توحيد الله تعالى وفصْل السُّلُطات … الشرع المنزّل والمُأوّل والمُبدّل

كيف نفهم قصة فصل السلطات في الفكر اللاديني إذا كان الحاكم والمرجع النهائي هو الإنسان؛ فهو المشرع، وهو المنفذ، وهو الخصم، وهو القاضي وهو الشاهد في الوقت نفسه، أم أن الفصل بين التشريع (الشرع المنزل)، والتنفيذ (الشرع المؤول) هو صلب عقيدة الإسلام؟ فالمشرع هو الله والمنفذ والقاضي  هو الإنسان، ولا يصح الإسلام إلا بالفصل بين مصدر التشريع وهو الله تعالى بمقتضى ألوهيته وبين البشر، وذلك بمقتضى عجزهم وحاجتهم إلى العلم والحكمة الإلهية.

أولا: المرجعية المطلقة في التشريع هي لله تعالى بمقتضى عِلمه وحكمته:

إن الإسلام يقوم على أساس تجريم الشرك وتحريمه، لأنه منازعة الله في حقه وملكه، والله خالق الإنسان وأرحم بالإنسان من نفسه، وإن الفصل الإعلامي في الفكر اللاديني بين السلطات: التشريعيه والتنفيذية والقضائية مع بقائها بيد متسلط واحد هو الإنسان، هو دعاية إعلامية فقط، وستار لِلاّهوت الإنساني، فبعد أنْ كان اللاهوت الإنساني متسترا بالرهبان الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، أصبح الآن علانية باسم الشعب والحرية وحقوق الإنسان، بعد إزاحة الآلهة المصنّعة إنسانيا، وأقول هنا: أليس من الضروري الفصل الحقيقي بين الرباني والإنساني بتوحيد الله تعالى ونبذ الشرك، من أجل القضاء على اللاهوت الإنساني، وخرافة الفصل الوهمي بين السلطات مع بقاء الإنسان هو  المرجعية النهائية والمطلقة.

أيهما أعظم فصلا للسلطات،التشريع الإسلامي ومصدرية الشريعة الإلهية الحكيمة واعتبار ذلك هو التوحيد وجوهر الإسلام والقضاء والتنفيذ بيد الإنسان؟ أم دعوى الفكر اللاديني بأن الإنسان هو المصدر والحاكم والمحكوم والشاهد والخصم؟ … ثم يقال لك فصل السلطات !!! أهذا هو الإبداع الأوروبي الكَوني؟ أم أن الفكر اللاديني الأوروبي ما زال يتعاطى منشطات القوة والهيمنة الاقتصادية والسياسية الأوروبية لِيقف على قدميه في مواجهة الإسلام؟

ثانيا: دور مجالس التمثيل (مجلس الشعب، البرلمان) في الإسلام:

لا بد أن يتساءل المسلم ما دور مجالس التمثيل التي يختارها المسلمون بناء على مبدأ الشورى الإسلامي، تجاه الشرع المنزَّل المتمثل في الكتاب والسنة، يمكن أن يتلخّص الجواب على ذلك فيما يأتي:

1-فيما فيه نص شرعي:

وهنا يكون دور أعضاء مجلس النواب بوصفهم ممثلين عن الأمة، هو في فهم النص الشرعي، وتنزيله على محلّه في الواقع، وهذا لا يتقصر على المجتهدين في نصوص الشريعة، بل يتطلب خبرات ولجان استشارية بحسب الموضوع: اقتصادية، طبية، استراتيجية …، وكل ما هو ضروري من الخبرات لتنزيل الحكم الشرعي بكفاءة على محلِّه في الواقع، وهو ما يعرف في علم أصول الفقه بتحقيق المناط، ويكون هذا التنزيل للحكم الشرعي هو الشرع المُأَوّل، ومثاله تحديد معيار اقتصادي للفقير الذي يعطَى من الزكاة، وفق مستجدات العصر، بناء على ما يقرره علماء الاقتصاد من الحاجات الأساسية الفعلية التي يُعتبر الإنسان فقيرا بنقصها: كالماء، والكهرباء، والدراسة، والعلاج، والنقل. وكتنزيل حكم الـمُسْكِر على الحبوب المخدِّرة، والمواد التي تخامر العقل، فهذه وإن كانت كثيرة التجدد والحدوث إلا أن حكمها كحكم الخمر، بناء على أن كل ما خامر العقل فهو خمر، وكاعتبار الدراسة الجامعية الأولى (البكالوريوس) من النفقة الواجبة للولد على أبيه، باعتبار هذه الدراسة حاجة عامة عرفا، وهناك الكثير من الأمثلة ليس هذا محل بسطها، ويلاحظ هنا أن هناك دورا تشريعيا لجلس النواب، في إصدار قوانين تضبط تنزيل الحكم الشرعي على محله في واقع التطبيق.

