أصل تحريم الربا في المعاملات في  ضوء مقاصد المكلفين ونوع العقد

تمهيد: في مذهب إمامنا مالك:

إن العبرة في العقود بمقاصدها ومعانيها، ولا يعني اتحاد صورة الفعل مع اختلاف الحكم بالتحليل والتحريم تناقضا، مع أن صورة الفعل واحدة، ذلك أن القاعدة الشرعية الأمور بمقاصدها، لا تنحل عن الألفاظ ولا الألفاظ تنحَلُّ عن المقاصد، بل إن الوجود الخارجي فيه اللفظ وفيه القصد، والعبرة بالترجيح بينهما على وفق الأصول وقواعد الترجيح، ولا يجوز الشطط في المقاصد ولا في الألفاظ، بل هناك ميزان ضابط ومعيار ثابت فيها، وإن ما يفسد الشريعة هو الشطط في ظاهرية النص وتضييع المقاصد، أو الشطط في المقاصد والعلل وهدم ظواهر الشرع، والجمع بين الظاهر والعلة هو مذهب الراسخين في العلم.

أولا: القاعدة العامة:

إنْ دار النفع من الجانبين أي المقرِض والمقترض، أو من جانب المقترض فقط فهو ربا، وإن دار النفع من جهة المقرض فقط فهو إرفاق وإحسان جائز وقرض حسن.

ثانيا: التطبيقات:

1-بيع مائة بمثلها لا يجوز ويجوز قرض مائة بمثلها:

 فإن باع مائة دينار بأخرى إلى أجل، فهو ربا لأن البائع داخل على المماكسة والمغالبة فدار النفع من الجانبين، وإن أقرضه مائة بمائة مثلها لأجل فهو إرفاق وإحسان، مع أن صورة الفعل واحدة إنما اختلف الحكم باعتبار قصد البائع والمقرض.

2-اشتراط رد الطعام بصفة أجود يجوز في المجاعة ولا يجوز في السعة:

 وكذلك يُعد إحسانا إذا أقرض رجلا طعاما واشترط على الرجل أن يرُدَّ القرض أجودَ صفةً، فهو إحسان في المجاعة لشدة احتياج الناس للطعام، وهوربا في السعة لأنه مماكس.

3-قسمة الحيوان بين الشركاء وبيع اللبن:

ولو تقاسم الشركاء شاتين إحداهما تحلب خمسة ألْتار (جمع لتر) ، والأخرى عشرين  لترا،  فهذا إحسان لوضوح جانب المعروف ممن رضي بمعاوضة خمسة ألْتار ورضي أن يأخذ شريكُه عشرين  لترا ، فإذا تقاربت كمية اللبن كأن تحلِب إحداهما خمسة ألْتار والأخرى ستة ألْتار حَرُمت تلك المعاوضة لغلبة جريان المماكسة في  هذا لتقارب الكميتين، لأن مسائل القسمة مخرجة على البيع أو الإجارة أو القرعة، وهذا التفصيل صحيح في باب القسمة بين الشريكين، لكنه لا يصح بحال في ابتداء بيع اللبن باللبن بين غير الشريكين لعدم تصور المعروف عندئذ .

4-رد الباقي في الدنانير بين المماكسة والرفق:

ومثله لو اشتريت من  البائع سلعة بدينار ودفعت له خمسين دينارا، ولم يكن لديه الباقي، فأملهتَه فجانِبُ المعروف منك واضح، ولا يكون ربا، لأن المماكسة ليست داخلة هنا،  وهو جار على القاعدة أعلاه وهي دوران الفضل من جانب واحد، فإن تداخل البائع والمشتري على المماكسة في الجميع بين القرض والبيع فهو حرام، مع أن صورة الفعل واحدة، وإنما حصل الفرق في في الحكم، لحصول الفرق في القصد.

5-جواز العرايا في مبادلة الرطب على أُمِّه بالتمر:

يمنع شرعا بيع الرطب بالتمر لما فيه من جهل التماثل، فإذا جف الرطب تُجهَل مساواته للتمر، ولكن جاز الرطب على أمه بالتمر على سبيل المعروف والإحسان لا البيع، حيث  تُحزَر كمية التمر أنها تساوي تلك الكمية من الرطب على الشجر، والسقي والحراسة على صاحب الشجر، ويكثر دخول الـمُعرَى له على صاحب الشجر، وهي كلفة زائدة على صاحب الشجر، دون أن يحقق ربحا، فجازت العرايا بشروطه التي تجعل من صاحب الشجر صاحب معروف ولم يَدُر المعروف من الجانبين أو من جانب المعرَى له، بل الفضل دار من جانب الـمُعري فقط وهو صاحب النخل، فهذا واضح أن دوران المعروف من جانب المعري كوضوحه في جانب المقرض، وهو مطلوب شرعا ويعدُّ معروفا

ثالثا: أصحاب الحيل لا شفاء لهم من مرضهم:

كل أمر يبيحه الشارع ويوسع على العباد فيه، ستجد من أصحاب الحيل من يركبون مشتبهات الشريعة للوصول إلى الربا، فهم يجيدون الألفاظ ويفسدون المقاصد، والأمور بمقاصدها كما ترى، والله من ورائهم مُحيط، وإن الذي تراه في الأمثلة التطبيقية أعلاه تعرف يُسر الشريعة حيث يسَّر الله على عباده، أما أصحاب الحيل الربوية، فهم يهتكون أستار الشريعة، ويطعمون الناس الحرام، كما أغرى الشيطان آدم وزوجه في الجنة بالأكل من الشجرة ثم هتك سترهما. 

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

18-شوال -1444

9-5-2023

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top