أصول حَــــلِّ  المنازعات المالية بين الزوجين

تمهيد:

ينبغي أن تقوم العلاقة بين الزوجين على أساس المودة، والتشاور بينهما بالمعروف، وهذا يكون واضحا إذا اتضحت الحقوق، ولا يظهر الإحسان إلا بعد وضوح الحقوق، وهذه المقالة هي للتعريف بالحقوق، وليس للتشاح فيها والاستبداد بها، ولكن للإحسان وزيادة المودة بين الزوجين، فإن شحَّ أحد الزوجين بحق قرره الشارع له، فهذا حقه، ولا يُلام في أخذه، لأنه مقرر في الشريعة.

أولا : عرض مسألة تطبيقية:

طلب أخ من   أخته المتزوجة أن تكفله على راتبها، فقبلت لأن لها الحق في التصرف المالي، ولكن رفض زوجها لأن له عليها حق الطاعة، وطلب والد الزوج من الزوج أن يبقى على ولده وهو الزوج رأيه، وطلب والد الزوجة من ابنته وهي الزوجة صلة رحم أخيها بأن تكفله، لأن لها الحق في التصرف المالي لكونها رشيدة ماليا، ولأن  صلة الرحم واجبة شرعا.

ثانيا: الأصول التي تتنازع المسألة:

1-بر الوالدين: وهنا تعارض بين بر والد الزوج وبر والد الزوجة، قال تعالى: (وبالوالدين إحسانا).

2-طاعة الزوج: لقوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) ونصوص أخرى في وجوب الطاعة.

3-استقلال الذمة المالية للزوجة: حيث لها الحق أن تتصرف في مالها بالمعاوضات والمشاركات برضاها لقوله تعالى ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا).

4-حق الزوج بالانتفاع في مال الزوجة: وهو حق الزوج في بقاء المال مملوكا للزوجة، ليحق له الانتفاع والتَّجَمُّل به، جاء في الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك).

     فدل على أن هذه الأربع ومنها المال، هي متَعلَّقات رغبة الرجل في الزوجة، لذلك ذهب إمامنا مالك إلى أن هذه الأربع هي معيار مهر المثل، وليس للزوجة أن تتبرع فيما زاد على الثلث إلا بموافقة الزوج، وللزوج الانتفاع بمال الزوجة دون التصرف فيه بتصرفات الملكية، فليس له التصرف: بالبيع والهبة والصدقة، وهذا أيضا محافظة  على مالها في إبقائه.

5-صلة الرحم من الزوجة لأخيها: حيث  كفالتها لأخيها يمثل له مصلحة وصِلة رحم، قال تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم).

6- للأب حق في مال ولده: وهو حقه على ولده بالطاعة والبر، للحديث «أنت ومالك لأبيك»، وهذا في غير وجه القضاء فلو رفع الأب قضية على ولده ليحوز مال الولد إلى ملك الأب،بذريعة ظاهر الحديث، فسيظهر عندئذ دليل شرعي آخر وهو: ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)، ولن يُقضَى للأب بشيء من مال الولد، ومهمة القاضي والمفتي تعيين محل حديث «أنت ومالك لأبيك»، ومحل قوله تعالى( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)، وإلا ضُرِب الكتاب بالسنة، وهذا إبطال لهما، وتعطيل للشريعة العادلة.

س: لماذا لا نكتفي بالقول: تجب طاعة الزوج في غير معصية الله:

 لأن هذه عامة وتقال في الوالدين وفي الأم وفي المدير والحاكم وغيرهم فعمومها يجعلها مبدأ عاما لا يرفع الإشكال القائم في المسألة التفصيلية في محل البحث، لوجود أصول شرعية أخرى مقدمة على طاعة الزوج في بعض المسائل.

ثالثا: عمل المجتهد هو تعيين الدليل من الأصول السابقة:

ما مِن مسالة إلى وتتنازعها أصول عدة، وإنَّ عمل المجتهد هو تعيين الدليل الذي يتعلق بالمسألة التي هي محل البحث، وليس السرد القصصي للأدلة والأصول من الاجتهاد في شيء، لأن هذا السرد يؤدي إلى تهادُم الأدلة وتناقُضها، ويؤدي إلى صناعة الصدام بين الأدلة الشرعية، ويجادل الذين أوتوا نصيبا من الكتاب به النصيب الآخر من الكتاب، وندخل في حلقة مفرغة من الجدل.

