بيِّناتٌ مِنَ الأمر في منكراتِ الخَمْر

تمهيد:

1-لا عبرة بتأثيرات العولمة والفلسفة:

لا شك أن رياح العولمة عصفت بعالمنا الإسلامي، وهي مجندة بأموال وبنين وتقنيات عالية وضغط فكري بغطاء حرية مزيفة، وهذا أدى إلى هيمنة وإكراهات فلسفية على عالمنا الإسلامي، الذي يملك نموذجا عالميا في الاعتقاد والشريعة والأخلاق، وإن أم الخبائث من أشد المنكرات التي تؤدي إلى الفساد في الضرورات الخمس: الدين، النفس، المال، العقل، العرض، وإن إنكار المنكر  له قواعده حتى يصبح بنائيا مَصلحِيا، وإذا خولفت القواعد تحول إنكار المنكر إلى آثار عكسية، تزيد المنكرات ولا تغيرها.

2-الإنكار واجب الجميع:

إن ما يعلم من الدين بالضرورة لا يخفى على العامة، وعليه فإن شرط العلم بما ينكر فيه حاصل فيهم، ويجب عليهم في كل ما حولهم أن ينكروا أم الخبائث بالتحذير  والتربية، والتلويح بالتحريم في كل المحافل والمقالات والحلقات والعمل مع النخبة للعمل على حظر الخمور ، أما الفقهاء، فعليهم تحليل الواقع تحليلا دقيقا، وتفكيك الحالة إلى أجزائها الأولية، في النظر إلى الخمارات على النحو الآتي:

أولا: الخمارة وما يحرم فيها ويحِل:

1-ما يحرم فيها ويجب إتلافه:

إن المحرم في الخمارة (مكان بيع الخمر) ولا قيمة له شرعا هو الخمر المسكر إذا كان لمسلم، فإن كان لغير مسلم ككتابي، فيضمنه المسلم إذا أتلفه، كما لو كانت كتابية زوجة لمسلم، ويحرم تداول أهل الذمة لها علانية بين المسلمين بموجب عهد الذمة، ولا حد على ذمي في شربها لأنه يعتقد حِلَّها في دينه.

2-الأجرة على نقل الخمر لإتلافها: 

بما أن الخمر لا قيمة لها شرعا إذا كانت ملكا لمسلم، فعندئذ يجب إتلافها، ويحرم بيعها أو هبتها ولو لذمي لأن المسلم لا يثبت له ملك صحيح على الخمر، حتى يتصرف تصرف المالك، بل يجب إتلافها، ويجوز الاستئجار على حملها بقصد الذهاب بها إلى مكان الإتلاف، ويمكن إتلافها باستخدامها وقودا في المصانع، وحصلت منفعة الوقود تبعا للإتلاف المأمور به شرعا، ويجب التنبيه هنا على  تحريم ثمنها مطلقا.

3-حرمة عقد إجارة العامل والعقار  وثمن العقار:

أ-الأجرة في الإجارة

تحرم إجارة الخمار وكل الدور المنطوية على منافع محرمة مثل النوادي الليلية، والبنوك الربوية، وفي حالة التوبة والتمكن من الفسخ يجب على المؤجر أن يتصدق بجميع الأجرة للفقراء، وكذلك العامل فيها بالبيع فيجب عليه التوبة، وأجرته حرام يجب التبرع بها للمساكين.

ب-الثمن بيع العقار للخَمَّار:

أما إذا باع دكانا ليباع فيه الخمر  أو للربا والقمار وعُلَب الليل، فهذا يحرم عليه ما زاد على ثمن المثل وحقه أن يأخذ ثمن المثل فقط، لأن العين العقار المبيع ملك مشروع مستقر لصاحبه، وإنما فسد من جهة القصد فحرم الثمن المسمى في العقد، ووجب ثمن المثل، وهنا ينبغي التفريق بين الإجار الفاسدة والبيع الفاسد.

 4-ما هو معصوم يحرم إتلافه:

 أما باقي موجودات الخمارة من رفوف وأطعمة وأثاث، فيباح الانتفاع بها شرعا في غير المحرَّم، وهذه لها قيمة مالية محترمة شرعا يجوز بيعها وأخذ ثمنها، ويحرم إتلافها بالتكسير أو بالحرق، وإتلافها منكر من المنكرات، ولا يجوز ارتكاب المنكر لتغيير المنكر، بالإضافة إلى حرمة النفس المعصومة لمن يعمل في تجارة الخمر، مع وجوب الإنكار عليه وبئس ما عمل، فإن شرِبها ترتب عليه الحد الشرعي بحكم القاضي.

ثانيا: إنكار المنكر في مجال الدراسات:

على جميع الدراسات الاجتماعية والاقتصادية بيان مخاطر الخمور على المجتمع وأن لعاعة الدنيا من الرسوم والضرائب ليست سوى حب العاجلة، وثمن بخس مقابل آثار الخمر في الجريمة وتفكيك الأسرة.

