كفاءة الشريعة  في مكافحة الفساد

تمهيد: قصة الخلق الأول:

إن قصة الخلق الأول حافلة بالمعاني الهادية إلى سواء السبيل في الدنيا، والنجاة في الآخرة، وقد بين الله تعالى في قصة الخلق الأول خطوات الشيطان ومداخلَه في الإغواء، وكان من تلك المداخل في الوسوسة لأبينا آدم عليه السلام طول الأمل والملك، والغريزة في شهوة الأكل من الشجرة  (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) طه، وعليه فإن خطوات الشيطان هي: العزف على طول الأمل، والملك، والشهوة الضاغطة، وهذا هو مدخل الشيطان في الإغواء والإفساد في الأرض.

أولا: العبادات فرائض لتهذيب الغرائز الضاغطة:

فرض الله تعالى العبادات لتربية الإنسان على السيطرة على غرائزه والتمكن من قيادتها، لا أن يصبح الإنسان مَقُودًا والغرائز قائدة، لأن سيطرة الغريزة هي عين الفساد في الأرض، وتصبح بنائية إذا تمكن الإنسان من ترشيدها، وفيما يأتي تفصيل التدريب على قيادة النفس:

1-فريضة الصلاة:

إن شهوة الإنسان النفسية في الانفلات والظهور لا بد لها من التربية على الانقياد والخضوع، فنجد أن أركان الصلاة كلها تعبدات خضوع وانقياد: القيام،الركوع، السجود، الجلوس، استقبال قبلة واحدة، عدم الالتفات والكلام والطعام، فهذا كله تحرير للإنسان من غوائله الشهوانية ليتمكن من قيادة الغريزة، حتى لا تتغول على العقل، ويصبح الإنسان وحشا لا يقف عند حد، مما يؤدي لهلاك المجتمع، بسبب صدام الغرائز، بدلا من نظام الحقوق في الشريعة.

2-فريضة الزكاة:

تمثل الزكاة ركنا إصلاحيا آخر في توجيه الغريزة في حب المال، فتُعلِّم الإنسان السيطرة على المال، ويصبح المال مبذولا، والإنسان معَزَّزا، وخلافا لذلك سيصبح الإنسان عبد الدرهم والدينار،  وينشب الصراع الرأسمالي الشرس، الذي ينظر إلى الشعوب المستضعفة أنها حزم من النحاس وبراميل من النفط، في ثالوث السلطة والمنفعة والخوف.

3-فريضة الصيام:

والصوم تهذيب لأقوى شهوات الجسد كالطعام والجنس وآفات اللسان، والصيام مدرسة لتفوق الإرادة الإنسانية، وتنظيم الغريزة، وتوجيهها في قنوات صالحة بنائية للمجتمع، فالذي يمتنع عن الشهوات نهارا كاملا مدة شهر ، فقد تمرس بالتحكم في غريزته، وتعلم التقوى والمراقبة لله تعالى في سكناته، وحركاته.

4-فريضة الحج:

إن هروب الإنسان نحو الأنانية، ومفارقة الجماعة أمر لا بد من علاجه، فتأتي العبادات الجماعية على رأسها الحج والجمعة والجماعة، لتعليمه العيش في المجتمع، وأنه ليس يعيش وحده، وتعلمه بأن يعبد الله تعالى بضمير الجمع ولو صلى منفردا فيقول: (إياك نعبد، وإياك نستعين) فلا يقول إياك أعبد، وإياك أستعين، وهذا كله لكبح جماح الفردية المفرطة التي تهدم الجماعة.

5- الفتاوى الشاذة من الفساد في الدين:

إن تتبع الفتاوى الشاذة هو انحلال من الأوامر الشرعية، خصوصا تللك الفتاوى التي تهدم الشهادتين بالذنوب، ويغررون العامة بمتشابهات النصوص الشرعية، وهذا جزء من الفساد في الدين الذي يغلق طريق الإصلاح، بسبب اختراع عداوة الكفر بين أهل السنة والجماعة، ناهيك عن الفتاوى الشاذة المتحللة من الصلاة قضاء وأداء، ومثلها بقية أركان الإسلام، فقد حرم الأئمة الأفتاء بالأقوال الشاذة والعمل بها والقضاء، ولا يجوز ذكرها إلا للتحذير منها على وجه الإنكار، ويحرم ذكرها على وجه الاعتبار.

