ليس الخلل في الكلي كالخلل في الجزئي تمييز العادة والعبادة

تمهيد:

لا بد من وضوح كليات الفقه، ليعلم الباحث الخط العريض الناظم للفقه كلِّه، ومن أبرز  تلك الخطوط الفاصلة، ذلك الخط الذي يميز بين العبادات والعادات الشرعية، وبيان  ذلك على النحو الآتي:

أولا: مراجعة مختصرة لنظرية المعرفة:

تنقسم الأحكام إلى ثلاثة أقسام رئيسة، هي:

1-العقلي: ما استقل العقل بإدراكه دون حاجة لتجربة أو دليل شرعي مثل: مسائل الرياضيات، عدم اجتماع الضدين، الكل أكبر من الجزء وهكذا.

2-العادي: وهذا العادي يمكن معرفتة بالعادة والتجريب مثل العلوم الطبيعية: الطب، الفلك، الهندسة، اللغة، الإدارة، التاريخ، العادات الاجتماعية والأعراف العشائرية، والنظم الإدارية، وهذه إن وافقت الشريعة بالدليل الجزئي كآية أو حديث أو بالجنس الكلي كالمصالح فهي مشروعة، وإن خالفت فهي مردودة، وأقترح تسميتها العادة المطلقة احترازا من العادي الشرعي الثابت بدليل جزئي تفصيلي، أو بدليل شرعي جملي كالمصالح، والاستصحاب، ودرء المفاسد.

3-الشرعي:  وهو ما ثبت بدليل شرعي جزئي أو  إجمالي كالمصالح، ودرء المفاسد، وهذا هو مقصدي في هذه المقالة، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: العقيدة، والفقه، والإحسان (الأخلاق)، وفيما يأتي توضيح ذلك.

ثانيا: أقسام الحكم الشرعي:

1-العقيدة: وتبحث في صحة الأحكام المتعلقة بالألوهية والنبوة، والسمعيات مثل اليوم الآخر، والصراط والميزان والحشر والحساب.

2-الفقه:  وهو الأحكام الشرعية التفصيلية لأفعال العباد كالوجوب والتحريم والإباحة وغيرها، ويقسم إلى قسمين رئيسين، هما:

أ-العبادات: وهي ما توقفت صحته على نية التقرب لله تعالى، مع اعتقاد ألوهية المعبود، وشرْط صحتها: موافقة الشرع، والإيمان بالله، ومقصد الشارع فيها حصول التعبد،  ولا يكون التعبد  إلا بنية، والعبادة بلا نية تصبح لعِبا، فالصلاة بلا نية تمارين رياضية، والصوم تخفيف وزن، والحج سياحة، فلا يحصل مقصود الشارع إلا بالنية، لذلك نرى أن الفقه أربعة أرباع: ربع العبادات يبدأ دائما بركن النية، خلافا للثلاثة أرباع بعده فلا تتوقف على نية التعبد وهي: المعاملات، الجنايات، القضاء.

ب-العادات: وهي ما صح من غير نية التقرب، وقصد الشارع فيها أولا حصول الفعل ولو دون نية التقرب والتعبد لله تعالى، فثمرة العادات الشرعية تحصل بفعلها، وقصد الشارع حصل ولو دون نية، كالنفقة على الزوجات والأولاد تتم بالفعل ولو دون نية قصد التقرب لله، وكذلك العقود فركنها الإيجاب والقبول، ولا  تتوقف على النية: التي هي قصد التقرب إلى الله تعالى، لذلك ينتهي كتاب العبادات إلى كتاب النكاح، أو البيوع ، ثم لا تجد ركن النية، وتبدأ بركن الإيجاب والقبول.

ثالثا أنواع العادات:

1-المعاملات: وهي علاقة العبد مع الغير، كالزواج والبيوع والأوقاف والهبة والوصية.

2-الجنايات: جرائم واقعة على الضرورات الشرعية، شرع الشارع لها عقوبات مقدرة أو تعزيرية، للحفاظ على الضروريات: الدين، النفس، المال، العرض، العقل.

3-القضاء:فصل الخصومات بين المتنازعين، وردهم إلى قواعد الشرع على وجه الإلزام.

4-التروك: قد يترك الرجل الخمر خوفا على صحته، أو السرقة خشية الناس، فالترك صحيح ولو كان خوفا من الناس، ولكن لا أجر له، لأن الشارع في المنهيات قاصد إلى حصول المنهي عنه ابتداء لما يترتب على فعله من المفسدة، وترك المحرمات كالزنا، والخمر، والربا، تحصل ثمرته بالترك، ولو لم ينو التارك الثواب من الله تعالى، ولكن لا يحصل له ثواب على تركه إلا إذا كان تركه امتثالا للنواهي الشرعية.

رابعا: علاقة الأجر بالعبادة والعادة:

1-قد تقع العبادة بلا أجر:

إن العبادة قد تقع لله تعالى تعبدا كالحج والصلاة الزكاة، ولكن العبد قد يرائي الناس بها، ولا يعبدهم، ويريد السمعة، ويمُنُّ بالصدقة، فيصِحُّ حَج المرائي وطالب السمعة، ولا يجب عليه الإعادة، ولكن لا أجر للحاج المرائي، والْـمَانِّ بالصدقة، لأنهم غَبَّروا وجه العبادة بالرياء والسمعة، ومع ذلك صحت العبادة، يعني لا يلزم من كَون الفعل عبادة، أن فيه أجرا، فالأجر ليس من لوازم العبادة، فقد تقع مأجورة وقد تُرَدُّ على صاحبها ولا أجر له، والأجر أمر خَفِي يعلمه الله تعالى، ولا يطلَّع عليه العبد، والصحة تمام العبادة في أركانها وشروطها، وهذا يطلع عليه العبد، فالعبد يحكم بالصحة ولا يحكم بالأجر.