ثالثا: مجالس تمثيل المجتمع:

على جميع المضطلعين بالتشريع والقرار أن يعملوا على حظر الخمر  وحماية المجتمع من هذه الآفة، كما أن على الناخبين أن يجعلوا من حماية الأجيال من الخمر التي أصبحت متاحة لعابري السبيل أنها أخطر من المخدرات بسبب تقنينها، وأما إذا فرط النائب والناخب في محاربة هذه الآفة فإن المكاسب الاقتصادية التي يسعون إليها لا تفيد مع حياة أسر مدمرة، ونفوس محطَّمة بسب جناية شرب الخمر .

رابعا: التمييز بين الإباحة القانونية والشرعية:

1-الإقرار بالتحريم:

لم تكن عالمنا الإسلامي يعيش ازدواجية الإكراهات القانونية على الأمة، بما يخالف شريعتها، مما يستدعي السؤال: هل  مانح الترخيص مُبَدِّل للشريعة أم لا، فإن زعم أن الخمر أبيحت قانونا ولكنها محرمة شرعا، وأن صاحبها من أهل الكبائر، فهذا مسلم من أصحاب الكبائر.

2-تبديل الشريعة: 

أما إن جَحَد تحريمها شرعا، فهذا يكون كافرا مبدِّلا للشريعة بعد التحقق من الشروط وانتفاء الموانع في مجلس القضاء، لا شأن فيه للأفراد، فإن لم يكن قضاء فإما أن يكون المستحِل منافقا اعتقادا إن زعم أنه مسلم، أو أنه مسلم جاهل وجب تعليمه والله أعلم به، ومع ذلك يجب الإنكار عليه بالبيان في جميع الأحوال.

3-الأدلة أن التبديل شرعا يكون باستحلال الحرام شرعا لا قانونا:

أ- من الكتاب

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) البقرة، ووجه الدلالة أن الأحبار أشاروا أن تبديلهم المخترع هو من عند الله، وفي الإباحة القانونية لا يلزم منها الإباحة الشرعية، فيمكن أن يحتاج التمييز  فيهما بالقول مباح قانونا محرم شرعا وشارب الخمر صاحب كبيرة ومستحق للعقاب وإن لم يعاقب قانونا.

ب- من السنة:

جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تجدون في التوراة في شأن الرجم». فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة ” ووجه الدلالة أن بدلوا أحكام الله تعالى، فحكم الله تعالى الرجم، وبدله اليهود إلى الفضح والجلد، ونسبوا ذلك للشرع، فمن أباح الخمر شرعا يكون مبدلا.

ج-العرف العشائري والقانون الوضعي:

إن القضاء العشائري موجود في ديار الإسلام قبل القوانين الوضعية وهو مخالف للشريعة، ويقضى به، ولكن القضاة به لم يجحدوا أحكام الشريعة، بل صنعوا أعرافا مخالفة للشريعة، وقضوا بها بين الناس، ولم يكونوا جاحدين لأحكام الشريعة، وعليه فإن من يقضي بالقانون الوضعي أو العرف العشائري معتقدا صحة أحكام الشريعة وأنها هي الحق فلا يكون داخلا في تبديل أحكام الشريعة الذي هو كفر، ويكون مبدلا إذا زعم أن تبديله من عند الله كما فعلت اليهود، أو أن الشريعة ليست هي الحق، بل هي تاريخ بائد. 

د. أصول الشريعة لا تحديث عليها:

أجمع أهل السنة على أن الكفر  هو الجحود وليس الذنوب والكبائر كما ذهب الخوارج والمعتزلة، وللخوارج والمعتزلة متشابهاتهم من الكتاب والسنة في تكفير أصحاب الذنوب، مخالفين في ذلك معلما بارزا من معالم أهل السنة والجماعة، ويجب الحذر من إعادة انتاج فكر الطوائف بإغراء العامة بالمتشابهات، فإن كانت الأعراف العشائرية والقوانين الوضعية قضاء بغير الشرع، وهو حادث فإن أصول الإسلام ليست حادثة، بل مستمرة ويجب تنزيلها على النوازل المعاصرة.

ه-الفرق بين المخالف في الجزئي والمخالف في الكلي:

يمكن أن يشذ بعض المفتين في جزئي، فيكفرون بذنب معين دون بقية الذنوب، وبذلك يكون ذلك المفتي قد فارق أهل السنة في جزئي ووافقهم في الكلي، وهذا لا يخرج مَن شَذَّ من الجماعة، بالرغم من أن المكفر يلمِز أهل السنة الذي يكفرون بالجحود بأنهم مرجئة، بالرغم من أن المغالي في التكفير فارق الجماعة في ذلك الجزئي، بسبب إعادة تفسير  ظواهر النصوص تفسيرا على أصول الخوارج والمعتزلة،  لا على أصول أهل السنة، فالمشكلة في فساد التأويل لا في كون الخبر صحيحا أم ضعيفا، وكان ينبغي للمغالي في التكفير رد المتشابه إلى مُحْكَمه، ومُحْكَم أهل السنة أن الكفر يكون بجحود العبد ما أدخله في الإسلام، وما أدخله في الإسلام هو  الإذعان بالمعلوم من الدين بالضرورة.

