الاقتداء بالإمام عن طريق المذياع والتلفاز ووسائل التواصل

أولا تصوير المسألة ونسبتها للمالكية:

1-تصوير المسألة:

هل يجوز اقتداء المأموم بالإمام عن بعد بواسطة نقل البث بالتلفاز والمذياع أو أي وسيلة تواصل عن بعد، وذلك في غير الجمعة التي شرطها المسجد، وهذا ما سأعبر عنه في مقالي هذا بعبارة: الجماعة عن بعد، وسأجري في هذه المسألة مَجرى الأصول وليس التفريع، أما في الجمعة فلا خلاف في منعها في البيوت وعليه ليست محلا للبحث، وتُتصور المسألة في الصلوات الخمس والتراويح والعيدين.

ثانيا: مناقشة الاستناد إلى قول المالكية في الجماعة عن بعد:

1-مذهب المالكية في الاقتداء يكفي أن يعلَم المأموم بانتقالات الإمام بسماع، أو رؤية، أو مبلِّغ، ولا يضر لو فصل بينهم طريق أو نهر صغير، وتصح الصلاة مع تقدم المأموم مع الكراهة إن لم يكن عذر، فإن كان عذر كضيق مكان فيجوز ولا كراهة، جاء في الشرح الكبير للشيخ الدردير على خليل:(و) جاز (اقتداء ذوي سفن) متقاربة ولو سائرة (بإمام) واحد يسمعون تكبيره أو يرون أفعاله أو من يسمع عنده ويستحب أن يكون في التي تلي القبلة (و) جاز (فصل مأموم) عن إمامه (بنهر صغير) لا يمنع من سماع الإمام أو مأمومه أو رؤية فعل أحدهما (أو طريق).

2-قياس المسائل بالمسائل كقياس الجماعة عن بعد على مسألة الجماعة عند المالكية، هو قياس شبه، وهو من الأقيسة الضعيفة، ومحله حيث لا نص ولا قياس علة، فيبحث الفقهاء عن قياس المسائل بالمسائل، بإظهار الأشباه وتكثيرها، وأوجه الفرق وتقليلها، وكثرة الأشباه تقوي هذا القياس، وقلتها تضعفه فوق ضعفه.قال في المراقي:

وحيثما أمكن قيس العلة***فترْكُهُ بالاتفاق أثبِتِ

إلا ففي قبوله تردد***غلبة الأشباه هو الأجود

3-ولكن قياس الاقتداء في  الصلاة عبر وسائل التواصل الحديثة على فرض الاشتراك بين الإمام والمأموم في وقت الصلاة، بناء على القول بالعلم بانتقالات الإمام بوسيلة الاتصال مهما كانت المسافة، هو قياس شَبَه ٍمع الفوارق في بعد المسافة ودخول الوقت، فضلا عن أدلة شرعية أقوى من قياس الشبه، تزيد الشبه ضعفا على ضعف، وفيما يأتي مزيد توضيح.

ثالثا: الجماعة حقيقة شرعية لا عُرفية:

1-إن الصلاة جماعة حقيقة شرعية، (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)، وهذا أصل محكم في أن الصلاة توقيف، وحيثما طرأ الاحتمال، فيتمسك بالأصل، فاشترط مالك المسجد في الجمعة والاعتكاف، لأنه إذا احتمل أن يكون المسجد شرطا أم لا فهذا احتمال، والتمسك بالحقيقة الشرعية واجب، فيدخل المسجد في حقيقة الجمعة والاعتكاف احتياطا للحقائق الشرعية، وهو مذهب الإمام والاحتياط للحقيقة الشرعية في الجماعة هنا واجب أيضا،وما شأنه التعبد والامتثال لا يدخله قياس العلة لأنه غير معلل أصلا، كأن يعلل بعلة مجرد العلم بأي وسيلة كما يدل لذلك حديث الأعمى.

 2-وأرجو أن تلاحظ نص الدسوقي الآتي في نقل كلمة القرب مكررة مرتين قال في الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (قال اللخمي إذا أراد من في الدار التي بقرب من المسجد أن يصلوا بصلاة المسجد جاز ذلك إذا كان إمام المسجد في قبلتهم يسمعونه ويرونه ويكره إذا كان بعيدا يرونه ولا يسمعونه لأن صلاتهم معه على التخمين والتقدير وكذلك إذا كانوا على قرب يسمعونه ولا يرونه لحائل بينهم لأنهم لا يدرون ما يحدث عليه…) فتأكدت كلمة القرب مرتين في كل حالة للتأكيد على القرب المكاني. 

رابعا: المعاني الحادثة لا تدخل في العموم:

1-جاء في صحيح مسلم  عن أبي هريرة، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى، دعاه، فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» قال: نعم، قال: «فأجب».

2-فقد قيد النبي صلى الله عليه وسلم وجوب السعي بسماع النداء، وهو تقدير شرعي، بسماع صوت المؤذن دون وسائل معاصرة، ولو كان المعتبر مطلق السماع لوجب قطع الفيافي والقفار وهو غير مراد شرعا، ويناقض ما سلكه الشارع في تقدير المسافة تقديرا شرعيا بالصوت المعتاد لحضور الجماعة، واعتبار مطلق السماع بالوسائل المعاصرة ينفي الشرع اعتباره بالنص.

