قضية فلسطين على دَرْب  البلاء الـمُبِين

تمهيد:

إن فلسطين ليست قضية سياسية فحسب بل هي قضية تتجلى فيها السنن الإلهية بوضوح، وهي حلقة من حلقات متصلة ابتداء من الخلق الأول لآدم عليه السلام في الجنة، وأخْذِ العهد منه ومِن ذريته على الإيمان، والحذرِ من خطوات الشيطان، بصفته العدوَّ الأول لآدم عليه السلام وذريته، إلى الحلقة الأخيرة وهي دخول أهل الجنة جنتهم، وأهل النار نارهم.

فأهل الجنة أهل فضله وأهل النار أهل عَدْله، وأما بقية الحلقات في الوجود البشري على الأرض ومنها قضية فلسطين، فهي بين حلقة الخلق الأول والجزاء في الآخرة، وسأقيم تلكم الحلقتين على أنهما عمودان طرَفان، وأربط بينهما بحبل السنن الإلهية، ثم أعلِّق الحلقات ذات العلاقة بفلسطين على هذا الحبل.

أولا: الخلق الأول هو مبدأ الوجود سببا وغاية:

إن قصة الخلق الأول تحْكِي سببَ الوجود وهو الاستخلاف،  ومبدأَ الصراع بين الشيطان وذرية آدم، وأن قاعدة الابتلاء هي : (فإما يأتينكم مني هدى)، أو اتباع خطوات الشيطان، وفيما يأتي التفصيل لهذه الحلقة الأولى:

1-السبب والغاية:

جاء الإعلان الإلهي عن استقبال مخلوق عظيم هو آدم عليه السلام، ومنصب شاغر رفيع هو منصب الاستخلاف، فاستشرفَت الملائكة لهذا المنصب العظيم، وتفضل الله تعالى على آدم عليه السلام  بالاستحقاق بالعلم ليتبوَّأ  هذا المنصب، وأمَر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام، وكان هذا الأمر الشرعي مفصليا في وجود آدم وذريته، وابتداء العداء من الشيطان، وكان الابتلاء لآدم عليه السلام بالنهي عن الأكل من الشجرة، فغلبه طبع الشهوة، فأكل من الشجرة زلَلاً  لا جحودا وعنادا، وتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.

2-خطوات الشيطان:

حذَّر الله تعالى آدم وذريته من اتِّباع خطوات الشيطان،  وهي ثلاث خطوات تتلخص في الآتي:

أ-الاعتداد بالطبيعة:

أمر الله الملائكة بالسجود لآدم واعتد الشيطان بطبيعته النارية وأنها طبيعة أفضل من طبيعة الطين، وكان هذا هو أصل القياس الفاسد الذي قاسه إبليس، وأصل كل الأقيسة الفلسفية من بعده التي ترد الشريعة بالطبيعة.

ب-إبداء الهوى:

الهوى هو ما يميل إليه الطبع، ومال الشيطان إلى طبيعته النارية، وقدم تفسيرا فلسفيا  على أساس الطبيعة،  بقياس فاسد هو أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، وهذه هي خطوات الحداثة في الاعتداد بالطبيعة ورد الشريعة، فالهوى هو فكر فلسفي يقصي الشرع ويقدم الطبع.

ج-إسقاط الشريعة:

الهوى الوارد في الكتاب العزيز لا يكون إلا هوى باطلا، وقد وُضِعَت الشريعة على خلاف الهوى، ابتلاء من الله تعالى لخلقه، ولكن الشيطان وقع في الهوى، ورد الشريعة وجحدها، أما آدم فلم يَجْحدْها بل أقَرَّ بها، ولكن غلبته نفسه، ثم تاب إلى الله وتاب الله عليه، فمن جحد الشريعة فهو أشبه بإبليس، ومن عصى وتاب فهو أشبه بآدم عليه السلام، والله تعالى يقبل توبة التائبين، ولكن الطَّبع لا يبلغ من القوة أن يسلب الإنسان الإرادة، وإن كان للطبع تأثير علي الإنسان، فهناك أيضا الروح التي تسمو بالإنسان نحو السماء، وتُعينه على حمل الشريعة.

