنه يلجأ إلى الغش وانتقاص السلعة التي هي حق المشتري.

7-عندما يظن المشتري أن الأسعار الظالمة فيبغي على البائع في الثمن لأن المشتري يعتقد أن المشتري مظلوم.

 وعلى هذا المنوال يتضح القياس في بيان تأثير قوة الأصل في الأموال التحريم في إصلاح المجتمع وحمايته من الفساد المالي والإداري، أما العقد شريعة المتعاقدين فهي عامة قابل للتأويل بعدم عدالة العقد نفسه ومن ثم للباغي في الأموال الحق في شرعنة حقوق له من تلقاء نفسه

خامسا: هل يصح اللفظ (العقد شريعة المتعاقدين):

ما بينته سابقا هو خطأ المقولة من حيث إطلاق معناها، ومن حيث استعمالها من قبل الباحثين في العقود المستجدة، دون تطبيق أصول النهي العامة، ولكن يبقى السؤال هل هذه المقولة صحيحة من حيث لفظها، فقد يعترض معترض بأن الله هو المشرع، ولا يصح عندئذ منازعة الله في التشريع بهذه المقولة.

والجواب: إن الشارع قد ألزم بالعقود التي يبرمها الناس بشروطهم الجعلية التي يجعلونها في صلب العقد، وإن الشارع اعتبرها من حيث الجملة ما دامت لم تخالف الأصول الشرعية، والاجتهاد نوع تشريع أيضا، فهو استدلال المجتهدين في أدلة الشريعة وهو تشريع أوجب الله على العامة أن يسألوا عنه وأن يعملوا به مع أنه عمل المجتهدين، فالاعتراض على الصيغة والتعبير ضعيف، إنما الإشكال في إطلاقها واستعمالها  بما يخالف قيود الشريعة.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

6-شوال -1444

26-4-2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top