الإمام العز بن عبد السلام فقيهًا مجتهدا لا مفكِّرا إسلاميا

الإمام العز بن عبد السلام فقيهًا  مجتهدا لا مفكِّرا إسلاميا

تمهيد:

تسعى هذه المقالة إلى بيان الفرق الجوهري والمؤثر بين الفقيه والمفكر  الإسلامي، والتمييز بين العلمي الأصولي والرؤى الفكرية، من خلال نموذج الإمام العز بن عبد السلام في صناعة عين جالوت، ورد العدوان، وهذا هو ما نحتاجه الآن وغزة الصامدة تواجه غزوا مغوليا جديدا، وكأن غزة تدعونا وتقول: جددوا فينا العز بن عبد السلام، وأعيدوا عين جالوت من جديد، وذكِّرونا بحطين وصلاح الدين، وأعيدوا هذه الأمة إلى سيرتها الأولى، وخلصوها من شوائب الفكر الحداثي المغولي.

أولا: العز  بن عبد السلام بين الثقافة والفقه:

لم يكن اجتهاد العز  بن عبد السلام رأيا له وحده بل هذا ما تقتضيه فروع الفقه وأصوله في المذاهب المتبوعة ومراعاة أصول الترجيح بما لا يقبل الخلاف بين الضروري والتكميلي في الشريعة، ويفهم فقهه من خلال مذهبه الفقهي الشافعي والأصل المتفق عليه بين المذاهب المتبوعة، ونحن نعيش أزمات معرفية طاحنة أنتجها الفكر الديني المعاصر الذي نكص عن المذاهب المتبوعة واتهمها بالجمود ومخالفة الدليل، وقام على إعادة النظر في النص وتجاوز المذاهب المتبوعة، وقلب الشريعة من العلوم الفقهية إلى الرأي العام وخطاب السعادة الروحية، وتسبب في كوراث اجتماعية وسياسية، بسبب آثار الغلو والانحلال، تعاني منها الأمة اليوم، مما يستدعي منا إيقاف طالب الحق على الفرق بين الفقيه والمفكر، في نموذج تطبيقي هو الإمام العز بن عبد السلام.

ثانيا: بين مركزية الشريعة وطرفية الصراع على السلطة:

يُعد الإمام العز بين عبد السلام من الأئمة العابرين للمذاهب، وتأثيره لا يتقصر على مذهبه الشافعي فقط، فتجد المالكية  يعبرون عنه بشيخ الإسلام، وأهل السنة والجماعة يسمونه سلطان العلماء، فهو فقيه أصولي نحرير، عول عليه الإمام الشاطبي في الموافقات وبيان مقاصد الشريعة، ولكن تأثيرات الحداثة في الفكر الديني المعاصر، تريد اختطاف العز بن عبد السلام، من مركزيةالشريعة في الإصلاح وتغيير المنكر إلى إعادة توظيفه بطلا من أبطال المعارضة حسب تناقضات الفكر الحداثي بين الموالاة والمعارضة والصراع على السلطة، بينما كان الإمام العز  بن عبد السلام في بيئته الفقهية ناصحا لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهو عصي على التوظيف في تناقضات الفكر الديني المعاصر الساقط تحت هيمنة الصراع على السلطة، بدلا من الإصلاح وتغيير المنكر على مستوى الأمة.

ثالثا: كيف يسلك المجتهد إذا تعارضت الأصول في الواقع:

1-عندما تتعارض الأصول في محل الحكم:

وقف العز بن عبد السلام أمام أزمة العدو الخارج ي والفرقة الداخلية في مصالح يعارض بعضها بعضا في حكم المماليك ورد العدو الظالم من المغول المتربص بمصر، ولزوم الجماعة السياسية والعلمية من أجل إعداد القوة الضاربة لرد العدوان، كما أنه أمام أصول شرعية في الحكم ودولة المماليك، حيث لا تجوز للماليك الولاية العامة، وليسوا قرشيين على فرض أن لهم الإمامة العظمى، فاختلَّت لديهم شروط عديدة في الإمامة، فكيف سلك شيخ الإسلام في ترتيب هذه الكليات والمحافظة عليها، ورعاية الجزئيات ما أمكن، فهذا كله ليس من الاقتضاء الأصلي البدهي، بل من الاقتضاء التبعي في تعيين مناط الحكم، ثم تنزيل الحكم على محله المشخص في المماليك في معركة عين جالوت خاصة، وهو ما تخلو منه فتاوى ديون الحماسة.