 لذلك لا بد من تعيين الدليل الصالح حسب المسألة، قطعا لدابِر الجدل العَدَمي في الكتاب والسنة، والرد إلى الله ورسوله يكون برد المتشابه في محل إلى المحكم في ذلك المحل، وهذا هو الاستحسان الذي يسميه الإمام مالك: تسعة أعشار العلم، يعني هو الترجيح بين الدليلين باعتبار محل الحكم، أي بحسب كل مسألة بعينها، وهذه المقالة نموذج على ذلك.

رابعا: مصطلحات مهمة:

عندما ننظر في الأصول السابقة وأنها تتنازع المسائل الكثيرة محل الدراسة والبحث، فإننا نعبر  بالمعارض الراجح عن الأصل المتَعيِّن في المسألة والمتعلِّق بها، ومقابل المعارض الراجح المانع المغمور، لأنه ليس الأصل المتعلق بالمسألة، لأن الأصول الستة السابقة تنازعت في المسائل المعروضة، وواجب المجتهد تعيين المعارض الراجح، لأنه هو الأصل المتعيِّن المسألة، بينما يكون الأصل الثاني يكون مانعا مغمورا أي مرجوحا، والمعارض الراجح هو الذي يفتى به، ولا يفتى بالمانع المغمور، والعمل بالجميع عنذئذ يبين أن جمع أدلة الشريعة بمجموعها وبصحة نزولها على محالها أصبحت محكمة، وهذا حاصل بمجموع الأدلة.

خامسا: تطبيقات تعيين الأدلة في النزاع المالي بين الزوجين:

1-كفالة الزوجة لأخيها وبِرُّها بأبيها:

أ-حالة حق الزوجة في التصرف من المعارض راجح:

إن كان للزوجة مال، وكانت قيمة الكفالة لأخيها لا تتجاوز ثلث مالها، فهذا يعني أن المرأة تصرفت في مالها بما لا يضر الزوج، ويعتبر  تصرفها معارِضا راجحا في كفالتها لأخيها في مالها بما لا يزيد على الثلث، ولها صلة رحمها بكفالة أخيها، وطاعتها لأبيها لأنها متصرفة في حق كفِله الشارع لها، وعندئذ يكون أصل طاعة الزوج وأبيه مانعا مغمورا لا يُفتى به.

وكذلك لها حق النفقة الواجبة عليها لأبيها ولو زاد على ثلث ولا يتوقف ذلك على موافقة الزوج، ويلاحظ في ذلك الأصل(أنت ومالك لأبيك)  وأنه معارض راجح، وأن الأصل (تنكح المرأة لأربع … لمالها) صار مانعا مغمورا في حق النفقة الواجبة عليها.

ب-حالة حق الزوجة في التصرف من  المانع مغمور:

إن لم يكن للزوجة مال أو كانت قيمة الكفالة أكثر من ثلث مالها، فإن طاعة الزوج معارِض راجح، لأن من حق  الزوج الانتفاع بمال الزوجة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم  تنكح المرأة لأربع: (لمالها)، فله حق الانتفاع بمالها، وليس لها أن تستنفِدَه بالتبرعات،  وعندئذ يعتبر  تصرفها في مالها بالتبرع فوق الثلث مانعا مغمورا، وطاعتها لأبيها في كفالة أخيها مانع مغمور لا يفتى به،لأنه معارَض بالمعارِض الراجح وهو طاعة الزوج، وتقدَّم طاعة الزوج على المانع المغمور ، وهو  تصرف الزوجة المالي بالتبرعات بما زاد على ثلث مالها.

2-حق تصرف الزوجة بالمعاوضات من المعارض راجح:

أ-طاعة الزوج مانع مغمور في البيوع والمشاركات من الزوجة:

للزوجة التصرف في مالها بالمعاوضات كالبيع والشراء وتثمير مالها بالإجارة والشركات، فيعتبر أصل تصرفها المالي معارِضا راجحا هو المفتى به، وطاعة زوجها مانعا مغمورا، فليس له أن يحجر عليها في تصرفاتها بالمعاوضات، وإن فَعَل فيكون معتديا على حق قرره الشرع لها، وهو  أصل التراضي في المعاوضات.

ب-القرض له وجه في المعاوضة ووجه في التبرع:

للقرض وجه في المعاوضة من حيث إن المقترِض يجب أن يُرَد المال المقرَض، وله وجه في التبرع من حيث إن القرض تبرع بمنفعة المال المقرَض، وإرفاق بالمقترِض، لذلك ظهر في القرض قولان بناء على إلحاقه بالتبرعات أو إلحاقِه بالمعاوضات.