د-نوع آخر وهو  الهوى الجائز:

إن الهوى الذي هو الميل إلى الطبع يكون حراما حيث خالف الشرع، أما الميل إلى الطبع في الأمور المأذون بها شرعا في الأمور العادية كأنواع اللباس والطعام والبيوت وغير ذلك مما هو في حقل الإباحة فللناس فيها رأي وذوق وسع الله فيها عليهم توسعة كبيرة، ويجب التمييز في دعوى الحرية والرأي والرأي الآخر بين الطبع تحت إذن الشرع، وبين الطبع المخالف للشرع، والهلوسة في الحرية دون الأخذ بذلك هي حالة من تأثير الطبع في إقصاء الشرع.

ثانيا: مراحل قضية فلسطين من تحكُّم الطبيعة إلى سُلطان الشريعة:

مرت فلسطين المحتلة بفئتين، فئة من الناس هواها يخالف الشرع مخالفة صريحة، وهي فترة المد القومي العربي واليساري، تصرح باستبعاد الإسلام من كونه مرجعية في الحياة، ثم بعد سقوط القدس سقط المد القومي اللاديني، وحلَّت محلَّه ما يعرف بالصحوة الإسلامية، حيث أصبح تحرير فلسطين ذا مرجعية دينية متفقة مع الشرع، ولكل مرحلة فترةٌ لاختبارها، وفيما يأتي تفاصيل ذلك. 

1-المد القومي العربي البداية والسقوط:

أ-ابتداء مرحلة المد القومي المعارض للدين:

ظهرت الفلسفة المادية الغربية القائمة على التفسير الطبيعي للوجود بعيدا عن الغيبي الشرعي، وتأثرت بالميل للطبيعة، وهو المسمى بالهوى الذي نهت عنه الشريعة، وكان المد القومي الشعوبي جارفا في إقصاء الدين وإحلال الهوى الجاحد لمرجعية الإسلام، وهي نفس خطوات الشيطان الأولى: الاعتداد بالطبع وهي القوم، ثم اتباع الهوى وهي فلسفة القومية، ثم إسقاط الشرع، وهي مرجعية الإسلام.

ب-سقوط المد القومي بسقوط القدس:

كان سقوط القدس في حرب 1967، عاملا طبيعيا أدى إلى زلزالٍ فكريٍّ في العالم العربي، أَنْسَى العرب أهواءهم التي غلبهم عليها الشيطان في خطواته الأولى، وكان العامل الطبيعي بسقوط القدس هو الحاسم في رد القوميين بغيظهم لم ينالوا خيرا، وحصلت حالة من الفراغ بدأ الناس يستشعرون أنهم كانوا تائهين، فشرعوا يبحثون عن المخرج من المأزق الذي اعتُبرت فيه فلسطين هي المحك الذي يمتحِن الله تعالى به عباده الصادقين.

2-ظهور الصحوة الإسلامية:

لم يكن ظهور الصحوة الإسلامية قائما على التضحية بالدنيوي رغبة في الأخروي، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم، بل كانت خيارا وحيدا لا خيار غيره، وهو قصد تحرير فلسطين وهو قصد موافق للشرع، وهنا ظهر الدَّور المهم للإسلام بوصفه مرجعيةً للصراع بناء على انهيار الخيارات القومية واليسارية وغيرها من خزعبلات الحداثة، التي تركها العرب كما يترك السكير الخمر لضررها لا لتحريمها، ولكنه مع ذلك صح تركه شرعا، أما الأجر والثواب فهو بحسب نية كل إنسان ولكل امريء ما نوى.

ثالثا: مرحلة تمحيص الدور الوظيفي للإسلام:

يجوز قصد تحرير الأرض مع سبيل الله تعالى بشرط أن يكون الشرع مهيمنا لا مكونا، فقصد التحرير مكون والشرع مهيمن، فإذا اختل هذا الميزان، بأن قدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم كأن يصبح الإسلام دورا وظيفيا وفلسطين هي الغاية، فلا بد عندئذٍ من المفزعات الطبيعية لتعديل الميزان، بحيث يكون الشراع سابقا والوطن مسبوقا، وكلاهما من الشرع.

1-اجتماع قصد التحرير مع قصد الشارع:

إذن، ظهر الإسلام أنه هو الحل وأصبح هو الشعار في المرحلة، وأصبحت مظاهر التدين تعود إلى الشارع العربي بسبب صعقة سقوط القدس، وأصبح تحرير فلسطين مع الإسلام يسيران في صراط مستقيم واحد، بعد سقوط المد القومي، ولكن الاختبار الإلهي هذه المرة لن يكون بين الإسلام وضد الإسلام، كما كان في المد القومي العَرْبَجِي، بل سيكون بين قصدين شرعيين جائزين، هما: الإسلام وتحرير فلسطين.