2-شرط الحرية في الإمام:

أ-حديث إمامة الرقيق تكميلي لا ضروري:

جاء في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة»، فكيف يكون من شروط الإمام الحرية والنبي صلى الله عليه وسلم يبين في النص بوجوب الطاعة ولو كان الإمام عبدا، فهل ترك العز  العمل بالسنة باشتراطه حرية المماليك؟

ب-ترجيح الضروري حفظ الأمة على التكميلي في شرط الحرية والقرشية:

إن الإمام العز  وهو إمام في الفروع والأصول، يعلم بأن الحديث يبين جواز سقوط الشرط التكميلي في حرية الإمام وقرشيته، ووجوب رعاية الأصلي الضروري في لزوم الجماعة ووحدة صف الأمة في تصحيح إمامة العبد في مواجهة العدو المغولي، وفي هذه الحالة لا يجوز  خرق الجماعة ووحدة الصف وجعْل الضروري مرجوحا، من أجل الوفاء بشرط تكميلي وهو حرية الإمام وقرشيته، فالحديث الشريف يعلمنا ترجيح الضروري في لزوم الجماعة ووحدة الصف أمام العدو ، لأن زوال الضروري وهو الأمة على يد المغول يعني سقوط التكميلي وهو  شرط الإمامة والقرشية تبعا، لأن زوال الضروري يلزم منه زوال التكميلي، فالتكميلي مع الضروري كالصفة مع الموصوف، فلا يبقى خليفة ولا إمام ولا شعب ولا دولة، ولا قرشية ولا حرية ولا رقيق.

ج-شرط القرشية تكميلي مرجوح مع ضروري حفظ الدماء:

 وأخرج مسلم «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيشٍ في الْخَيرِ والشَّرِّ» وتُرجم له باب الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش،  وانعقد الإجماع وعمل الصحابة على شرط القرشية وخالف في ذلك الخوارج وبعض المعتزلة، واعتبر العز بن عبد السلام هذا الشرط الثابت بالنص مانعا مغمورا، وملاقاة العدو معارضا راجحا على شرط القرشية، لأن شرط القرشية يعني تحويل النصيحة للإمام إلى حرب أهلية وإزالة حكم المماليك بالكلية، فهم ليسوا قرشيين، وعندئذ تكون هذه الحرب خدمة مجانية للمغول شأنها شأن فتاوى ديوان الحماسة على الفضائيات أثناء الحرب على غزة التي ليس فيها حقيقة شرعية أصلا، بل هي توسُّل مبتذَل  للرأي العام، بعد انتكاس المفتي من الفقه والأصول إلى الفكر  الإسلامي المزيف، الذي لا يفقه العز  بن عبد السلام.

رابعا: وجوب لزوم الجماعة لملاقاة العدو المغولي ولو فات التكميلي:

أ-ترجيح الضروري إذا تعذر الجمع مع التكميلي:

مع العلم بأن أصول الشريعة الكلية يقينية ولا تتعارض في نفسها، بل تكون متعارضة في محل الحكم، فيجب الترجيح بين الأمر والنهي بحسب رتب الضروري والتكميلي، وحفظ الدماء وتسكين الدهماء ورد الأعداء هو الضروري في الإمام(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ)، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، لذلك كان أصل لزوم الجماعة ودفع العدو ضروريا راجحا على التكميلي في شرط القرشية والحرية.

ب-فتاوى خطاب السعادة تخلو من المحتوى العلمي:

وهذا يرشدنا إلى وجوب ترجيح الضروريات في الحرب مع العدو  على التكميليات ولو  كثرت، لأن الترجيح باعتبار الرتبة لا باعتبار الكثرة، وهو  أمر تخلو منه خطابات الفتوى في ديوان الحماسة، وصبح الأعشى في صناعة الإنشا، لأن هذه الفتاوى خالية من أي مضمون علمي، بل قد تحمل في ثناياها إشارة مبطنة للحرب الأهلية، وإذا سالت الدماء، تبرأ المفتي ومن مقلديه واتهمهم بأنهم خوارج ولم يفهموا قوله على حقيقته، وإن كان لهم نصر  احتفل الجميع ودعوا بالطعام والشراب والنشيد الإسلامي حتى الصباح.