ثانيا: الأعمال الغريزية تجري بين الندب والإباحة:

1-لماذا العبادات فرائض في الأصل:

بينتُ أن العبادات خالصة لله تعالى لا تصح إلا بنية التقرب لله تعالى والامتثال،  فجاءت على نحو الوجوب والتأكيد لأنها خالية من الحظ البشري، ولا توجد دوافع غريزية لها، فالعبادات مخالفة للغرائز كما مر، والعبادات تدريبات يومية على القيادة والسيطرة، حتى تنقاد النفس، وتصبح الغرائز إصلاحية، ودافعة نحو العمارة والبناء.

2-لماذا الجبليات(الغريزيات) بين الندب والإباحة في الأصل:

وإذا كانت الغرائز هي الدافعة، والإنسان يعمل لحَظِّه فيها كالزواج، والبيوع، لم تَجِد الشرع مؤكدا على الجِبلِّيات بالإيجاب كما أكد العبادات بالفرائض سابقا، فالجبليات (الغرائز) للإنسان يحرص على حظها منها ويركض إليها، فلم تحتج توكيدا،  مثل البيع والزواج، والرهن، والكفالة والوكالة، وجاء التوكيد على العبادات، ولم يؤكد الشارع على الجبليات، لأن الدافع الجبلي الغريزي ضامن لتحصيل قصد الشارع بوقوع الفعل من زواج وبيع وشركة، وإنفاق على الأولاد، فالأب يسعى بمقتضى الدافع الغريزي على تحصيل قوت أبنائه، وكذلك عناية الأم بأبنائها، فلم يؤكد الشرع على ذلك، بل أكد على ضرورة بر الأبناء بالآباء والأمهات لعدم الغريزة الضامنة للقيام ببر الوالدين، ولتوقع الإهمال من الأبناء.

3-شرع الحدود لردع الغريزة الجامحة:

إذا لم يتحقق مقصود الشارع في العبادات بتهذيب الغرائز لدى فئة من الناس، وكانت الغرائز ضاغطة نحو ارتكاب عدوان على المجتمع، كالسرقة والزنا والحرابة والقتل وغيرها، رأيتَ الشريعة مُلَوِّحة بمنظومة الحدود، لأن في انفلات الغريزةعدوان سافر و فساد كبير، وتدمير للبشرية، فوسائل الشريعة تهذيبية في العبادات، وتهديدية في العقوبات، فإن من لا يصلحه الأدب تصلحه العقوبة.

4-الأمل بالثواب الآجل في الآخرة وقمع الفساد:

إن النفس التي وسوس لها الشيطان بطول الأمل وقضاء الشهوة العاجلة، وعدها الله تعالى بطول الأمل وقضاء الشهوات في الجنة، فتصبح غريزة حب الحياة وطول الأمل وما تشتهيه الأنفس، مسألة انتظار في وقت قصير  في الدنيا، حيث تُزَهَّد النفس في الفاني وترغب في الباقي، وعندئذ، يفوت وسواس الشيطان الذي يوسوس بحب العاجلة، والعلاج للنفس هو إعطاؤها الأمل، وما ترغب ولكن في الآخرة، فالمسألة تأجيل الوقت وليس تفويت الغريزة في حب البقاء

ثالثا: لماذا يقع الفساد:

1-مخالفة الشريعة:

عندما تقع النفس في حب العاجلة التي هي مصيدة الشيطان، ويغيب عنها رجاء الآخرة، وخوف العقاب، ولا العبادت تُهذِّب، ولا الحدود تردع،  فهذا يعني أن جميع مقدمات الفساد قد وقعت، أما القوانين فلا فائدة منها إذا فسد الإنسان الذي يطبقها، ويصبح البشر وحوشا في ثياب بشر، يحدثونك عن الإنسانية وهم أعداؤها، وعن الحق وهم أبعد الناس منه، لماذا: (إنهم كانوا لا يرجون حسابا)ـ ففساد التصورات أي العقائد سبب فساد التصرفات.