 –والأحسن أن يُنظَر فيه إلى المقترِض، فإن كان مليئا ماليا، ولا يماطل فيُلحق القرض بالمعاوضات، وللزوجة أن تقرِض ما زاد على الثلث دون التوقف على موافقة الزوج لأن القرض معاوضة من وجه، وأما إن كان المقترض عاجزا ماليا، أو مُلِدًّا بالخصومة، يؤدي بالمرأة أن يتكرر خروجها للمطالبة، فهذا يؤثر في مصلحة الأسرة، وعندئذ فالأوْجَه إلحاق القرض بالتبرعات، وكل ذلك دائر في تَبْقِية مال المرأة بيدها، وكذلك هو مصلحة لها.

3-حق انتفاع الزوج وتصرفه في مال الزوجة:

أ-حق انتفاع الزوج في مال الزوجة من المعارض راجح:

للزوج حق الانتفاع والتجَمُّل بمال الزوجة، دون  التملُّك أو التمليك، فله أن يستعمل ما تملكه الزوجة، دون التصرف تصرف المالك، وفي حال إتلافه وجب على الزوج الضمان، لحق الزوجة المالكة للأشياء، إلا أن تعفو والعفو خير وفيه الصلاح.

ب-حق تصرف الزوج في مال الزوجة من المانع المغمور:

ليس للزوج حق تصرف المالك في مال الزوجة كالبيع أو الرهن، أو الهبة، أو تملك المنفعة، وغير ذلك من وجوه الملكية، وطلبه أن تطيعه الزوجة في ذلك يعتبر مانعا مغمورا، لا يفتى بطاعتها للزوج، لأنه يتنافا مع الرضا الشرعي في المعاوضة في مالها، وللزوجة في تصرُّف الزوج تصرفَ المالك الإجازة أو الرَّد، وأما تصَرُّفه تصرفَ المنتفع فهو حقه شرعا، و معارِض راجح مفتَى به، مقصور  على حق الانتفاع فقط، وليس لها أن تمنعه من حق الانتفاع.

سادسا: أصل بر الوالدين في حالات النزاع المالي بين الزوجين:

1-عندما يكون المعارِض الراجح هو حق الزوجة:

أ-حالة والد الزوج:

كل ما كان معارضا راجحا من تصرفات الزوجة على المانع المغمور من حق الزوج، فهو حق شرعي لها تمارسه بما خوَّلَها الشرع، وليس للزوج أن يخالف الشرع، ولو أمر أبو الزوج ابنه الزوج  بما ليس من حق الزوج في مال الزوجة، فإن أبا الزوج يكون عندئذ مخالفا للشرع، ولا يجوز  له إكراه زوجة الابن في مالها، لتعين الحق الشرعي لزوجة الابن.

ب- حالة والد الزوجة:

وكذلك ليس لوالد الزوجة أن يكرهها على ما لا تريد في مالها، لأنه لا يحل مال مسلم إلا برضاه، وإكراهها في مالها يكون حراما، وتكون طاعة أبيها مانعا مغمورا، وحقها في التصرف معارضا راجحا، وعلى فرض أن أباها غضب عليها ودعا عليها لعدم طاعتها له،  فإن أباها مُعْتَدٍ في الدعاء فيما ليس له بحق شرعي، وأما إن أطاعت أباها راضية طيبة النفس في كفالة أخيها الجائزة كسبت بِر أبيها وطاعته، وهو المطلوب.

2-عندما يكون المعارض الراجح هو طاعة الزوج:

كلُّ ما كانت طاعة الزوج فيه معارِضا راجحا، وكانت تصرفات الزوجة مانعا مغمورا، فإن تصرفاتها المالية بالتبرع تكون متوقفة على إذن ا لزوج، وله أن يبَرَّ بوالديه فيما هو حق شرعي ثابت له، وليس لوالديه أن يجبراه بوعيد أو بغضب عليه، فيما لا يرضاه الابن في ماله، لأن الشرع جعل الحق للابن برضاه من غير إكراه، ولذلك لا بد أن تُراعَى الحقوق الشرعية في الأموال، ولا يجوز الإجبار عليها، وتكون طاعة الأب في إكراه ولده على تصرف في مال الولد مانعا مغمورا، وحق الابن في التصرف في ماله برضاه معارضا راجحا.

سابعا: حالات سقوط حق الزوج في رد تبرعات الزوجة فوق الثلث:

1-إذا علم بالتبرع وسكت، فلا يسمع اعتراضه بعد ذلك.

