وصايا الـحَيْــزَبون لابنها الأَرْطَبـُون، الحلقة (1) الزكاة في رمضان

قد يسأل سائل، ما الحيزبون وما الأَرْطَـبُون؟ فأما الحيزبون فهي العجوز سيئة الخلق، وأما الأرطبون فقد كان أدهى الروم وأنكاها فعلا، وأبعدها غورا، وكانت له مع عمرو بن العاص رضي الله عنه أيام وأيام، وقد اختار عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عمرو ابن العاص لمكافحة مكائد الأرطبون في الشام، فقال: قد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب، فانظروا عمَّ تـتـفـرَّج! وقد حاول هذا الأرطبون أن يخادع عمرو بن العاص رضي الله عنه، ولكنّ عَمْرَ بن العاص قد خدع الأرطبون، وتغلب عليه! ولما كانت سلسلة وصايا الحيزبون لابنها الأرطبون خداع للمسلمين في دينهم ودنياهم، رأيت أن أبين للمسلم شيئا من قصص المخادعة وأدواتها على يديّ هذين الشَّـرَّين: الحيزبون وابنها الأرطبون، وفيما يأتي طرف من المخادعات في شهر رمضان المبارك في شأن الزكاة.

الـحَيزَبُون: هات ما عندك أيها الأرطبون، ما أخبار الزكاة في رمضان؟.

الأَرْطَـبُون: طبعا نجحت الخطة، وتم وقف إخراج الزكاة طوال العام، وتأجيلها إلى رمضان!

الـحَيزَبُون: وكيف أقنعتهم بتأجيل إخراجها إلى رمضان؟ ومعلوم لدى المسلمين أن زكاة النقود وعروض التجارة بعد مضي حول على المال وقد تكون هناك أحوال كثيرة في غير رمضان.

الأَرْطَـبُون: رغبتهم في الأجر والثواب في رمضان وأن الأعمال مضاعفة فيه، وتلاعبت بعواطفهم لما أعلمه من حبهم لهذا الشهر، فسارعوا إلى إخراج الزكاة في رمضان ونسُوا الحول، فقد يعجِّلون وقد يؤجلون، المهم أنهم لا يدرون ما الحول، وغاب شرط الحول من الزكاة عن أذهانهم، وتغييب شرط من شروط الزكاة المفروضة من أذهانهم أعدُّه إنجازا مهما.

الـحَيزَبُون: هل هذا هو السبب الوحيد فقط الذي أقنعتهم فيه بالتأجيل إلى رمضان، مع أنني وصيتك بنصائح أخرى تحثهم فيها على تأجيل الزكاة لرمضان!

الأَرْطَـبُون: نعم قلت لهم متعجبا مستبعِدا: كيف تستطيعون ضبط الحول بعد كل هذه السنين الطويلة التي كنتم نسيتم فيها إخراج الزكاة والحول؟ ومن أين لك أيها المزكي أن تعرف بعد هذه السنين بداية الحول الذي ملكت فيه النصاب؟ فصعَّبـْت الأمر عليهم، وأوهمتهم أن فيه مشقة فادحة، والكثير منهم اقتنع بذلك.

الـحَيزَبُون: حسنا فعلت، ولكنك لم تدرك أيها الأرطبون الكثير من مساويء تغييب الحول في الزكاة، فقد اكتفيت بالتلاعب في شرط من شروطها فحسب، ولكنك لم تَـر ما هو أبعد من ذلك.

الأَرْطَـبُون: وما هو الذي أعظم من تضييع شرط من شروط العبادة وحَرْف المسلم عن الشرع ولو قِــيْـد شعرة؟

الـحَيزَبُون: عندما تصبح الزكاة في رمضان فقط عند كثير من الأغنياء، فهذا يعني أن الفقراء ستنهال عليهم الزكاة في هذا الشهر، أما من سيفتقر بعد رمضان فعليه أن ينتظر رمضان آخر، ونستطيع بذلك استغلال الحاجات للفقراء وطلاب الجامعات المحتاجين والمرضى، وأنت تعلم ما هي نتائج الفقر والحاجة على الإنسان، من انحراف في السلوك، وأن ثورات العالم هي ثورات اقتصادية يقوم بها المحرومون، ولا يخفى ما في ذلك من إثارة الفتنة بين المسلمين.

