المواطنة والوطن والأمة في ظلال الإسلام

هل القتال دفاعا عن الأرض قتال في سبيل الله أم في سبيل التراب؟

كثيرا ما يحدث جدل بين المسلمين، فيقول أحدهم: إن القتال لا يكون إلا في سبيل الله، ولا يجوز أن يكون دفاعا عن الأرض، فيرد عليه الآخر إن الدفاع عن الأرض واجب، فيحدث الاختلاف من غير مسوغ، وقد رأيت أن أرسم توضيحا في هذا المجال، لاسيما وقد تساءل بعض الإخوة الأفاضل بعد المقالة السابقة في أنواع الشهداء وحكم كل منهم، لاسيما وقد كثرت الألقاب المتعلقة بالشهادة، من شهيد الوطن، وشهيد الواجب، إلى حالة من الإفراط الأعمى في استخدام اللقب إلى حد شهيد الفن والمسرح، وحسبك ما تعرفه في الوسط الفني من التحلل والانحراف والعبث بهوية الأمة التي جعلها الله أوسط الأمم، ثم انتهى ذلك الوسط الفني إلى حالة عبثية تستبيح الدين والأخلاق إلى حد تشويه الإسلام وإبرازه بصورة مملة ممجوجة.

أولا: الشهيد مصطلح شرعي:

والشهيد هو قتيل المعركة مع الكفار في سبيل إعلاء كلمة الله، وسمي بذلك لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة، أو لأن الملائكة تشهده وتحضره، وعليه فإن قيد إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض قيد أساسي في الشهيد، وهذا القصد هو قصد كلي لا يتناقض مع مقصد كلي أكبر منه وهو طلب الجنة، أو رضوان الله تعالى، فطلب إعلاء كلمة الله تعالى لا يتعارض مع مقاصد كلية فوقه، ولا مع المقاصد الجزئية تحته، وهذا ما سيتم توضيحه فيما يأتي.

ثانيا: المقصد الجزئي لا يتعارض مع المقاصد العالية فوقه:

إن كلمة شهيد الأرض، أو شهيد الحرية وغيرها، يمكن أن تطلق على مؤمن أو كافر، ولا تصح هكذا بهذا الإطلاق، فهناك فرق بين المسلم المؤمن الذي يقاتل في سبيل الله، فهو لإعلاء كلمة الله في الأرض، أو دفاعا عن أرضه التي يسجد للصلاة عليها، ويخرج زكاة حرثها وماشيتها، ويقيم عليها شرعه، فهذا إن دافع عن الأرض فهو إنما يدافع عن الشرع، فجهاد المؤمن دفاعا عن الأرض هو في نهاية الأمر نصر للشرع ولا يضاده، وهو مقصد جزئي في ظل المقصد الكلي في سبيل الله، مثل الصوم للوقاية من غائلة الشهوة، فهو مقصد جزئي في ظل المقصد الكلي، وهو في النهاية في سبيل الله ورضاه، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم الشباب غير القادر على الزواج على الصوم بقصد الوقاية، وهو لا يتعارض مع قصد رضا الله تعالى بل هو منه، وكذلك قتال المؤمن دفاعا عن الأرض فهو في سبيل الله.

ثالثا: دفع توهم التعارض بين القتال في سبيل الله ودفاعا عن الأرض:

فالمقاصد الجزئية تسير باتجاه المقاصد الكلية، وتسير معها في خط مستقيم، فمن جاهد في سبيل الله هو في النهاية دفاع عن الأرض، التي يقيم عليها شرع الله ودينه، ويحمي الضعيف وينصفه ولو لم يكن مسلما؛ لأن هذا شرع الله، وينبغي الحذر من توهم التعارض بين المقاصد الجزئية : كالدفاع عن الأرض والعِرض والمال، والمقاصد الكلية مثل: في سبيل الله، ابتغاء الجنة، ورضوان الله وغير ذلك، مثال ذلك من قُتل دون ماله وعرضه فهو مقصد جزئي تقره الشريعة وهذا المقصد الجزئي يصب في المقصد الكلي وهو في سبيل الله.

بمعنى أن المواطنة الإسلامية تجمع الإيمان وحب الأرض معا، على خلاف ما تروج له طائفة اللادينيين (العلمانيين) إلى أن المواطنة لا تجتمع مع الإسلام وشريعته، فهم يضعون المسلم بين وطن بلا إسلام أو إسلام بلا وطن، وكلا الخيارين فتنة في الأرض وفساد كبير، وهي حالة تناقض فادحة تعيشها هذه الطائفة المضطربة، تناقض بين الدين والعلم، والرجل والمرأة، وصاحب العمل والعامل، والغني والفقير، والحاكم والمحكوم، والإنسان والطبيعة، إلى غير ذلك مما تتوهمه هذه الظائفة من ثنائيات القطيعة، وهذه الثنائيات يجمعها الإسلام في سلك التكامل والمشاركة، فالعلم يدل على الإيمان، والإيمان يعانق الطبيعة، والمرأة شقيقة الرجل، والمناصحة بدل المناطحة بين الحاكم والمحكوم، والوطن أرض الله يورثه من يشاء من عباده، فالأرض لله والشعب خلقه، والحاكم راعٍ لخلقه، وحامٍ لأرضه، فلا محل أبدا لفرض التناقض بين: الدين، والدولة، والمواطنة، والأمة، إلا في أوهام اللادينيين الذين يعانون من سلفية متشددة لفكر أروبا، الذي يضع كل دين في عالم الخرافة والأساطير.