2-محور الاختبار:

إذا وافق الهوى الشرع، كتحرير أرض الإسلام مع الشرع، فلا بد أن يكون أحدهما سابقا والآخر مسبوقا، فلا يغرنَّك مظهر السجود، فإن إبليس عندما كان ساجدا، حيث اتفق الطبع السابق مع الشرع المسبوق، وكان أمْر الله تعالى الشيطانَ بالسجود لآدم عليه السلام، ابتلاء لبيان السابق من المسبوق، هل الشرع سابق والطبع مسبوق، أم الطبع سابق والإسلام مسبوق، فتبين من الابتلاء أن طبع الشيطان سبق أمر الشرع بالسجود لآدم، فاستكبر ولم ينفعه سجوده السابق لله تعالى لأنه كان شرعا موافقا لهوى الشيطان، فلما جاءه اختبار السابق والمسبوق أظهر الله تعالى علمه الأزلي بأن جسد إبليس كان ساجدا وقلبَه كان متمرِّدًا.

3-هل الإسلام سابق أم فلسطين سابقة على الإسلام:

 وكذلك الابتلاءات المحيطة بفلسطين، إذا اتفق الطبع في الميل الطبيعي لتحرير الوطن عند كل الشعوب، مع الشرع الآمر بتحرير المقدسات، فهل قَصْد الإسلام سابق، وهو الحاكم المهيمن في قضية فلسطين، وليس طبع الميل الطبيعي للوطن هو المتحكِّم في الإسلام، أم هل  قصد تحرير فلسطين سابق على الإسلام وليس الإسلام إلا سيارة إسعاف يُتوصَّل بها لتحرير فلسطين، ثم تترك إلى حين الحاجة مرة أخرى؟ هذا السؤال هو مَحَزُّ البحث وجوهر الابتلاء .

4-تحرير الأوطان طبيعة في الإنسان:

نرجع إلى قصة الخلق الأول، وهي خطورة تأثير الطبع في إقصاء الشرع، خصوصا أن الشريعة وُضِعَت على خلاف الهوى، الذي هو الميل إلى الطبع، فجميع الشعوب لها طبيعة في الذَّود عن أرضها ومكتسباتها، وأن الإنسان يقاتل للمَغْنَم، ويقاتل للذِّكْر ولأغراض أخرى دنيوية، وكذلك قد يكون القتال في سبيل الله، وهذا الأخير يجب أن يكون سابقا على  الأعراض الدنيوية الزائلة، وأن الشرع سابق والدنيا مسبوقة، فلما جاز القصدان شرعا: تحرير فلسطين، وفي سبيل الله، فإن الاختبارات الإلهية ستأتي لتمحيص القصد السابق من القصد المسبوق، فكانت على النحو الآتي.

رابعا: اختبارات هل الإسلام قصد سابق أم مسبوق:

عندما يصبح القصد السابق وهو في سبيل الله تعالى مشوبا بالقصد التابع وهو تحرير فلسطين، فلا بد عندئذ من امتحان أيهما متقدم على الآخر، وفيما يأتي بعض هذه الاختبارات وقعت للعباد في تمييز القصد السابق من المسبوق.

1-رفع الأحزاب اللادينية راية التحرير:

إن تقييم أداء حركات التحرير وفق الطبع يكون على أساس الأداء في معركة التحرير، أما الانحرافات العقائدية التي تسيء إلى عقيدة الإسلام فهي تعتبر أمورا خاصة بأصحابها، والمعتبر هو وحدة الصف غير الموحد أصلا، ولا قابلا للتوحيد ما دام الإسلام ليس جوهريا سابقا في الصراع، ولكن الجوهري والسابق على الإسلام هو فلسطين.