2-العادات مع النية تصبح قربة لا عبادة:

إن أنفق الرجل على أهله دون قصد التقرب لله تعالى، فلا أجر له، وإنفاقه صحيح، ولكنه لو احتسب ذلك عند الله تعالى، فله ما نوى، مع صحة الفعل دون نية، وهكذ كل العادات الشرعية تصح من غير نية ولا أجر إلا بنية، وعليه العادة مع النية تصبح قربة، والأفضل في الدرس الفقهي تسميتها بالقربة وإن كانت تسمى في الوعظ عبادة، وهذا مفيد في ترتيب ذهن الطالب في التمييز بين العادة والعبادة والقربة في فهم الأحكام الشرعية، وليس التفريق مهما في الدرس الوعظي.

خامسا:أمثلة تطبيقية:

1-الدعاء عبادة:

يكون الدعاء عباة مع النية واعتقاد ألوهية المعبود، كما فعل العرب في جاهليتهم فقد سموا معبوداتهم  بالآلهة، لذلك دعاء الجاهلية عبادة للأصنام لاعتقادهم بألوهية أصنامهم، أما الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم  مثلا يا رسول الله اشفع لي مع اعتقاد أنه لا يملك ضرار ولا نفعا بذاته، بل نفْعُه في الشفاعة بمحض فضل الله تعالى عليه، فهذا دعاء صحيح شرعا وهو عبادة لله تعالى، في أمر ثابت شرعا وهو شفاعته، وأن الداعي يعتقد أن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم  بمحض فضل الله تعالى عليه، وليس كدعاء الكفار أصنامهم معتقدين أن لها شركا مع الله في الملك والقدرة والتدبير فشتان بين اعتقاد المؤمنين في شفاعة الأنبياء والصالحين وبين اعتقاد المشركين، ومن جعلهما سواء فقد جعل المسلمين كالمجرمين وبئس ما فعل .

2-النفقة على الأهل من العادات:

إذا أنفق الرجل على أهله ولو دون نية التقرب لله تعالى، فقد صحت النفقة وسقطت المطالبة بها، لأن الشرع ملتفت فيها أولا إلى حصول الفعل وثمرته الحاصلة بالفعل، ومصالح الإنفاق  حاصلة ولو دون نية التقرب، أما لو نوى الزوج بذلك الامتثال لأمر الله تعالى رغبة في ثواب الله تعالى، فيصبح فعله قربة يؤجر عليها بفضل الله تعالى.

3-الحجاب عبادة أم عادة:

عندما تَسأل: هل الحجاب عادة أم عبادة، لا تتعجب أن يقال لك إنه عبادة، لأن المجيب يخشى أن يقول إنه عادة،فيظن  جواز تبديل حكم فرضية الحجاب كما تتبدل العادات المطلقة، ولكن بعد السؤال هل يصح الحجاب بلا نية، كأن تلبسه المرأة حياء من الناس، أو رغبة في المحافظة على العادات، فإن الصواب أنها قامت بالواجب، وصح حجابها، ولا يعتبر باطلا شرعا لانعدام نية التعبد،ولا تعاقب على عدم الحجاب يوم القيامة بسبب ترك نية الامتثال لله تعالى، وذلك لصحة اللبس للحجاب دون نية التعبد، ولكن لا أجر لها لأن الأجر  يكون مع نية الامتثال للأمر، وهي لم تنو الامتثال، فإن نوت الامتثال للشرع كانت مأجورة وهذه تسمى قربة لا عبادة بالمعنى الدقيق حرصا على التمييز بين العادات والعبادات.

4- البدعة لا تدخل في العادة:

لا تقع البدعة في العادات لأن الصحة لا تتوقف على نية، ويحصل مقصود الشارع بالفعل ولو دون نية التعبد، ولكن لا أجل إلا بقصد الامتثال للشارع، مثل بيوت العزاء، والمولد النبوي، والمحاريب والمآذن في المساجد، فهذه وإن كانت محدَثة إلا أنها داخلة في العاديات، وصحتها لا تتوقف على نية التعبد، ومنع الإحداث في العاديات يعني هدم الشريعة ودفنها في التاريخ، وتحويلها إلى مذهب تاريخي،  وتعطيل  نصوصها ومقاصدها  العامة، ثم ما يلبث هذا الغلو أن يصبح سببا في هجرها واستبدالها.

سادسا: خلاصة التمييز الفقهي بين القربة والعبادة:

إن  النية ركن في العبادات، لأن الشارع ناظر إلى مصلحة التعبد أولا، ولا يكون إلا بنية، وفوات النية يعني عدم الفعل بالكلية، فلا صلاة ولا زكاة ولا حج من غير نية، أما العادات كالمعاملات، والقضاء والجنايات، فإن الشارع نظر إلى ثمرة الفعل ومصلحته، فيحصل قصد الشارع والمصلحة بمجرد الفعل ولو دون نية الثواب والامتثال من العبد، فقضاء الدَّين والإنفاق على الأهل، والقصاص والحدود وترك المحرمات،  يحصل قصد الشارع أصالة بطاعة العبد ولو من غير نية الثواب والامتثال، وإذا حصل قصد امتثال الأمر صار مأجورا ويسمى قربة بالمعنى الدقيق لا عبادة، حتى لا يلتبس مع العبادة التي تتوقف صحتها على نية فمثلا الوقف قُرْبة وليس عبادة.

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

12  -جمادى الأولى-1443

17-12-2021

Read

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top