شهداء غزة ومعايير اقتصاد السوق

أولا: العدو جاءنا من وراء البحار:

منذ قرن وهذه الأمة تتعرض للعدوان، وحروب قد فُرضَت عليها من عدوها، قَدَرا من رب العالمين، وقد رأيت اليوم مَن يتبرم من قدر  الله علينا، مع أن الحرب لم تكن لنا اختيارا، بل إن العدو هو الذي جاء  من وراء البحار  ليقف على تخوم أرضنا، ويدنس  مقدساتنا في حرب إبادة مستمرة، وإن الالتفات إلى حدث جزئي  هنا أو هناك لإلقاء اللوم على الضحايا، لا يجوز لأنه يشتت النظر عن المعتدي الغاشم، ويبرئ الجلاد ويتهم الضحية، وبناء على هذه المقدمة، رأيت أن أجري مقارنة بين معايير الشريعة المهجورة، وبين معايير الحداثة التي تهيمن على العالم في هذا الزمن، ولا يبعد تأثير الحداثة في الفكر الديني المعاصر.

ثانيا: هيمنة معايير الحداثة في تقييم الشهادة في سبيل الله:

 ونظرا لهيمنة الحداثة في تفسير الدين والواقع، رأيت كالمعتاد من ينحُو  باللوم على الضحايا، مستغلا آثار  الدمار  وكثرة الشهداء في غزة على أنها خسائر، وأن النصر بعيد، كما يفسر المحللون الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وكل ذلك  حسب معايير اقتصاد السوق في الربح والخسارة، فأخرجت رأسي من بحر الظلمات، وأطلَلْت بوجهي على صفحة الماء لأرى شمس  الفضاء، منكسرا بين يدي مدبر الأرض والسماء، القاضي بالحق ولا يقضى عليه ، لأُبدي تحليلا آخر  خارج ظُلامات الحداثة وظَلامها، ولكنه نظر تحت شمس كليات الرسالة المحمدية الخاتمة، في المقاصد الشرعية التي تعُم الدنيا وتمتد إلى الآخرة، فقلتُ مستلهما الهداية والرشاد من رب العباد:

ثالثا: معايير الحداثة أم مقاصد الشريعة:

قال تعالى(حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسْتَيْـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ)، النصر يأتي حيث لا يكون متوقعا، لأسباب:

 1-لأن الناس يحللون الظاهر، وحكمة الله باطنة لا يعلمها كثير من الناس، وهي أبعد من تفكير  الخبير العسكري والسياسي المتقصر على تفسير الظاهرة بحسب الطاقة البشرية من الفهم (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).

2-لأن المحلل يرى أحزان الأرض على أجساد الشهداء، ولكنه لا يرى أفراح السماء بأرواح الشهداء، الذين منهم من قضى نحبة ومنهم من ينتظر، وأن هناك انتصارات أخرى لا ترصدهاعدسات الكاميرا ولا تنقلها الفضائيات وهي رضا الله سبحانه (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170).

 3-لأن الأسباب الدنيوية الظاهرة، لا تحكم على القدرة الإلهية القاهرة، والله قاهر فوق عباده، يقهر المتجبرين في أوج قوتهم، فلا بد أن يملي لهم ويعطيهم الأمن في باطنه العذاب، والنصر الظاهر في باطنه الخذلان، ثم ينزل الله نصره على المؤمنين بعد أن بلغَت القلوب الحناجر، وظنوا بالله الظنونا (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)).

4-لأن أغراض الناس في الحروب هي حظوط النفس على الأرض و فرحة النصر  والمجد، أما حكمة الله تعالى فهي الابتلاء الإلهي للكافرين بالمؤمنين والمؤمنين بالكافرين(ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ)، (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)، فحكمة الله باتخاذ الشهداء، لا تعرفها معايير السوق السائدة في الفكر البشري المعاصر.

5-لأن المحلل السياسي يحلل على حب العاجلة، والمكاسب المؤقتة في الدنيا، والمصالح والمفاسد العادية التي تنتهي في الدنيا، وليس المصالح الشرعية الممتدة للآخرة في فضائل الشهداء، أما الحكمة الإلهية فهي الإملاء للظالم وإمداده بأموال وبنين، لأن الله لا ينفعه نصر، ولا تضره هزيمة، فعال لما يريد (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ).

6-لأن المحلل يضع الشهداء في قائمة خسائر الحرب، وهم عند الله أحياء يرزقون، أبدلهم الله جنة خيرا من الدنيا، وعدلا إلهيا خيرا من محكمة العدل الدولية المستعارة كالشعر المزور على رؤوس قضاتها، وينظر  المحلل إلى العدو الغاصب أنه انتصر، مع أن جنوده هم حصب جهنم هم فيها خالدون، أما المؤمنون فهم(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ))، لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار.

7-لأن المحلل يضع تلف الأموال في قائمة الخسائر وهي عند الله في قائمة الأجر  خير من بقائها في الدنيا (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ).

8-المحلل السياسي والعسكري تابع للتحليل وفق الصالح والمفاسد العادية، أما رب العالمين فهو الذي يخلق المفاسد والمصالح العادية، وليس تابعا لها، وهو سبحانه يعيِّن ما هو مصلحة شرعية ولو كان مفسدة عادية، فدماء الشهداء وتلف الأموال مصلحة شرعية وإن كانت مفاسد عادية ((وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)).

وخلاصة الأمر  هو  بطلان معايير السوق الدهرية (العلمانية) في تفسير شهداء خير البرية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام لغزة من أصحاب اليمين.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا يَنْجبِر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

25-رمضان-1445

5-4-2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top