2-لقب شهيد لغير المسلم:

في تحكم الطبع وإقصاء الشرع يصبح الموت من أجل فلسطين أشرف من الموت على الإسلام، بل إن من قدم جهودا في التحرير وخدمات للقضية فهو معيار النجاة في الآخرة، ولو كان كافرا، وبعد موت أحد أصحاب الإنجازات من أجل القضية، تهدم قاعدة ضرورية من قواعد الإسلام وهي أن من بلغَته الدعوة صحيحة ومات على الكفر فهو من أهل النار خالدا فيها، وأصبح هذا الضروري محل نظر وشك وتوقف في أصول الدين، وكل ذلك يوضح بجلاء أن دور الشرع في المعركة موجود ولكنه مسبوق بالطبع يسقط الشرع من أجل الطبع كما حصل من الشيطان في الخلق الأول حيث قدم الطبع على الشرع، أما حيث أمكن الجمع بينهما فقد كان إبليس ساجدا، ولكن الابتلاء بالأمر بالسجود بين أن الطبع عند الشيطان سابق والشرع مسبوق، وهكذا قضية فلسطين تفهم في قضية الخلق الأول.

3-رفع الشيعة راية التحرير:

أ-تقديم الطبع وإقصاء الشرع:

رفع الشيعة لواء تحرير فلسطين وأعلنوا عن عقائد محرفة، بل ومعادية لإجماعات العقيدة والشريعة، وصار الهدف ليس حماية الإسلام والالتفاف حوله، بل المراد هو استخدام الإسلام مركبة للحشد من أجل الغاية السابقة وهي فلسطين، فالإسلام موجود في القضية وجُودَ الوسيلة المسبوقة، وفلسطين وجود الغاية السابقة.

ب: التعديل على الطباع لم يتأخر:

 وعليه فإن الطبع وهو تحرير الوطن في الواقع سابق على الشرع، وكانت حرب 2006 بين حزب الله واليهود شاهد لا يكذب حول اعتبار فلسطين سابقة والشرع مسبوق، حيث سبق الطبع الشرع، وسرعان ما جاءت المفزعات لتعديل الطباع بعد أقل من عشر سنين مذابح دموية خاضها الحزب ضد من رفعوا شعاره وأقصوا شعار الشرع.

4-تهاوي النموذج الحداثي فكريا:

أ-الهوى الحداثي لن يستمر:

كما أن النموذج القومي العربي تهاوى تحت وطأة سقوط القدس، لم يزل التدبير الإلهي سائرا نحو انتزاع الفلسفة الطبيعية الحداثية من قلوب المسلمين مثل حقوق الإنسان، وحق الشعوب في الدفاع عن نفسها، وهذا النموذج يتهاوى يوما بعد يوم بسبب الفشل الحداثي في إثبات مصداقيته في قضية فلسطين.

ب-فلسطين يميز الله بها الخبيث من الطيب:

فإن فلسطين جعلها الله فاصلة في الفكر والحضارة، يميز الله بها الخبيث من الطيب،  وما زال العرب يريدون القافلة، والله يريد ذات الشوكة، ليحق الحق بكلماته، والحق لا يكون إلا بأن يكون الشرع سابقا والطبع مسبوقا، لا أن تحرر فلسطين في غمغمة الشرع المسبوق كغمغمة سجود الشيطان لله قبل أن يؤمر بالسجود لآدم عليه السلام.

5-تهاوي عوامل القوة الطبيعية في القضية:

كثيرا ما يعتد المسلمون بعوامل القوة الطبيعية من حيث كثرة المال والرجال والجغرافيا، وأننا لو بصقنا على دولة الكيان لغرِقَتْ، ولكنهم لم يفقهوا سنة الله في الذين خَلَوا من قبل، وهو أن الله غالبٌ على أمره، وكتب الله لأغلبن أنا ورسلي بالحق، فكيف تكون الغلبة والحق الذي هو الشرع مسبوق، والعوامل الطبيعية سابقة، بل سيجعل الله شرعه سابقا، تحت ضربات الواقع الذي يسوق الأمة إلى الشرع بالسلاسل، ولْيحْتفظ أتباع القوى الطبيعية ببصاقهم ولْيبلعوا ريقهم، فالمعركة أكبر من بُصاقهم، إنها معركة الحق وهو الشرع السابق والطبع المسبوق، ولكل نبأ مستقَر.

6-الحركات والجماعات الإسلامية بين المأزق واستشراف المستقبل:

أ-الجماعات الإسلامية وتحولاتها:

قدَّمَت الجماعات الإسلامية على مختلف توجهاتها رؤى دينية إصلاحية سواء في الجانب الحركي والسياسي والعلمي والاجتماعي، على أنها نموذج من التجديد الديني، وكان يغلب عليها الطابع الفكري الاجتماعي الثقافي المنبتُّ على المذاهب المتبوعة والفقهي الأصولي الذي هو امتداد لفقه أهل السنة والجماعة، وربما تجاوزَت في رؤاها تلك الإجماعات العقدية والفقهية.