خامسا: العقبات التي تواجه إنكار المنكر:

1-فساد ذات البين هي الحالقة:

إن الاصطفافات السياسية والدينية التي تتخذ المعارضة والموالاة سبيلا  للإصلاح، ربما تتخذ المنكرات وسيلة تصفية حسابات وتحريضا على الخصوم السياسيين والدينيين، مما يعني أننا لسنا أمام إنكار المنكرات، بل أمام توظيف المنكرات في إضعاف الخصوم للحلول مكانهم.

2-عدم التمييز بين التحريض وإنكار المنكر:

 لذلك لا بد من رسم فاصل واضح بين إنكار المنكرات وفق أصول الشريعة، وبين التحريض وتصفية الحسابات، وحرق الشخصيات الذي لا يخدم تغيير المنكر ات بل يؤدي إلى زيادتها، لأنه يخدم الحزب والجماعة، والولاء والمعارضة، وليس إنكار المنكر عندئذ إلا أسلوبا للصعود على ظهر الشرع لغايات دنيوية، وحسابات شخصية وفئوية.

سادسا: النوم الثقيل تحت سقف أحلام مرتفع:

إن التعامل مع الواقع تعاملا إنشائيا خطابيا والإكثار من  مفردات: ينبغي، ويجب، وعلينا، ثم الخلود إلى النوم دون أي إجراءات عملية وواقعية مثْمرة، يجعل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حالة إنشائية، لا علاقة لها بالتغيير ،بل ستكثر  المنكرات وتهدم المجتمع، والحق أنه لا بد من بيان التفاصيل الإجرائية العملية التي تجمع وتبني، لا التي تفرق وتهدم، فيها العمل مع الصبر، حتى يكون الإصلاح بعيد المدى، لنورث للأجيال القادمة مجتمعات نظيفة ما أمكن، وليس المطلوب العويل والبكاء على اللبن المسكوب دون عمل  .

*الخلاصة:

1-يجب على العامة إنكار منكرات الخمر  في الجملة وهذا لا يختص بالعلماء.

2-يختص العلماء بإنكار المنكر على التفاصيل ببيان تفاصيل المسألة الموضحة في متن المقالة.

3-تغيير المنكر  لا يكون بمنكر جديد أو منكر أشد وذلك كاستخدام القوة العنيفة من الأفراد، مما يزيد المنكرات والوقوع في منكر  إهدار الدماء المعصومة.

4-العرف العشائري والقانون الوضعي لا يلزم منه بالضرورة تبديل الشريعة في المعلوم من الدين بالضرورة،

5-المباح قانونا لا يعني أنه مباح شرعا كالربا والخمر فالحرمة الشرعية باقية وعليه الجزاء شرعا

تغليظ إنكار المنكرات وعقوباتها حيث عجزنا عن تطبيق الحد، ولكن هذه العقوبات لا تسقط الحدود الشرعية.

5-على أهل الطاعات أن يعملوا كل ما بوسعهم لإنقاذ إخوانهم الذي وقعوا في المنكرات، فهذا حق المسلم على أخيه.

6-لا يجوز استخدام المنكرات استخداما نفعيا للحزب أو الجماعة في التحريض على الغير، بل المطلوب هو القضاء على المنكر، وليس القضاء على أصحاب الكبائر.

7-عدم تأجير بيوت المنكر مثل البنوك الربوية ومحلات الخمر جزء من المقاطعة الاجتماعية والاقتصادية التي تسهم في تغيير المنكرات والحد منها.

8-أهمية إجراء الدراسات الاقتصادية والاجتماعية للمنكرات وأثرها على عموم المجتمع وإن كانت تتضمن منافع دنيوية زائلة لفئة معينة شاردة عن الحق.

9-كل من له ولاية عامة مسؤول عن تغيير المنكرات في حدود الاستطاعة.

10-أصول أهل السنة في الإمامة بعدم التكفير بالكبير تتضمن قدرة إصلاحية عالية، أما التكفير  بالكبائر في مسائل الإمامة دون اعتبار الجحود فهو فكر هَدْمي يعمل على تفكيك الأمة الإسلامية، بسبب هدمه قاعدة الشهادتين، بوابة الإصلاح وأصل الانتماء.

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

28 -ربيع الثاني-1443

4-12-2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top