2-الحداثة وصناعة الفساد:

إن الحداثة تمثل صناعة من أكبر صناعات الفساد، فهي تقوم على عبادة المنفعة المقدسة، ونهب الشهوات في الدنيا، قبل أن يتحول الإنسان بعد الموت إلى حثالة من الكيمياء، ومزبلة متحللة من الخلايا المتعفنة، لذلك تغزو الحداثة بلدان ما وراء البحار، وتقوم بسطو مسلح على شعوب مستضعفة،ثم تمارس حضارة مزيفة في تعليم مواطنيها الصالحين أن من العيب فتح خزانة صديقك في غيابه، بينما هي تنهب المسضعفين في مستعمرات ما وراء البحار، ثم تستبد الحداثة بوضع مفهوم الفساد، ومعاييره، بحيث تظهر  دول الحداثة خالية من الفساد، بينما تظهر الشعوب المنهوبة أنها شعوب فاسدة.

رابعا: الفساد المالي وكشف العورة:

إن اللقمة الحرام له أثرها في الأخلاق، فإن قصة الخلق الأول بينَتْ أن الأكل من الشجرة، كَشَف العورة بعد سترها قال تعالى: (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) طه ، وهذا يعني أن الفساد المالي للبشر في الدنيا يصحبه فساد أخلاقي، حيث يتحلل الإنسان من الأخلاق، ويستبيح كل شيء من أجل المال، كما هو شأن الرأسمالية التي تهيمن على العالم، وتتخذ من الفن العاري وسيلة للكسب، فكأن قصة الخلق الأول جاءت محذرة، من عواقب اللقمة المحرمة، وأنها لا تقف عند الجانب الاقتصادي بل تتعدى إلى الاجتماعي والسياسي، وجاء التحذير  من اتباع خطوات الشيطان.

خامسا: تفوق الشريعة (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى):

إن الشريعة تملك كل أدوات الحماية والوقاية من الفساد، مثل قصة الخلق الأول والتحذير من خطوات الشيطان الأولى، وأقامت العبادات وحفزت النفس إلى الحياة الباقية في كل ما تشتهيه الأنفس، مع  قضاء شهوته في الدنيا بما تيسر له من الحلال (ولا تنس نصيبك من الدنيا)،  وشريعة الله ليست مَحَبة ودروشة، بل لديها زواجر تردع الجانحين نحو الغرائز ، المائلين عن الصراط المستقيم، وتلوح لهم بعقوبات رادعة وزاجرة في الدنيا، وتخوفهم من العذاب الأكبر في الآخرة، قال تعالى عاطفا على قصة أكل آدم عليه السلام من الشجرة (  قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) فبينت أن هدى الله هو الأمان من الفساد والشقاء فقال: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى).

*الخلاصة:

1-قصة الخلق الأول في القرآن الكريم حافلة بالمعاني الإصلاحية للحياة البشرية.

2-خطوات الشيطان في صناعة الفساد تقوم على مداخل النفس الإنسانية في طول الأمل وشهوات النفس.

3-للشريعة طرق وقائية من الفساد في إصلاح النفس كالعبادات

4-الغلو في الدين والتحلل منه جزء من الفساد

5-العبادات ليست من الحرية الشخصية، بل هي أحكام وجوبية إلزامية تصلح الإنسان، الذي يعد صلاحه شرطا مسبقا لصلاح السياسة والاقتصاد والاجتماع.

6-الشريعة تملك زواجر لكل من لا يفيد فيه الأدب

7-التفريط في العبادات والتربية مقدمة الفساد المالي

8-الفساد المالي قرين الفساد السياسي والاجتماعي

9-الحداثة جزء من صناعة الفساد مهما حاولت أن تحاربه فهو صناعتها

10-من إصلاح الشريعة أنها وعدت النفس بالخلود وقضاء شهواتها في الجنة

11-رجاء الثواب والخوف من العقاب أساس إصلاحي كبير في الأرض

12-إن كثرة تداول الأدعية والأذكار والحديث الوعظي مع فشو الفساد المالي في المجتمع يعني أن المجتمع يعيش حالة من انتفاخ التدين، ووهم التقوى، والميزان هو اللقمة الحلال. 

الطريق إلى السنة إجباري

الكسر في الأصول لا ينجبر

عبد ربه وأسير ذنبه

أ.د وليد مصطفى شاويش

عَمان الرباط

5  -جمادى الأولى-1443

10-12-2021

1 thought on “كفاءة الشريعة  في مكافحة الفساد

  1. ديسمبر 11, 2021 - محمد محمود محمد الحوري

    حفظكم الله و سدد قلمكم. و نفعنا بعلمكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top