ب-تبرؤ الجماعات من بعضها:

ولكنها اليوم تعيش تغيرات وتبدلات تناقض ما قامت عليه، بينت ذلك في كثير من مقالاتي تحت عنوان ليس الخلاف في الكلي كالخلاف في الجزئي وقد تبرأَت الجماعات من بعضها، فقالت كل جماعة لأختها أنها ليست على شيء وهم يتلون الكتاب، ناهيك عن التناقضات والانقسامات داخل الجماعة نفسها، وهذا أيضا جزء من البلاء المبين لتلك الحركات، لإعادة تقييم نفسها، أن الواقع الطبيعي، واتباعُ كلِّ أمْر مستقر،  لا يجوز أن يغير  الشرعي.

ج-المدرسة الفقهية والعقدية السنية والبلاء المبين:

ظهرت في الآونة الأخيرة دعوة للعودة إلى المدرسة السنية ومذاهبها المتبوعة، ويواجه دعاة الأصالة هؤلاء ابتلاء كبيرا، لأن إعداد فقيه المذهب يختلف عن المفكر الإسلامي المثقف، حيث يجب أن يتفوق أتباع المذاهب الأربعة على القانون والاقتصاد وغيرها من فروعه المعرفة لتقديم الكلّي والجزئي الإسلامي الذي يدمغ الكلي الحداثي فإذا هو زاهق، ولا تنفع حالة التهييج العاطفي لاستقطاب جمهور العوام على أن هذا دليل على نجاح مشروعهم الإصلاحي، فهؤلاء بلاؤهم قادم، وعليهم أن يكونوا في مستوى الأمة والتحدي.

خامسا: علاج الأمة بالـمُفْزِعات:

1-شبهة الطبع لا تنفع فيها الحجج الشرعية:

عندما تكون الشبهة في الفكر فمن السهل إزالتها بالحجة والبيان، لكن الشبهة في القلوب وهي ميلها عن الشرع نحو الطبع فهذه لا تنفع فيها الأدلة الشرعية، بسبب شهوة الطبع، التي ترُدُّ النص الشرعي إلى الطَّبعي، ولكن تنفع فيها المفْزِعات، لأن الطبع يفزعه الطبع، فجاءت  جرائم ميليشيات الشيعة في العراق والشام بحق أهل السنة إصلاحا عقديا بِرد الطبع إلى الشرع، عن طريق المفزعات للطباع ، حيث ارتُكبت مجازر ضد الأمة من قبل الطوائف والغزو الخارجي، تم من خلاله تعديل الطبع الفاسد الذي صفَّق للنصر الإلهي المزعوم في 2006 ليستقيم مع الشرع.

2-التدبير الإلهي يزيل حاجز الطبع في القلوب:

أ-الطبع يفزعه الطبع:

 وقد تم ذلك فعلا،وأحقَّ الله الحق وأبطل الباطل، واقتنعت الأمة بأن ميليشيات الشيعة من أصحاب النصر الإلهى في 2006، لم يكونوا سوى حاجز الطبع السابق من أجل فلسطين على الشرع، فأزال الله ذلك الحاجز ولكنَّ كُلفة الدم والمال كانت عالية، لأنهم لم تُفِد فيهم صيحات المصلحين بالتحذير من خطر ميليشيات الشيعة الداهم، واستغلالهم فلسطين لتحقيق أهداف استعمارية

ب-مكر أولئك هو يبور:

 ولكن كثيرا من هذه الأمة ولَّوا مدبرين مولولين بأن القصد هو تحرير فلسطن وليس من المناسب إثارة مسائل العقيدة، أما بعد المفزعات فقد انقلب هؤلاء رأسا على عقب، ولم يكن يصلحهم  إلا ذاك، وكانت المليشيات تتوهم أنها ستغير من طبيعة السكان وعقيدتهم، ولكنها في الحقيقة كانت جزءا من إصلاح أهل السنة وردهم إلى رشدهم، (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).

سادسا: التحليل الإعلامي اللاديني يفتقر لمعرفة السنن الإلهية:

1-يدبر الأمر من السماء إلى الأرض:

إن التحليل الإعلامي الحداثي اللاديني مشرك بالربوبية لا ينطلق من عقيدة الإله المدبر للكون الفاعل المختار على وفق العلم والحكمة، فيحلل الأحداث وكأنها خلق إنساني أو أحداث جبرية لا يد للإنسان فيها، وباختصار كما قال الأعرابي: أرحام تدفع وأرض تبلع، فهي تحلل الأحداث خارج الحكمة الإلهية ومبدأ الخلق الأول والجزاء في الآخرة.