2-إصدار القوانين الناظمة للشأن العام فيما لا نص فيه:

يمكن أن نضرب لذلك مثلا بقانون السير والمرور، فهذا لا نص فيه وهو مبني على أصل عقلي من أصول التشريع الإسلامي، وهو المصلحة المرسلة، التي يطلق عليها الإمام مالك “الاستصلاح”، وهو نظر عقلي من حيث النظر في تفاصيله وجزئياته، مثل الوقوف الممنوع، المرور الممنوع، والإشارات الضوئية، وشروط سير المركبة على الطريق، فهذه لا نجد دليلا عليها بخصوصها من الكتاب أو السنة، ولكن الشرع شهد لها في الجملة، وشهد لجنسها بالاعتبار، كوله تعالى في سورة سبأ: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18)، فأمن الطريق وتقدير السير فيها، معتبر شرعا، وجعله الله تعالى نعمة على عباده كما نصت الآية الكريمة، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: أعطوا الطريق حقَّه، وعليه فإن قانون السير على سبيل المثال شهد له الشرع، بالاعتبار بجنسه لا بتفاصيله وجزئياته. ويمكن أن يقال في كل قانون تنظيمي إداري يحقق المصلحة كتنظيم الوزارات والدوائر والمصالح والواجبات على الموظفين، بما يحقق مقاصد الشرع العامة، من هذا القبيل بشرط أن لا يتعارض مع نص شرعي بلا معارض راجح. ويمكن أن يضاف لأصل المصلحة المرسلة الأصول الآتية: العرف، وسد الذرائع، وارتكاب أهون الضررين، إلخ من الأصول التي يمكن أن يستند إليها مجلس النواب، في تحقيق المصلحة العامة، واكتفيت بمثال المصلحة المرسلة خشية الإطالة.

3- مراقبة صانع القرار في السياسة الشرعية:

تحدثت في مقالة سابقة عن أسس صناعة القرار في السياسة الشرعية، والـمُدخَلات الفنية والشرعية في صناعة القرار، فكما أن الوزارات في السلطة التنفيذية تتخذ قرارات ضمن أصل السياسة الشرعية، فإن مجلس النواب بوصفه ممثلا عن الأمة هو أعظم قدرا في مجال التقييم لتلك القرارات لما فيه من الخبرات الشرعية والفنية وكفاءة التمثيل للأمة، والتأكد من أمرين، هما: أ- سلامة القرارات التي يمارسها الموظفون وأنها لا تخالف القوانين الـمَرْعية التي صِيغت على وَفق الشريعة، وضوابط العمل بالأصول الشرعية العقلية، ب-أن قرارات السياسة الشرعية في المصالح التي ليس فيها نص تفصيلي، قد تمت ممارسته فعلا وفق المصلحة العامة، ولم ينزلق الوزراء والموظفون، في محرقة الاستفادة من المنصب، بل سياستهم هي وفق الصالح العام فِعْلا.

4-تحذير الأمة من الغلاة والجُفاة:

وفي هذا الموضع لا بد من التنبيه على خطورة الغلاة الذين يذهبون مذهب التكفير لكل من يدخل مجلس الشعب دون تمييز بين التفاصيل السابقة في أصول النظر، ويلزم الغلاة أعضاء مجالس التمثيل بما يسمونها إلزامات وهي لست بلازمة أصلا، وتجاوزوا الشروط والموانع الشرعية في تكفير المعين، ويحكمون على كل من يدخل مجلس التشريع بالكفر بمجرد المشاركة والدخول، وهذا غلو منهم في دين الله تعالى ولا يجوز شرعا، والتنبيه كذلك على خطورة الجفاة من اللادينيين الذين يعتبرون مجالس التمثيل هذه هي من الحداثة، وليس للإسلام فيها نصيب، متناسين الدور البشري المهم في فهم الشريعة  وتنزيلها على الواقع، ويصبح الغلاة والجفاء بأفكارهم الـهَدْمية والعدَمية سببا للصدام في الأمة، وعدم الاستقرار وشيوع الفوضى، ويتضح من سلوك الغلاة المسلمين والجفاة اللادينيين تَغوُّل ما هو بشري وإنساني على النص الشرعي، فكلاهما يعطِّل النص: الغلاة بالزيادة عليه، والجفاة بالتحلل منه.