خامسا: مقارنة فتاوى ديوان الحماسة مع فتاوى الفقهاء:

مر معك أن الفقهاء معنيون ببيان الشريعة العلمي خارج ضغوط الشارع، وإكراهات السلطة، لأنهم مستقلون ينصحون لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وهو اجتهاد علمي بنائي، أما بعد هيمنة الحداثة على الفكر الديني في إعادة النظر في النص وتجاوز المذاهب المتبوعة، فقد بين الجمهور  ما يجب على العلماء، وخرج المفكر الإسلامي المجدد والداعية المرعِد المزْبِد بما يطلبه الجمهور، وصارت  الفتوى في الشريعة رأيا عاما،  غير قابل للتطبيق، فهذه الفتاوى خالية من العمل، وهي اقتضاءات أصلية وعلل عامة، جديرة بأن تكون في ديوان الحماسة، أو صبح الأعشى في كتابة الإنشا، فهي خطاب مُجمَل إنشائي لا يهْدِي إلى أي عمل إجرائي.

سادسا: مقولة لا يفتي قاعد لمجاهد:

لو فتشتَ على أصل هذه المقولة فلن تجدها في الشريعة، إنما هي حالة خطابية تريد أن تتحلل من حاكمية الشريعة في الجهاد ومرجعية الفقه في علله الجزئية والكلية، وليصبح الجهاد رؤية فكرية تُشرع الحرب بين الإخوة الأعداء، والحرب الأهلية بين أهل السنة والجماعة، وبسبب هذا إحداث هذه المقولة في الدّين والخَرْق الأخرق للشريعة، تقاتَل أصحاب هذه المقولة بين أنفسهم، وقاتلت الفرقة الناجية الطائفة المنصورة قتالَ ردة، بسبب حيل لفظية اخترعوها أدت إلى الانسلاخ من الشريعة، وتحويل الجهاد من اجتهاد فقهي إلى رؤية فكرية على مستوى الفرقة والجماعة، وقد كتبتُ في بطلان هذه المقولة وزيفها المقدس وانحلالها من الشريعة، ولكن ذكرتها هنا ليقارن كل ذي عين وبصيرة بين الاجتهاد الفقهي لشيخ الإسلام، وبين الرأي العام في الخطاب المضلِّل، ويلجأ على سجع الكهان في تضليل العوام، والتمويه على الجمهور.

سابعا: اختطاف العز بن عبد السلام:

اختطف الفكر الديني المعاصر الإمام العز  من عرينه الفقهي وترجيحاته الأصولية على ما بينته سابقا، إلى ساحة الحداثة في تناقضات الولاء والمعارضة، ليبحث هذا المفكر  عن مشروعية له،مع أن المفكر الإسلامي هو الذي هدم الاجتهاد الفقهي في المذاهب المتبوعة على أصول الشريعة، وحولها إلى رأي عام، وحارب فقه العز  ومذهبه وأصوله، إلا أن المفكر  يريد توظيف شخصية العز  داخل البنية الثقافية للحداثة، وتحويل الشريعة إلى ثقافة عامة يُعيِّن فيها الجمهور  للعالم ما يجب أن يقول، فهل يستطيع الجمهور و وجهاء الفيسبوك أن يعينوا لابن عبد السلام تلك الترجيحات الدقيقة في خوضه معركة عين جالوت، نعم يستطيع الجمهور  أن يعين للمفكر الإسلامي ما يقول لقرب المستوى الثقافي والفكري بينهما، لكنه لا يستطيع أن يعين ذلك للفقيه.

*** الخلاصة:

قد آن للخطاب الفقهي الأصولي أن يعود لقيادة المعرفة الدينية، بدلا من الرؤى الفكرية التي هي انطباع نفسي ورأي شخصي، يعيد النظر في النص، ويتجاوز المذاهب المتبوعة، ويفارق المحجة البيضاء في عمل الأمة، خصوصا وأننا نواجه غزوا مغوليا جديدا قديما على أرض فلسطن، وحربا باطنية تملك الإعلام والقوة والبشرية المنظمة سياسيا وعسكريا، في واقع أن الخطاب الديني السني يعيش حالة من التدابر والتنافر، بسبب الجماعات والأحزاب الدينية التي انشقت عن المعرفة الدينية الأصيلة وفارقت عمل الأمة الجامع الذي مثَّلتُ له بالجماعة في الإمام العز بن عبد السلام.

مقالة ذات العلاقة:

قاعدة الفرق بين المفكر والفقيه (غزة نموذجا)  المفكر إنشائي أما الفقيه فهو إجرائي

 

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا يَنْجبِر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

27-رمضان-1445

7-4-2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top