3-جاء في التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب مؤكدا المعنى الشرعي الذي ذكرته: (وهُوَ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَبْلُغُهُ الصَّوْتُ الرَّفِيعُ) أي: إذا كانت الأرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والمؤذن صيت)، وعلى فرض إجازة الجماعة عن بُعد، فإن ذلك يعني إهدار المقادير الشرعية وإلغاءها بتقلبات العرف، وعليه فإن المعاني الحادثة ليست داخلة تحت التقدير الشرعي هنا، ولا يقضى بالعرف الحاضر على الشرع الظاهر.

3-لاسيما إذا ضمَمْنا لذلك وقت الوجوب المختلف وهو سبب وجوب الصلاة، فعَمان ومكة تشتركان في وقت الظهر، ولكن سبب الوجوب لمن في مكة مختلف في وقته عن سبب الوجوب لمن في عمان، وإذا كانت الجماعة في أول الوقت في مكة أفضل فتكون الجماعة في نصف الوقت أقل فضلا، بينما هي لمن في عَمان أعظم فضلا، وهذا يؤكد أننا أمام خلط في المعاني الشرعية، لا تقبله الحقيقة الشرعية.

خامسا: هل الجماعة عن بُعد من الصورة النادرة:

1-ومعنى الصورة النادرة أنها يشملها لفظ العموم ولكنها ليست مرادة للشارع، مثل هل تجوز المسابقة على الفيل، لأن له خفا فيكون داخلا في النص: (لا سبق إلا في خف أو حافر) أم لا، لبعده من قصد المتكلم، والأصل في المذهب أنها لا تدخل، وكذلك ما خرج من المني لمرض فلا يدخل لأنه حالة مرضية لا تدخل في قصد المتكلم لندرتها ولا يجب الغسل عندئذ، وإن تصور دخولها من حيث اللغة.

2-وكذلك الجماعة عن بعد على فرض دخولها في عموم النصوص في الجماعة فتكون غير مقصودة للشارع لبعدها، كما هو المذهب في السباق على الفيل، وخروج المني لغير اللذة، ومخالفتها الحقيقة الشرعية التي عليها العلم والعمل، جاء في المراقي:

هل نادر في ذي العموم يدخل***ومطلقٍ أو لا خلافٌ يُنقل

          فما لغير لذة والفيلُ***ومشبه فيه تنافى القيل

3-والأمر بمشابهة النبي صلى الله عليه وسلم في الحقيقة الشرعية للجماعة تقوي عدم دخول الصورة النادرة، مع العلم بأن المالكية قد أدخلوا الصورة النادرة في بعض الحالات لمقتضيات تقتضي ذلك، ليس هنا محل بسطها، وهي في شروحي على المراقي، وأسهل المسالك والرسالة، ويمكن متابعة ذلك على الروابط في نهاية المقال.

سادسا: مسلك مقصِد الجماعة:

إن الذهاب مع الاحتمالات كل مذهب على حساب الحقيقة الشرعية في أداء صلاة الجماعة، وهدر الجماعة الشرعية بالجماعة عن بعد، يعني فوات مقصد الاجتماع وإظهار الشعار، وهو لا يتحقق في الجماعة عن بعد، ونحن هنا أمام جماعة تشبيهية تشابه الحقيقة الشرعية ولكنها تهدمها، وتصبح بديلا لها، ولو سلك الناس عليها، فلن تجد الجماعة بعد ذلك، لغياب الحقيقة الشرعية، وسلوك درب المتشابهات، ومن خرج من حَدِّ الشارع لم يعد له حَدٌّ ينتهي إليه.

سابعا: صحة الجماعة عن بُعد لها ما بعدها:

إن الشذوذ لا يتوقف، بل سيركب الشذوذ على الشذوذ، لأن مَن خرج من حد الشارع لم يعد له حد ينتهي إليه، فماذا لو أردت أن أقضي صلاتي في ظهر الأمس، وراء صلاة ظهر الأمس مسجلة، فسيظهر الخلاف نفسه، فنحن في وهم الجماعة ولسنا في الجماعة، وأظن أن هذا غريب الآن، لكن لو صحت الجماعة عن بعد، سيصبح الشذوذ في الفتوى أقوم قيلا فيما بعد، وستصبح الحقيقة الشرعية للجماعة غريبة، بسبب إلغاء الشرع الظاهر بالعرف الحاضر.

الخلاصة: لا يجوز قياس التلفاز والمذياع على القول المطلق عند المالكية بجواز الاقتداء بالإمام بالشروط المذكورة في المذهب لأنه قياس شبه ضعيف يعارض الأدلة في الرتبة العليا من النص والحقيقة الشرعية، ويعتبر عرف المذياع والتلفاز عرفا حاضرا لا يجوز أن يلغي الحقيقة الشرعية كما وردت في صلاة أهل المدينة لأن الصلاة توقيف، ويعتبر العرف الحاضر صورة نادرة، أو معنى جديدا لا يدخل تحت أوامر الشريعة بالجماعة، ومخالفة التعبد إحداث في الدين، مبطل للصلاة في هذه الحالة، وقد سألت شيخي بيه بن السالك رحمه الله هذه المسألة فلم يجزها.