ثالثا: السلطة القضائية:

إن دور السلطة القضائية هو حراسة القوانين المستمدة من الشريعة، فالقضاء هو الحارس الأمين على المجتمع، ودوره هو تنزيل الحكم الشرعي وفق القوانين الشرعية في القضايا بين الخصوم بالعدل، وله وللأمة حق الإنكار بعدم شرعية القرار أو القانون على مجلس النواب إذا وقع في مخالفة بيِّنة للأصول الشرعية في التأويل وتنزيل الأحكام على محالها، ويكون ذلك بالبيان، والتدليل، والتأصيل والتعليل، والتمثيل، وبعد ذلك يصبح الأمر في عُهدة الأمة ومؤسساتها التنفيذية والتشريعية، ومجالسها العلمية والبحثية في تداول الأمر بين جميع المؤسسات المعنية، للوصول للصواب شرعا وما فيه الصالح العام للأمة، التي هي بمجموعها معصومة وهي صاحبة القرار والحق في في المحاسبة والمراجعة.

رابعا: دور الأمة:

دور الأمة التي دانت لله بالوحدانية والعلم والحكمة، أنها مؤمنه بهديه وسنة نبيه، هو الإشراف على حماية الشرع المنزَّل، والتأكد من أن الشرع المؤوّل موافق للشرع المنزل فعلا، فالأمة هي مصدر السلطة، وهي صاحبة الحق في المحاسبة والإشراف على السلطات بأنواعها، وسلطة الأمة في المراقبة واجبة لها بالشرع، ولا يحق لها أن تستقيل منها، بناء على واجب الاستخلاف الإلهي، والخيرية التي اختصها الله تعالى بها، والسنة النبوية التي شرفها الله تعالى بها، فهي قائمة بالهدي النبوي لا تتخلى عنه، لأن فيه رحمة للعالمين.

والأمة تعتقد أن ما حرمه الله تعالى هو حَجْر على الإنسان من أن يظلم بالوقوع  في الشرع المبدّل كإباحة الربا، ومثال حجْر الله تعالى على البشر تحريم الربا، فقد عده الله تعالى من أشنع الجرائم، ولكن -مع الأسف- استحسنه خلق كثيرون، وقد تبين أن الربا سبب نوبات الصرع في الاقتصاد الرأسمالي، والتضخم والغلاء، والظلم، أما الاشتراكية فقد أقامت الحروب التي أهلكت عشرات الملايين حربا على الرأسمالية، ثم رجعت بعد أقل من قرن إلى اقتصاد السوق، وأما الرأسمالية الشرسة فقد امتصت من دماء الشعوب وأموالها ما سَرَت بخبره الرُّكبان، وحتى لا تقع البشرية في هذا التخبط بـَـيـَّن الله تعالى الحق وفصَّله أيـَّما تفصيل، وهذا كله حماية للإنسان من الهلاك بسبب المرجعية المطلقة للإنسان في الفكر اللاديني.

خامسا: لماذا الشرك بالله تعالى هو أعظم الجرائم:

إن المشركين نازعوا الله تعالى في صفاته فاخترعوا آلهة باطلة من عندهم، ثم شرعوا على ألسنة تلك الآلهة ما لم يأذن به الله، فاستحلوا الدماء والأموال باسم تلك الآلهة، فكان المشركون في الحقيقة هم المرجع المطلق والنهائي باسم تلك الآلهة، كما فعل رجال الكهنوت في الأديان المحرفة الذين ادعوا العصمة لأنفسهم، وكذبوا على الله تعالى، أما رجال الفكر اللاديني فقد كانوا أكثر صراحة من الأحبار والرهبان الذين كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، فقال اللادينيون: ما لنا وللإله وللقيصر الذي يحكم باسم الإله، سنحكم باسم الشعب، فلم يختلف الأمر كثيرا في وضع الشعب في رؤية الفكر اللاديني محل القيصر والآلهة الباطلة.