2-معاني الربوبية ضرورية للفهم:

 فهو يرفض الإسلام مهيمنا ويريده مكوِّنا ضمن فلسفة التاريخ، وهذا هو عين التأثير الطبعي وإقصاء الشرعي في خطوات الشيطان في قصة الخلق الأول، وهي التي حذر الله تعالى من اتباعها في الدنيا، وها هي تقع جلية واضحة في قضية فلسطين، برفض مرجعية الشرع والتحليل وفق الطبع.

سابعا: تقييم المحطة النهائية للإصلاح:

إن المحطة النهائية لاستنزال النصر الإلهي يجب أن يكون فيها الشرع سابقا، والطباع في الميل للوطن مسبوقة، وهذا لا يعارض الشرع أن يجتمع كليها، ولا يُطلب من المسلم أن يخالف الجبِلَّة والطبيعة التي تربطه بالأرض والمال والأهل، بل هذا مكون ثانٍ في الصراع، أما المهيمن فهو الشرع، ويجب أن يكون الشرع مهيمنا لا مكونًا، أما في اتباع الهوى فيكون الشرع مكوِّنا والطبع مهيمنا، وعليه يجب أن يكون تحرير فلسطين بالقصد الأول وهو الشرع، ولا مانع من القصد الثاني المسبوق وهو الطبع.

سابعا: مثالٌ من بني إسرائيل  هل الشرع سابق أم مسبوق :

1- بنو إسرائيل قدموا الطبع على الشرع:

طلب بنو إسرائيل القتال لاستراداد أوطانهم : ( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ولكن الله تعالى امتحن ميْلهم الطبيعي، السابق على الشرعي، في اختبارات مَرْحَلية وهي تَوْلِية  طالوت عليهم، وعدم الشرب من النهر إلا غَرْفَة، فاعترضوا على الشريعة، لأنها جاءت على خلاف الطبع في الـمُلْك وحاجة الإنسان للشرب، وكثرة جنود جالوت.

2-النتيجة النهائية للاختبار:

 حتى قالوا في الاختبار النهائي : ( قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) هذه هي النتيجة النهائية، تصفية شاملة لمن كان في قلبه الطبع سابق والشرع مسبوق، فميز الله الخبيث من الطيب، وأنزل النصر على القلة المؤمنة التي قدمت الشرع على الطبع، وكذا ابتلاءات قضية فلسطين، على هذا النحو، حتى تصفو القلة المؤمنة التي يكون فيها الشرع سابق وفلسطين مسبوقة، وأكدت أن كليهما قصد مشروع، ولكن الابتلاء من هو السابق.

2-ما أشبه الليلة بالبارحة:  

وهذه كلها اختبارات جاءت لتميز  إن كان الشرع سابقا والطبع مسبوقا، فقد أذِن الله تعالى لهم بأن يشربوا قليلا من الماء، يعني أن الشرع والطبع قد يجتمعان، ولكن لا بد أن يكون الشرع سابقا، وما أشبه هذه الحالة بحالة المسلمين في فلسطين اليوم، فلا تزال الابتلاءات الإلهية تميز الخبيث من الطيب، يبنما يظن الناس أن قضية فلسطين في تراجع، وفي الحقيقة هو تراجع عن الطبع وتحقيق للشرع على مراحل، إلى حين استحقاق النصر بقوله تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين.

ثامنا: هذه الأمة مرحومة ومَهْدية:

1-هذه الأمة لا يستدرجها الله تعالى:

إن المتأمل لواقع هذه الأمة من خلال العرض السابق، يدرك أن هذه الأمة مرحومة، وأن الله لم يستدرجها بالدنيا، فلَو أن الفكر اللاديني القومي أو الشيعي حرر فلسطين لكانت فتنة في الدين، ولكن الله فتن المسلمين في دنياهم، ليردهم إلى آخرتهم الباقية، ولم يفتِنهم في دينهم ليرُدَّ لهم دنياهم الزائلة.