ثامنا: نقاط مهمة:

1-إن قياس الشبه متأخر في الرتبة عن دليل النص الشرعي، الذي قرر حقيقة الجماعة شرعا، وهو ما جرى به العمل في المذهب.

2-محل قياس الشبه حيث لا نص ولا قياس علة، ولا يجوز تقديم قياس الشبه مع الفارق على ما هو توقيف بنص الشارع، ولا يدخله قياس علة أصلا فكيف بقياس الشبه ؟!، وتقديم قياس الشبه هنا على الرتب العليا في الأدلة قلب لرُتَب الاستدلال، وهو لا يجوز.

3-الترك فعل في الحقيقة الشرعية لوجوب التقيد بأوصاف الصلاة شرعا، والترك هنا مقصود، وتعلق به الخطاب، كما هو واضح في قوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي، وقال للصحابي أتسمع النداء… فأجب، ولا شك أن النداء هو بالصوت المعتاد ولا يمكن أن يكون بوسائل الاتصال الحديثة.

4-تم إلغاء عموم النصوص الشرعية وأصول الشريعة بمقولة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، على طريقة مَنْ جعل العدم حجة، ولما صار تركه صلى الله عليه وسلم خطابا، وتركه فعلا، هجروا الترك الذي هو فعل، واتبعوا الترك الذي هو عدم، وهذا يعني أننا أمام تحكُّمات وانقلابات في التدين، ولسنا أمام منهج علمي مستقر، بل أمام الفتوى بالقطعة.

5-إن عدم تحقق الجماعة الشرعية في الجماعة عن بعد، يعني أن المصلي لم تتحقق له شروط الاقتداء، وهذا يعني أنه يقتدي بغير إمام، وعليه بطلت صلاته.

6-خطورة إلغاء أحكام الصلاة الشرعية، وإعلان حالة الصلوات العُرفية بسبب كورونا.

7افتتح المزاد في موسم كورونا بقلب حقيقة الجمعة بصلاتها في البيت، وهاهم يثَنون بقلب حقيقة الجماعة، يعني تفكيك الشريعة لا جمعة ولا جماعة، ولا صلاة منفرد، وهي حالة من العيش في وهْم التدين.

ملاحظة: مزيد من الشرح على الصورة النادرة وما يدخل في العموم :

10هل نادر في ذي العموم يدخل 6-11-2019

11 وما من القصد خلا فيه اختلف  10-11-2019

12 تتمة الصورة النادرة 14-11-2019

13 فائدة جعل بعضهم النادر 20-11-2019

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

أ.د وليد مصطفى شاويش

عميد كلية الفقه المالكي

25-شعبان-1441

19-4-2020

7 thoughts on “الاقتداء بالإمام عن طريق المذياع والتلفاز ووسائل التواصل

  1. أبريل 19, 2020 - حوامده

    السلام عليك
    فضيلة الدكتور وليد حفظه الله ورعاه وأعطاه الله الصحه والعافيه والتقى والغنى والعفاف والفلاح و النجاح والفوز بالدنيا والآخرة
    نفع الله بك وبعلمك العباد
    الطريق الى السنه إجباري

  2. أبريل 19, 2020 - حوامده

    جزاك الله خيرا كثيراً

  3. أبريل 20, 2020 - غير معروف

    جزاكم الله خيرا كما عودتنا فتوى منضبطة بالعلم المتين

  4. أبريل 20, 2020 - امحمد رحماني

    وأضيف عليه قائلا: أمر الصلاة وصفتها من أشد ما يجب أن يقتدي فيه المسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يأتي بصفة يبتدعها لعلة أو ظرف طارئ فإن أمر العبادات على النقل والتوقف ولم يدع الشرع صفة من صفاتها التي تؤدى عليها إلا وبينها وفصلها فليس للمسلم أن يحدث في هذا بحجة التطور أو الجائحة، ألا ترى إلى الرجل الذي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم تجاه الكعبة ثم وجد قوما لا زالوا يصلون تجاه المقدس فقال لهم “أشهد بالله” ليغير قبلتهم، ولو لم يكن من أمرها تلك العمة والتوقف وطلب الدليل القائم على المشاهدة لما اقسم بالمشاهدة وفي الحديث “صلوا كما رأيتموني أصلي”

  5. أبريل 20, 2020 - مهدي

    أحسن الله إليكم و زادكم علما و عملا آمين

  6. أبريل 21, 2020 - غير معروف

    جزاكمُ الله تعالىٰ خَيرًا، وأجزل مَثوبتَكم، وأنعَمَ عليكمْ بنعمه الوافرة ظاهرة وبَاطنة.
    آمين آمين.. وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارك على سيدنا ومولانا رسول الله وآله.

  7. مايو 7, 2021 - Ibrahim Abourich

    بارم الله فيك يا دكتور وليد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top