2-موت الزوج، وحق الإمضاء لا ينتقل للورثة.

3-موت الزوجة.

4-الطلاق البائن.

*ملاحظات مهمة:

1-إن الاجتهاد هو تعيين الدليل الراجح وتمييزُه من المانع المغمور بحسب كل مسألة بعينها.

2-ليس الاجتهاد سردا قصصيا للأدلة، ثم يستدل كل صاحب حق بأصل، وقد يكون أصله مغمورا وأصل خصمه راجحا، وتتسع فجوة الشقاق بسبب ضرب أصول الشريعة بعضها ببعض.

3-إن الدليل الشرعي نفسَه قد يكون راجحا في مسألة مغمورا في مسألة أخرى، وتمسك الخصوم كلٌّ بدليله يعني تهادم الأدلة والانتهاء إلى النتيجة صفر للجميع، وربما الفرقة الزوجية بسبب الصراع المصطَنَع بين أدلة الشريعة.

4-على كلٍّ من الرجل والمرأة أن يعلم أن هذه الحقوق هي له وعليه، فإن كان رجلا فله محارم متزوجات، وإن كانت زوجة فلها أبناء متزوجون، فلا ينظر  أحد إلى جنسه رجلا أو امرأة بقدر ما ينظر إلى أن هذه المقالة لمجموع الرجل والمرأة والوالدين جميعا، وليست انحيازا لطرف دون آخر.

5-هذه حقوق مقرر ة شرعا بقوة الحق لا بحق القوة، وعليه تعتبر جميع القوى تساوي صفرا إلى جانب الحقوق الشرعية المقررة، حتى يأخذ الضعيف حقه من القوي.

6-قد تجتمع على مسألة معينة عشرة أصول تتنازعها، وعمل المجتهد هو قطع التنازع بينها، وتعيين المعارض الراجح.

7-إن سبب تفكك الأسرة هو أن كل الأطراف يستدل لنفسه بدليل شرعي وتتضارب الأدلة فلا يبقى دِين ولا تبقى أسرة، بسبب عدم تعيين المعارض الراجح، وتمييزه من المانع المغمور.

8-إن المباديء العامة مثل لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق مباديء صحيحة، ويمكن أن يستغلها كل طرف ضد الآخر ،لأنها مباديء عامة، لا تعطي أحكاما دقيقة في الخصومات والنزاعات، ويصعب الحسم من خلال تلك المباديء العامة.

9-إن الثقافة الإسلامية العامة لا تملك حلا للمشكلات، لأنها تورد طاعة الزوج، وحق الزوجة في التصرف المالي، وبر الوالدين على نحو متساوٍ ، غير ِقادر على تنزيل كل أصل في محله الصحيح، بل قد يكون ذلك سببا في مزيد من الخصومة، وضراوة العداوة، لأن كل خصم يظن أنه على حق، ومعه شرع يتمسك به، وقد يكون متمسكا بأصل شرعي لكنه مانع مغمور، يهدم به المعارض الراجح.

10-إن الحداثة تريد أن تفرض نفسها في الأسرة عن طريق (سِيدَاو)  وأخواتها لإفساد الأسرة وهدمها، ويكون خطرها أشد عندما  تكون الحقوق في الأسرة ثقافة عامة، لا تملك قواعد فقهية جازمة في بيان مقاطع الحقوق التي ينبغي أن يقف عندها الجميع.

11-إن التعريف بمقاطع الحقوق يساعد الساعين بالإصلاح بين المتنازعين على بينة، ويجعل من الواجب والحق الشرعي من فرض العين، الذي يبني جهاز المناعة في مواجهة الحداثة الظالمة.

12-إن التأصيل الفقهي الدقيق يرد شبهات الدهرية (العلمانية) التي تزعم أن الفقه من باب العادات الاجتماعية التي يمكن أن تتغير، ويبين التأصيل الفقهي أن الفقه علم لا يتبع العادات الاجتماعية، ولا غطرسة القوة، بل هو علم له منهجه الدقيق، يحْكُم العادات، والعادات لا تحكمه.  

13-هناك خطاب إنشائي جميل في بر الوالدين والعلاقات الزوجية، مع واقع مرير ومؤلم، وهذه المقالة تتجاوز الإنشائي لبيان الحقوق، وتتجافى عن الواقع المرير، وتحاول إصلاحه، فلا يصح الاعتراض بالإنشائيات ولا بالسقوط في حَمَأة الواقع رفضا للإصلاح.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

29-ربيع الأول-1443

5-11 -2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top