آثار جائحة كورونا في عقود الإيجار بسبب الإغلاق بأمر الحاكم (مسألة للمناقشة)

تمهيد:

سألني بعض طلاب الدبلوم العالي في الكلية أن أكتب لهم شيئا يأنسون به في أثر الجائحة على عقود الإجارة في غير المساكن، فكتبت هذه الورقة للمناقشة، فقد تعددت نصوص المالكية بحسب الحالات التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة من المأجور، فجاءت النصوص الفقهية  بين فسخ الأجارة في العين المؤجرة مثل المحلات لعدم قدرة المستأجر على الانتفاع بسبب الإغلاق الجبري من الحاكم، وذلك إذا تعذر تنفيذ العقد مطلقا، وفي حال إمكان استمرار العقد ألزمت بالعقد وحطت من الأجرة ما يقابل الفوات، مع تمييز حالة السفر، وفيما يأتي توضيح ذلك.

أولا: نصوص المذهب المالكي ذات العلاقة:

اقتصرت على الخرشي على خليل، مع توافق المعنى لمجموعة من الشروح، وهذه النصوص على النحو الآتي:

1-(ص) وأمر السلطان بإغلاق الحوانيت (ش) أي: وكذلك تنفسخ إجارة الحوانيت إذا أمر السلطان بإغلاق الحوانيت ولم يتمكن المكتري من المنفعة وهو المشهور والمراد بالسلطان هنا ذو القهر وعلى السلطان الأجرة حيث قصد غصب المنفعة لا الذات وانظر عند جهل الحال)

ومنطوق النص فسخ الإجارة إن لم يتمكن المكتري (المستأجر) من الانتفاع، بسبب أمر الإغلاق.

2-(ص) ومرض عبد وهربه لكالعدو إلا أن يرجع في بقيته (ش) أي: وكذلك تنفسخ الإجارة في هذه الأماكن؛ لأن المستأجر لا يمكنه الانتفاع مع شيء من ذلك ولو رجع العبد من الإباق أو أفاق من مرضه في بقية المدة لزمه تمامها إلا أن يتفاسخا قبل ذلك وكان الأحسن أن يزيد بعد قوله أن يرجع لفظة أو يصح ويكون قوله في بقيته راجعا لهما وقد يقال: اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر وبعبارة إلا أن يرجع إلخ راجع لجميع المسائل أي: إلا أن يرجع الشيء المستأجر على حالته التي كان عليها قبل المانع فيلزم كلا منهما تمام المدة ويسقط عن المستأجر ما يقابل أيام الهروب فلا يجوز أن يتفقا على قضاء مدة الهروب؛ لأنه فسخ ما في الذمة في مؤخر؛ إذ قد وجب للمستأجر ما يقابل مدة الهروب من الأجرة فيفسخا في شيء لا يتعجله اللهم إلا أن يكون قبض الأجرة.

منطوق النص: أنه في حالة الأجير الذي هرب ثم عاد فإن العقد ملزم لكلا المتعاقدين، ويحط من القيمة بقدر النقص حسب المدة، نظرا لإمكان استيفاء المنفعة فيما بقي من العقد، ولا يتفاسخان إلى بالتراضي.

3-(ص) بخلاف مرض دابة بسفر ثم تصح (ش) أي: فإن الكراء ينفسخ ولا يعود إن صحت لما يلحقه من الضرر بالصبر وإنما فرق بين العبد والدابة لاختلاف السؤال؛ لأن العبد في الحضر والدابة في السفر ولو كان العبد في السفر والدابة في الحضر لكان الحكم فيهما سواء ونحوه في النكت ثم ينبغي أن يقرأ قوله ثم تصح بالنصب عطفا على مرض إذ هو مصدر وتقديره بخلاف أن تمرض دابة بسفر ثم تصح فهو مصدر مؤول عطف على مصدر صريح.

ومنطوق النص تمييز حالة العين المؤجرة في السفر، وعدم القدرة على الاستيفاء، لأن الانتظار يشق على المسافر.

ثانيا:  أمر لا بد منه في تخريج المسائل على المذهب:

تعتبر المسألة من المذهب إذا كانت منصوصة، أو كانت نازلة  تلحق بالمسألة المنصوصة من حيث لازم القول يعد قولا، ونفي الفارق بين المسألة المنصوصة والنازلة الحادثة، فهل نازلة كورونا منصوصة في المذهب، أم غير منصوصة، أم هي من قبيل اللازم أو القياس الجلي.

ثالثا: عرض صفات محلِّ الحكم في هذه النازلة:

وفيما يأتي بعض  الاعتبارات المهمة في تشخيص محل الحكم في النازلة:

1-إن حظر التجوال المرافِق للإغلاق يعني أنه لو بقيت المنفعة متاحة فإن ممارسة النشاط غير ممكنة، وهذا لا علاقة له بالعين المؤجرة ولا بالمؤجر والمستأجر.

2-على فرض حق الفسخ فإن المستأجر غير قادر على التنفيذ لعدم القدرة على الإخلاء، وعليه فالتنفيذ غير ممكن، ويبقى المأجور مشغولا بأشياء المستأجر، ومن حق المؤجر المطالبة بالإجارة لذلك.