الأَرْطَـبُون: يعني أن شرط الحول في الزكاة يعني أن الزكاة تخرج طوال العام لاختلاف أحوال المزكِّين، وتلبى حاجات الفقراء على مدار العام وتحميهم من الاستغلال طوال العام، ناهيك عن زكاة المعادن التي تزكى عند الاستخراج، وزكاة المزارع عند الحصاد، والمواشي كذلك عند الحول، فهذا يعني أن الزكاة تخرج على مدار العام، وفي هذا خطر شديد على المفسدين في الأرض، لأنه يحرمهم من بيئة الفقر المناسبة لنشر التحلل والفساد بين المسلمين.

الـحَيزَبُون: ومع ذلك لا أعد هذا إنجازا كبيرا أيها الأرطبون، فمع تضييع شرط الحول، لكنهم في النهاية أخرجوا الزكاة، وهذا بحد ذاته إنجاز للمتعبدين في شهر رمضان، وكنت أطمع في أكثر من ذلك أيها الأرطبون.

الأَرْطَـبُون: نعم، وقد فعلت ما هو أشد من ذلك، فقد قلت لهم إن الزكاة ضريبة على المال، وأنتم تدفعون الضـريبة للدولة على أموالكم، فلم تدفعون الضريبة مرتين مرة للدولة ومرة للفقراء؟! والله لا يحب الظلم، وهذا ظلم لكم في أموالكم أن تدفعوا الضريبة والزكاة معا.

الـحَيزَبُون:هذا جيد، ولكن قلة منهم استجابوا لذلك، وحجتك هذه لم تكن قوية، فهم يعلمون أن الزكاة للفقراء وليست لخزينة الدولة ونفقاتها، ومصارف الزكاة محددة بالقرآن، ومع ذلك قلتُ لك لا تعمل كثيرا على القضايا البيِّنة والواضحة، استغِلّ مساحة الجهل، فهي مفيدة في مخادعة المسلمين في دينهم ودنياهم.

الأَرْطَـبُون: قد فعلت، فقد قلت لمن يجمعون الزكاة إنكم من العاملين عليها والشرع يقول: لكم الحق أن تأخذوا من الزكاة بوصفكم أجراء ومن العاملين عليها، فاستجاب بعضهم، وبعضهم قال نعمل لله تعالى، أما الذين استجابوا فقد سددوا أجرة مقار الجمعيات ورواتب الموظفين على حساب الفقراء، ولم يعرِفوا أن العاملين عليها ينبغي أن يكونوا تحت رقابة الدولة وإشرافها، وأنها تحدد أجرتهم بحسب حاجة الزكاة لهم، وتعطيهم أجرة المثل من الزكاة، حتى لا يكون مصرف “العاملين عليها” ثغرة تتسرب خلالها أموال الفقراء للإغنياء، وهذه ثغرة مهمة بين رقابة الدولة والعاملين عليها، ونستطيع أن نبدد فيها قسما مهما من أموال الزكاة.

الـحَيزَبُون: حدثني أيها الأَرْطَـبُون عن خُطَّتنا في الطرود الغذائية.

الأَرْطَـبُون: على ما يرام، فقد أنعشَت الزكاة التجار، فهم يبيعون المواد الغذائية للجمعيات الخيرية بسعر الجملة، وأوهمتهم أن هذا توفير على الفقراء، بينما كلفة النقل والتغليف استهلكت أكثر من قيمة التوفير في سعر الجملة، وبعد أن تم إيصال الطرود للفقراء، قاموا بإعادة بيعها للتجار بثمن أقل من الشراء بسعر التجزئة، وحقق بعض التجار أرباحا من أموال الزكاة، فهو يبيع الفقراء بسعر عال، ويشتري منهم بثمن بخس؛ لأن الفقير ربما لا يحتاج زيتا ولا أرزا، فهو يحتاج لدفع فاتورة الكهرباء، ودفع قسط العلاج والجامعة.

الـحَيزَبُون: ولكن كيف أقنعتهم بهذه الطرود؟

الأَرْطَـبُون: قلت لهم إن الفقير قد يبدد ماله إذا أعطي الزكاة نقدا، فنعطيه هذه الطرود الغذائية حتى لا يبدد ماله، وكذلك قلت لهم أنتم تشترون بسعر مخفَّض بسعر الجملة، وهذا فيه توفير على الفقير، بالإضافة إلى أن تغليف الطرد وتوزيعه هو عمل ظاهر، يظهر عمل الجمعية للعلن، بخلاف إعطاء النقود ليس فيه هالة إعلامية، كشكل الطرد ومحتوياته، ابتداء من تغليفه ونقله ودخول سيارة الجمعية إلى الحي ،ففيها طَـنـَّة ورنَّـة تبرز العمل الخيري بشكل أفضل، ويشعر الناس بالتكافل أكثر والخير العظيم في شهر رمضان.