2-فقه سنة الله في هذه الأمة:

 فعلينا أن نفقه سنة الله مع هذه الأمة العظيمة، كرامة لنبيها، الذي قال الله له: ولسوف يعطيك ربك فترضى، ولن يرضى أن تفتن الأمة بدينها كاليهود والنصارى، بل تفتن في دنياها ليردها الله إلى دينه، أما من استدرجه الله فقد هلك، ونعوذ بالله من الاستدراج: قال تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون).

 تاسعا: بين الباكين على الشِّعار والقابضين الجِمار:

1-شعار فلسطين عربية إسلامية أم إسلامية عربية:

إن الشعارات يجب أن تكون حقائق، فهناك فرق بين شعار  الإسلام هو الحل من أجل فلسطين، أم فلسطين اختبار من أجل الإسلام، أو شعار فلسطين عربية وإسلامية، فهل السابق فلسطين أم الإسلام، هل السابق عربية أم إسلامية،  سيمُرُّ الجميع بامتحانٍ على مستوى الفرد والحزب والدولة والأمة على اختبار السابق والمسبوق، كما مرت بنو إسرائيل في ابتلاء الله تعالى لهم، كما بينت حيث ميز الله الخبيث من الطيب بالابتلاءات الكاشفة للشرع والطبع، أيهما سابق وأيهما مسبوق.

2-اختبار أهل الشعار بالجِمار:

 وأصحاب الشِّعار سيمُرُّون بامتحان الجِمار، وقلَّ من يُفلح فإنَّ الطبع غَلاَّب، وخُلق الإنسان من الطين، والطين أقوى تأثيرا على الناس إلا على عبادَ الله المخلَصين، وهؤلاء المخلَصون هم الأجْدَر بفلسطين، ولكنهم سيرونها بعد تحريرها على أيديهم،  وعْدًا قليلا في جانب الوعد الأكبر برضا الله تعالى وجنته، وأن هذه الأرض ضيقة على أن تكون جزاء للمخلَصين، فقوانينها الطبيعية لا تتسع لتكون دار الجزاء.  

3-الاصطفاف للمصالح الوطنية واستدبار الشرع:

أ-اللادينيون ووطن بلا دين:

إن المصالح الدنيوية هي أمور طبيعية ولا تكون شرعية إلا من حيث هي خادمة للآخرة، وإن أبانا آدم عليه السلام لما غلبه الطبع وخالف الشرع خسر الجنة التي هي أصلا الحظ الأكبر للطباع، فاستدبار الشرع واستقبال الطبع هو حالة آنية مؤقتة بعدها نخسر الوطن كما خرج آدم عليه السلام من الجنة، فقصة الخلق الأول هادية لنا، لنربح الوطن والشرع، وإلا فسنخسرهما جميعا، والمعاصي تخالف الشرع، وتقدم الطبع في جانب المعصية كأبينا آدم عليه السلام، أو تكون جحودا وكفرا كاستكبار الشيطان، ولكن تأثير الطباع قد يكون في ارتكاب الصغائر أو الكبائر، أو الكفر.

ب-الغلاة ودين بلا وطن:

أما الذين عجزوا عن فقه الشريعة في مراعاة الطبع والجبلة ولكن الشرع سابق عليهما، فهؤلاء يزعمون أن القتال من أجل الوطن شرك بالله تعالى، وأرادوا أن يجرِّدوا العبد من الطبع الذي خَلَقه الله عليه، وتناقضات الغلاة واللادينيين هي تناقضات الطباع نفسها، فإن الغلاة خالفوا الشارع لأنهم جعلوا الطبع مخالفا للشرع بأهوائهم، مع أن الطبع معتبر في القصد الثاني المسبوق في القصد الشرعي الأول السابق.

ج-الشرع دين ووطن:

ولنا في قصة أبينا آدم عليه السلام معتبر في الحديث، ومزدَجَرٌ عن الحداثة التي هي إقصاء الشرع وتقديم الطبع، والوطن بلا دين يعني ضياع الوطن كما ضاعت الجنة من قبل، ولكن هل من معتبِر، فالله تعالى أباح الجنة لآدم وزوجه والتمتع بكل ملذات الجنة الطبعية من غير مخالفة الشرع، ما عدا الشجرة التي نُهي عنها، فلما صار الطبع سابقا والشرع مسبوقا جاء الجزاء بالحرمان من الجنة، وهكذا الحرمان من الأوطان يكون بتتبع الطباع وهي الدنيويات الزائلة ثم يضطرب الناس، ويقتل بعضهم بعضا، ولا يبقى دين لا وطن، لأنهم أقصَوا الدين الحارس لهم جميعا، بسبب تناقضات الولاء والمعارضة والمصالح، وصار الدين بالمقصد التابع والدنيا بالمقصد المتبوع، ولا يغرنك لَيُّهم ألسنتهم بالدِّين والدنيا في قلوبهم سابقة والآخرة مسبوقة.

