مفردة “التكفيري” بين التوظيف الإعلامي والتحقيق الفقهي

الملخص

تداولت وسائل الإعلام مفردة التكفيري والتكفيريين على نطاق واسع، حتى أصبحت هذه المفردة من المفردات المتداولة على ألسنة كثيرة، بالرغم من غموضها، واستخدامها ضد الخصوم السياسيين، ولا يجيز الفقه الإسلامي تداول هذه المفردة الغامضة، لما تؤدي إليه من تشويش الفكر، وفرض الحيرة والغموض على الناس، مما يسمح لجهات القوة والنفوذ توجيه مجتمعات متحيرة نحو ما ترغبه جهات القوة، ولو كان في ذلك هلاك الناس، وهو أمر يحذر منه الفقه الإسلامي، ولا يجيز التعامل مع تلك المفردات، حماية للمجتمع من الفوضى المعرفية.
أولا: ما معنى تكفيري؟

لم تقدم الجهات التي تتداول هذه المفردة أي تحديد لمعنى هذه المفردة، ولم تهتم بتحديدها أصلا، ولكن التحليل اللغوي لهذه المفردة، يوضح أن التكفير حكم على فرد أو جماعة بالكفر، وقد لحقته ياء النسبة، فصار يطلق على كل من يحكم على أي فرد أو فئة بالكفر، وقد استُخدِمت هذه المفردة استخداما إعلاميا مــبْــتـذَلا من الخصوم السياسيين ضد بعضهم بعضا، وفاقم من مساويء هذا الاستخدام عدم توافق المتداولين لمعنى هذه المفردة، ومن ثم انضمت هذه المفردة إلى أخواتها من المفردات غير واضحة المعالم مثل: التشدد الديني، التطرف الخ من تلك المفردات التي تشوِّه المعرفة، وتُوقع المجتمع في القلق والتشويش على الحقائق الشرعية المنضبطة انضباطا عاليا.
ثانيا: الله تعالى حكم بكفر المشركين:

لا يغيب عن إيمان أي مؤمن ومؤمنة أن الله تعالى قد حكم بكفر من يعتقد أن مع الله إلها آخر، أو زعم أن لله – سبحانه- زوجة وولدا، وهذا حكم شرعي قد بينه الشارع في قطعيات الأدلة من السنة والكتاب، وهذا الحكم شرعي يجب اعتقاده والعمل به من قبل المسلمين، وهو لُبُّ رسالة الأنبياء جميعا وجوهرها، من آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: إذن التكفير حكم شرعي لا إعلامي:

بالرغم من أن العديد من الطوائف في الأديان الوضعية والمحرفة تكفر بعضها بعضا، بطريقة كهنوتية، دون توافر شروط موضوعية وأسس مَرْعية، إلا أنها برأت نفسها من الاتهام بأنه تكفيرية، ويكاد الإطلاق لهذه المفردة يقتصر على الأمة الإسلامية، ممثلة في أهل السنة والجماعة، بل إن بعض الطوائف الإسلامية ممن يكفرون الصحابة رضي الله عنهم في الجملة، ويقولون في عِرض رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما تقول اليهود في مريم عليها السلام، ويشاركون طائفة اللادينين في استخدام مفردة التكفيريين ضد الأمة، استخداما إعلاميا مشوها مغرورا بالاستقواء العالمي على هذه الأمة، ومستفيدا من حالة الضعف العام لهذه الأمة.
رابعا: الاستخدام الكهنوتي اللاديني لمفردة تكفيري:

يتضح مما سبق أن الطوائف الدينية الوضعية والمحرفة، أو المنتسبة للإسلام، تشارك طائفة اللادينيين في الاستخدام لمفردة تكفيريين استخداما كهنوتيا لا ينضبط بأي شروط موضوعية، ولا أسس مَرْعية، بل يتم تصدير الحكم من قبل الكهنوت اللاديني (العلماني) دون أي حيثيات وشروط وضوابط، ضد بعض أفراد الأمة (أهل السنة والجماعة) أو كلها، هذا بالرغم من قلة طائفة اللادينيين بالنسبة للمسلمين في العالم الإسلامي، وخير عَون لتلك الطوائف المتداوِلة لمفردة التكفيريين هو غيبة الفقه الإسلامي وأصوله عن البيان والبلاغ في الفضاء العام، ويكاد يقتصر دوره على مسائل الشعائر، مع غفلة من المسلمين من الاستفادة من علم الفقه وأصوله في حقل الإعلام، الذي هو حقل لتناول الخبر وتحليله، وتزداد عجبا عندما ترى الأمة وهي أمة الإسناد، وأقامت علما عظيما هو علم المصطلح في نقل الخبر، وهي الآن تتخبط في مجال نقل الخبر وإسناده وتحليله وفق الشريعة السمحاء.
خامسا: الحكم الفقهي لتداول مفردة تكفيري:

يبرز لنا في هذه الفقرة كيف يتعامل الفقه الإسلامي مع هذه المفردة، ويتمثل في قاعدة أساسية وهي: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، يعني: ما معنى تكفيري في التداول الإعلامي؟ وحيث لم يقدم أحد تعريفا اصطلاحيا لذلك، ينطلق الفقه الإسلامي من التحليل اللغوي: وهو أن تكفيري نسبة إلى تكفير، والتكفير هو الحكم بالكفر، وهو حكم شرعي، يقوم على شروط موضوعية مردها جميعا إلى تكذيب الله ورسله، ومن ثَـمَّ هو حكم شرعي بينه رب العزة في كتابه أتـمَّ بيان، ويأتي دور جهة الاختصاص وهم العلماء المجتهدون والقضاة، لبيان فواصل الإسلام والكفر لحماية البشرية من المحرِّفين للشريعة السمحاء الخاتمة، حيث يبين هؤلاء العلماء الصراط المستقيم الذي هو سبب السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وهذا البيان واجب عليهم لحماية الصراط المستقيم من التبديل، ودور العلماء في هذا هو البيان لما في الشريعة، والتحذير من أَتباع حاخامات بني إسرائيل الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، أو من لف لفهم من طائفة اللادينيين (العلمانيين) الذي يريدون يسقطوا شريعة الله تعالى بالتحريف والتبديل، كسلفهم أحبار بني إسرائيل، فيلتقي الجميع تحت هدف واحد هو إسقاط الشريعة الإسلامية، بينما تكون مهمة العلماء الربانيين هو حراسة الشريعة وحمايتها من التحريف.
ويلاحظ أن الشريعة ضبطت الحكم الشرعي من جهتين: الجهة الأولى هي جهة الموضوع: وتتمثل في شروط التكفير وموانعه، والجهة الثانية جهة الاختصاص: وهم العلماء المعتبرون شرعا، والقضاة المفوضون من مؤسسة الحكم مع الالتزام بالشروط الموضوعية، دون وجود سلطة تسمى سلطة دينية في الإسلام، على النحو الموجود في الأديان الوضعية والمحرفة، أما ما نشهده اليوم في الفضائيات التي تعطي لنفسها حقا ليس لها في دين الناس ودمائهم، بل وتحرِّض على الناس تحريضا عاما في أمور طبيعتها شرعية قضائية، هو تأثُّر بالكهنوت الديني، الذي يبرأ منه الإسلام براءة مطلقة، ولا يعترف الإسلام بالسلطة الدينية، ولا بالسلطة اللادينية، بل هو شيء مختلف تماما عنهما، فهو الإسلام والإسلام فقط، والإسلام هو الميزان الذي يوزن به غيره، ولا يوزن هو بغيره.
سادسا: مفردة التكفيري وأخواتها:

هناك أخوات لهذه المفردة، كالتطرف، والتشدد الديني، وغيرها من المفردات الزاحفة والطيّارة التي تعكر أجواء التفكير السليم، وتنشر الحيرة بسبب غموضها، وإدراجها في موضوعات ذات حساسية بالنسبة للمسلمين، ومفردات كثيره أخرى يجمعها جميعا الغموض، وعدم الوضوح، مما يعني أن هناك من ينشر الغموض ويفرضه على المجتمع، وهذا الغموض يتيح لذوي القوة والنفوذ تحقيق كل أهدافهم في جو الـحَــيْـرة وعدم الانضباط، وتمكينهم من قيادة المجتمعات في طريق مجهول المعالم، وهو أمر ترفضه الشريعة الإسلامية رفضا قاطعا، وتعمل على ضبط الفضاء المعرفي ضبطا تاما، ولعل هذا سر من أسرار حرب الطوائف الكهنوتية المختلفة على الشريعة، حيث تُكَدِّر هذه الشريعة عليهم صفو استبدادهم الديني، ولا تختلف طائفة اللاديينين عنهم حيث تكدر الشريعة عليهم أيضا انفلاتهم في فسادهم الفكري وذهابهم مع الشهوة المحرمة كل مذهب، وجَــرْف الإنسانية إلى الهاوية على نحو لا يقل خطورة عن الكهنوت الطائفي للأديان الوضعية والمحرفة.
سابعا المصطلح الشرعي الصحيح: هو الغلو في الدين:

وبالرغم من أن الفكر اللاديني لا يملك الصراط المستقيم إلا أنه يصر على استخدام مفردة التطرف والتشدد، ولو سألناه أين الاعتدال وما حده وضبطه، لَسُقِط في يده وحار جوابا، ذلك لأن جوهر هذا الفكر لا يقبل وجود المطلق الثابت، ولا المقدَّس أصلا، فعن أي شيء تطرَّف المتطرف، وغالى الـمُغالي في دينه، إذا كان اللادينيون لا يؤمنون بالثوابت المطلقة؟! بينما نجد أن الفقه الإسلامي حَـدَّ الصراط المستقيم، وبينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتـمَّ بيان، وهو مطلب المسلمين في كل صلاة، وقد عرَّف العلماء المسلمون الغلو في الدين: أن يبلغ الإنسان في الدين حدا لم يبلُغه الشارع، والمفرِّط هو من قَصَّر عن الصراط المستقيم، وهو الحد الذي حدَّه الشارع، وهو الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة على رأسهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان والأئمة الأربعة، وهذا البيان والوضوح والعدل في الشريعة هو سبب بقائها، وتكالب أعدائها محبي الغموض والظلام، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
المقالات ذات العلاقة:

1-تكفير الأشخاص بأعيانهم حكم قضائي ليس من باب الفتوى: http://wp.me/p54piM-b0
2-غموض بني إسرائيل: حزب “البقرة الصفراء” الشعبي الديمقراطي: http://wp.me/p54piM-2v

وكتبه الفقير إلى عفو ربه
د. وليد مصطفى شاويش
عمّان المحروسة
صبيحة الجمعة 30-1-2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top