ولكن الشعب في  الواقع ذهب للموت باسم رأس المال لمن يحكمون باسم الشعب، حيث قامت أبشع الحروب في تاريخ الإنسانية، الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث اخترعت أقسى آلات الحرب التي عرفتها الإنسانية، وما نراه اليوم من دماء بريئة نازفة هو نفس المشهد للحروب الدينية التي كان يحرَّض عليها الرهبان والأحبار، ولكن المرة رهبان النفط وأحْبار الذهب والدولار، وهي نتاج المرجعية المطلقة للإنسان، ذلك اللاهوت الإنساني الذي أهلك الحرث والنسل، الذي وصفة  الله تعالى بالشكر وأنه ظلم عظيم.

سادسا: لماذا الحرب على الإسلام فقط:

يرى الفكر اللاديني أنه هو الحل المناسب لاجتماع الأديان في كنفه ورعايته، ولا عداء بينه وبين الأديان الوضعية البشرية، مع أنه يزعم أنه حربٌ على خرافة الدين، وسلطة رجال الدين، ولكننا لا نرى في واقع الحال صراعا بين الفكر اللاديني ورجال الكهنوت الذين لهم سلطة مقدسة عند أتباعهم، بل نرى أن القصف العشوائي للفكر اللاديني يكاد يقتصر على الإسلام الذي ليس فيه رجال دين، ولا سلطة دينية، ولا يوجد فيه من يحتكر تفسير الكتاب والسنة، بل هناك شروط موضوعية لكل من تأهّل للنظر في القرآن، وأنه لا يوجد في الإسلام السر المقدس الذي لا يعرفه إلا رجل الدين، فما هو التفسير الممكن للصراع  بين الإسلام العلمي والفكر اللاديني الذي يزعم أنه يحارب الخرافة؟ وما تفسير المهادنة بين الفكر اللاديني والأديان القائمة على الخرافة؟ وما التفسير لاجتماع الطوائف الباطنية المنتسبة للإسلام القائمة اللاهوت الإنساني وعصمة رجال الدين مع الفكر اللاديني؟

سابعا: تفسير حرب الطائفيات على الإسلام:

أرى أن الأمر يسير على التفسير،  فالجامع بينهم جميعا هو المرجعية المطلقة للإنسان مع اختلاف الشكل فقط، سواء عن طريق الشرك في الأديان الوضعية أصلا أو المحرفة، أو مرجعية الإنسان المطلقة في الفكر اللاديني، فجميعهم متفقون على اللاهوت الإنساني الذي ينازع الله تعالى أمره وحكمته الواسعة، ووجدوا أنفسهم جميعا في صراع مع الإسلام لأنه ينزع عنهم جِلد الحمَل الوديع، ويظهر الوحش المتخفي تحت ذلك الِجلْد، ومع الإسلام تظهر صفة الرحمة الإلهية بالخلق، سواء كان الخلق كفارا أم مسلمين، فهم جميعا خلقُه، ومن رحمته بالبشرية جمعاء أنه ختم الرسالات بخير الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وخير الأمم أمة محمد وآتها القرآن الكريم مهيمنا على الكتب السماوية السابقة، فمَن تمرَّد على رسالة الله تعالى فهو متمرِّد على الرحمة، داعٍ إلى النِّقمة، ومنازعٍ لله تعالى في صفاته، وهذا هو باب الشر العظيم، فبعد أن تخلَّصت البشرية من لاهوت الأحبار والرهبان الذين يحكمون باسم الله كذبا، وقعت في لاهوت رجال الأعمال الذين يحكمون باسم الشعب زورا، ويقدِّمون الشعوب قرابين لمشاريعهم الدنيوية الزائلة، والإسلام يحارب السلطة المطلقة للإنسان، لأن السلطة المطلقة للإنسان هي شر مطلق يستفيد منه الأقوياء ويخسر فيه الضعفاء، واقتضت رحمة الله تعالى أنه لا بد من عقيدة التوحيد وأن الله تعالى هو المشرِّع بمقتضى ألوهيته، وأن المؤمنين هم الذين استجابوا لربهم، والذين كفروا فَعَلى نفسها تجني براقِش.

انقر هنا لمعرفة معنى  تحقيق المناط شرعا.

مقالة ذات  علاقة: أسباب اضطراب الفتوى في مسائل الدولة والسياسة (نَظرة فقهية أصولية)

د. وليد مصطفى شاويش

مساء الجمعة المباركة

عمان المحروسة

 29-1-2016

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top