رابعا: المؤمن يعبد الله على أرض الوطن ولا يعبد الوطن على أرض الله:

أما إن كان القتال من أجل التراب الوطني لا يبالي فيه الرجل أقام الشرع أم لا، بل يعتبر الشريعة تهمة وتحجرا ورجعية، فأنى يكون ذلك الرجل شهيدا وقد ناصب ربه العداوة، فهذا قتاله لا يختلف عن قتال أهل مكة للنبي حفاظا على وحدة قريش وبقاء مصالحها مع الشرك بالله تعالى، ولا يختلف أيضا عن قتال الفرعون وقومه لموسى وهارون عليهما السلام عندما قال فرعون معبرا عن هواجسه الأمنية : (إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى)، ليحارب النبي المرسل والذين آمنوا بذرائع أمنية واهية.

ومع أن فرعون كان همه الوطن-فيما يظهر- ما بكى عليهم ترابُ مصر ولا سماؤها، بل نبذوهم وكرهوهم : في قوله تعالى : (فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين) هذا بالرغم من أن الفرعون وقومه كانوا أبناء الأرض، وكان موسى وقومُه طارئين عليها، ولكن مصر وأهل الإيمان يحبون موسى والذين آمنوا معه؛ لأن موسى والمؤمنين بالله أحب إلى الله وأرضه، التي تكره من يعصي الله عليها، وينبذ شرعه ولو كان من مواطنيها، وتحب الطائعين ولو كانوا طارئين عليها، ومصر أحبت موسى والمؤمنين لأنهم عبدوا الله على أرض مصر، ولم تبك فرعون ومن تابعه لأنهم عبدوا مصر على أرض الله.

خامسا: المشكلة دائما في الأقوال غير الواضحة فهي تسبب الخلاف:

وخلاصة القول لا يوجد في الواقع قتال من أجل الأرض مطلقا، بل يقع القتال في سياق الفكر والدين الذي يحمله المقاتل، فاليهود يريدون أن يقيموا دولة علمانية في فلسطين يشوبها دين منحرف، وهم مع اللادينين في كل مكان سواء في الدعوة إلى اللادينية التي يسمونها العلمانية، فالربا هو الربا، والعري هو العري، والخمر هي الخمر، فما هو التحرير إذن إذا بقي الربا والرشوة والخمر والعري، وأكل أموال الناس بالباطل، ، الخ من الكبائر، على أرض فلسطين.

وعلى العكس بالنسبة للمسلم صريح الإيمان، حتى لو قاتل دفاعا عن أرضه ووطنه وماله فهو في سبيل الله، لأن هذه المقاصد الجزئية هي في سياق المقاصد الكلية، ولا ينفصل تحرير الأرض عن القيام بواجب الوديعة والأمانة التي استودعها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فهو إن مكنه الله في الأرض أقام الصلاة وآتى الزكاة، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وحقن الدماء، وصان الأعراض.

وتأكيدا لما سبق المؤمنون لا يمكن أن ينفصلوا عن أوطانهم، فهم لُبّ الوطن وحماته، وهم أحرص الناس على أمنه ونهضته، ولا يمكن أن يكونوا ظهيرا عليه يوما من الأيام، فوطنيتهم صادقة، لأنها جزء من عقيدتهم وإيمانهم بالله تعالى، وهو إيمان يتجاوز الحدود المصطنعة بين المسلمين، بل ويتعدى نفعه للعالمين، ومصاب أي فرد من هذه الأمة على أي أرض هو مصاب المسلمين جميعا في وطنهم الواحد، وهو أرض النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الضروري التحذير من أن يظن المسلم أن ثمة انفصالا بين المؤمن وأمته وبلده، بل إن المؤمن هو الرصيد الكبير الذي ينفع بلده وأمته ويسعى لخير العالمين جميعا.

صوتية: المقاصد الأصلية الشرعية والمقاصد التابعة

مع الشكر

عبد ربه وأسير ذنبه

د. وليد مصطفى شاويش

عمان المحروسة

26-3-2014

1 thought on “المواطنة والوطن والأمة في ظلال الإسلام

  1. مايو 17, 2021 - عائشة الإدريسي

    بارك الله فيكم وجزاكم خيرا كثيرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top