3-إن المنع يجري مؤقتا ويتجدد شيئا فشيئا، إلى حين رفع الحظر وليس منعا نهائيا كما هو النص في المصادر الفقهية حيث نصت على تعذر المنفعة من العين بسبب المنع الدائم من قبل الحاكم في النصوص الفقهية، ويلاحظ لذلك النص 2.

4-إن الوباء العام يقتضي من المستأجر البقاء في منزله حسب الحظر المفروض، ولا يختص ذلك بالعين المؤجرة ولا مالكها فقط، بل لسبب راجع إلى المستأجر.

5-إن الموضوع عام وهو يؤثر على استقرار التعاملات على نطاق واسع جدا، والقضاء غير قادر على تحمل هذا الحجم من الخصومات بين المالكين والمستأجرين، مما يعني أن الولاية العامة يجب أن يكون لها حضور في فض النزاع.

6-إن المذهب نص على العين المؤجرة التي لا يمكن الإتيان لها بالبديل، أما حيث كان هناك بديل كالإجارة في الذمة فيجب الإتيان به، ومعلوم أن الحظر كان عاما على الشركات التي تؤجر في الذمة مثل شركات الطيران والنقل البري والفنادق التي تؤجر في الذمة، وعندئذ تعذر البديل، مما يعني هنا في خدمات السفر من فنادق وتذاكر طيران، تعذر تنفيذ العقد وفسخ، لعدم القدرة على الانتظار (انظر النص 3).

7-إن العديد من المحلات أصبح لها قيمتها في مواقعها كما أنها قامت بعمل ديكورات مكلفة تجعل من الفسخ خسارة كبرى، ممكن أن تؤدي إلى خسران تلك التكاليف التي قد يثري منها المؤجر بسبب الفسخ، فتكون نتيجة الفسخ عكسية على المستأجر، وفي صالح المؤجر.

8-تقوم العديد من المؤسسات بإبرام عقود إجارة طويلة الأمد نسبيا كعشر سنين أو عشرين رغبة منها في الاستفادة من شهرة المكان، وحق الفسخ يتناقض مع مقصودهم، وإمكانية استمرار العقد، وزوال الجائحة.

9-عقد الإجارة عقد مُـمْتد تستوفى منه المنافع شيئا فشيئا وبالرغم من حيلولة الحجر دون الفتح للممارسة النشاط، إلا أنه لا يمنع من دخول المكان لحاجة شخصية له ثم يغلق بابه عليه دون ممارسة النشاط التجاري.

10-إن إجارة المحل التجاري، وممارسة النشاط التجاري تؤثر بالضرورة في عمل العاملين وأجورهم لدى صاحب المحال التجاري الذي هو مستأجر للمحل وفي الوقت نفسه ملتزم عمل مع العمل في شركته، وهذا سيؤثر أيضا في انتقاص منفعته من منافع العمال عنده، وعندئذ يجب أخذ ذلك بعين الاعتبار عند الانتقاص من عقد الإجارة للمحلات، وعقود العاملين فيها.

الخلاصة:

1-إن  الإغلاق من الحاكم  بصفة دائمة يتناوله النص 1، وفوات كامل المنفعة في المعين بشكل جزئي يتناوله النص 2، وأما النص3 فهو في عقود ذات علاقة بالسفر كحجوزات الطائرات والفنادق، وهذه حُسم أمرها وتعذر الوفاء مثل النص 1، وفسخها لا بد منه،

-وأقرب المسائل في المعنى لواقع المحلات الآن هو النص 2، الذي اعتبر فوات كامل المنفعة مؤقتا سببا لحط الأجرة بما يناسب الفوات والاستمرار في العقد، ومن قياس الأولى لو فاتت بعض المنفعة مؤقتا كما هو الحال في الحظر القائم الآن، وعليه يُقدَّر مقدار فوات المنفعة وينتقص بقدره من عقد الإجارة، وعلى الولاية العامة رفع النزاع، أو يلجأ المؤجر والمستأجر للتحكيم، أو الفتوى بالتراضي.

2-بناء على ما جاء في ثانيا: فإن المسألة من القياس الجلي، وهو نفي الفارق بين النازلة مع منطوق النص 2، والنازلة في رتبة المنطوق، وقد يرى بعضهم أنه قياس شبه، أو لزوم عقلي، وفي كل هذه الأحوال تصح نسبة القول بحطِّ الأجرة في المحلات بقدر الفوات الذي يقدره الخبير إلى مذهب مالك -رضي الله عنه.

3-توصية جهات الولايات العامة، بعمل دراسات تقديرية ومؤشرات يسترشد بها القاضي والمحكم والمفتي في تقييم الفوات، لقطع دابر النزاع بين المتخاصمين، وحكم الحاكم يرفع الخلاف.

4-المزيد من الاهتمام بالقراءة النصية في العبارة العالية للفقهاء، وفهم العلل ومدركات الأحكام، وتدريب الطلاب على طرق الفقهاء في الأقيسة.

الطريق إلى السنة إجباي

الكسر في الأصول لا ينجبر

أ.د وليد مصطفى شاويش

عميد كلية الفقه المالكي

2-رمضان-1441

24-4-2020

1 thought on “آثار جائحة كورونا في عقود الإيجار بسبب الإغلاق بأمر الحاكم (مسألة للمناقشة)

  1. أبريل 25, 2020 - عبدالله عطية

    جزاك الله خيرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top