د-ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون:

إن الواجب الشرعي هو إعداد المستطاع من القوة، وعفا الله عن غير المستطاع، أما الإيمان شرعا فهذا لا بد من تحقق أصله وغايات كماله، بحيث يرى المسلم لا حول ولا قوة إلا بالله حقيقة، وأن كل القوى المادية للكفار والمسلمين تعمل بإذن من الله تعالى، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بما كتب الله لها، حينها يعلم المؤمن أن معصية الله تعالى أخطر عليه من قِلّة السلاح، وأن طاعة الله تعالى أكثر من كثرة السلاح، وعندئذ يصبح الشرع سابقا والطبع مسبوقا، فلا يمكن أن يحصل الهوان والذل للمؤمنين، في قضية فلسطين، وتبقى العزة لله وللمؤمنين حتى لو انتصر الكفار على المسلمين لأن ذلك مِن أجْل أن يراجع المسلمون حساباتهم مع ربهم.

الخلاصة:

1.   الشعور بالهزيمة والضعف هو تقديم للطبع على الشرع، والمؤمنون أعزاء بالله في أحلك الظروف، لأن الشرع عندهم سابق على الطبع، وموقنون بقوله تعالى:(وكان حقا علينا نصر المؤمنين).

2.   يجب تحليل الأحداث في ضوء السنن الإلهية في الخلق، وأنها لا تحدُث اعتباطا، بل يدبرها العليم الحكيم.

3.   التحليل السياسي والإعلامي المعاصر غير قادر على التفسير الدقيق للأحداث لعدم معرفته بكلي التدبير الإلهي للخلق وسنة الله في ميلاد الأمم وهلاكها، ولكل أمة أجل.

4.   محاولة إلغاء المرجعية الشرعية للإسلام والاصطفاف من أجل المصالح الوطنية هو تقديم الطبعي على الشرعي، ثم تضيع المصالح الوطنية والجنة، ولا يبقى دين ولا وطن، وذلك هو الخسران المبين.

5.   هذه أمة مرحومة ونكباتها تسديد لمسيرتها نحو رب العالمين.

6.   الفتنة في الدين فيها ضياع الآخرة وأما الفتنة في الدنيا فهي لرد الناس إلى دينهم، فهي محنة فيها منحة.

7.   قصة الخلق الأول حافلة بأنواع الهداية والبيان لما نحن فيه اليوم من أحداث جِسام.

8.   التأثر بالطباع في مقابلة الشرع من  خطوات الشيطان.  

9.   أعطت الشريعة فسحة كبيرة في مراعاة الجبلات والطباع بشرط عدم مخالفة الشرع.

10.                 الاستسلام للواقع المهزوم في قضية فلسطين اتباع لخطوات الشيطان في الطبع ومعارضة للشرع.

11.                 إن الابتلاءات للمسلمين الذين يسعون لتحرير فلسطين ستميز إن كان الشرع عندهم سابق أم مسبوق.

12.                 إقصاء الدين من أجل الذين يخدمون قضية فلسطين تقديم للطبع على الشرع

13.                 المؤمن يحب أرضه ويذود عنها بدمه وماله ولكن لا يغير الشرع من أجل طبعه.

14.                 قصد المجاهد تحرير أرضه وبلده لا يتعارض مع قصد في سبيل الله.

15.                 يجب أن يكون قصد الشارع سابقا على قصد تحرير الأوطان، وكلاهما من الشرع

16.                 الكفار والمسلمون خُدَّام لقدر الله تعالى وكلهم تحت تدبير الله تعالى.

مقالة ذات علاقة:

المواطنة والوطن والأمة في ظلال الإسلام

الطريق إلى السنة إجباري

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

24  -ذي القعدة-1443

 24-6-2022

1 thought on “قضية فلسطين على دَرْب  البلاء الـمُبِين

  1. يونيو 24, 2022 - غير معروف

    جزاك الله خير الجزاء يا دكتور
    حفظك الله ورعاك ورفع الله قدرك في الدنيا والآخرة
    ونفع الله بك لأمه الاسلاميه أن شاءالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top