الـحَيزَبُون: أحسنت أيها الأرطبون، لا مشكلة في ذلك ما دامت التكاليف من جيوب الفقراء وعلى حسابهم، ولكن ألم تواجه مشكلة في جهودك غير المبرورة هذه؟!

الأَرْطَـبُون: نعم، إنه عَمرو، يفسد علي كل عملي.

الـحَيزَبُون: عمرو مرة أخرى!!! ما لعَمْرو مرة أخرى؟ أليس هو ذاك عمرو الذي يقف في صدر المسجد، فلنستمع إلى ما يقول:

عَمْرو: الحول شرط من شروط الزكاة، وعلى الغني أن نعرف حوله حتى يخرج زكاة أمواله على وفق الشرع.

سعيد: كيف أعرف حولي يا عمرو، وأنا هداني الله بعد عشرين عاما من غناي، كيف أعيد حساب عشرين سنة حتى أعرف الحول.

عَمْرو: أخي سعيد افترض أن رجال ضريبة الدخل زاروك في شركتك، وفرضوا عليك من الضـرائب ما فرضوا، ورأيت نفسك مظلوما، وطلبوا منك أن تأتيهم بمركزك المالي خلال عشرين عاما، فإن كان الأمر كما تقول، أعفَوك من خمسة آلاف دينار مثلا، فهل تراجع مركزك المالي لتلك الفترة بدقة أم لا؟

سعيد: نعم، وأقوم بجرد أموالي حتى أخفف على نفسي من الضريبة.

عَمْرو: الشرع أعظم وأجل وأحرى أن يتبع، وأنا لا أشق عليك ولكن يا إخوة تحرَّوا الحول بقدر ما تستطيعون، ولا تهملوه البتة، كما نرى اليوم من بعض الإخوة المزكين.

خالد: أنا أحب أن أؤجل إخراج زكاة مالي إلى رمضان، لأنه أثوب وأعظم أجرا.

عَمْرو: إن كان هذا صحيحا فأجِّل صلاتك إلى رمضان، وإن كان غير صحيح فأخرج الزكاة عند الحول في الزكاة التي اشترط لها الحول، وهذا هو الشرع، فكما لا يجوز تأخير الصلاة إلى رمضان! فكذلك الزكاة لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلى رمضان.

أحمد: ماذا عن الطرود الغذائية من أموال الزكاة؟

عَمْرو: الزكاة هي ديون الفقراء على الأغنياء، وعلى الأغنياء أن يؤدوا هذه الديون كما وجبت عليهم من النقود إن كانت عروض تجارة أو نقودا، دون أن يضيِّـقوا على الفقراء والمساكين في حقهم، ولا يجوز إعلان الأغنياء الوصاية على الفقراء بأن هذا يصلح لهم أو لا يصلح، لأن الفقير إن كان رشيدا ماليا لا يجوز الوصاية عليه من قِبل الغني في مال الفقير، وأما إن كان سفيها ماليا فتعطى الزكاة لوليه، وما جاء في كلام بعض الفقهاء في إخراج الزكاة عينا من عروض التجارة أو النقد، إنما هو لمصلحة الفقير و بالعدل، أما أن تصبح الطرود لصالح التجار على حساب الفقراء كما يشاهد اليوم فلا، هذا بالإضافة إلى أن هذه الطرود وغيرها من الإخراج العيني هو تصـرف في مال الفقير دون إذنه، وعلينا أن نقلل من المصاريف الإدارية ما أمكن، والأفضل أن يتصدق الغني على أقربائه الفقراء، لأنه أعرف بهم، ولما في ذلك من تقوية أواصر القرابة، وتقليل النفقات الإدارية على مال الزكاة، وأن تصبح الزكاة جميعا للفقير، دون أي اختصار منه لتاجر، أو إداري، أو غير ذلك من النفقات الإدارية.

الأَرْطَـبُون: ما الحل أيتها الحيزبون، هذا غيض من فيض من كلام عمرو!!!

الـحَيزَبُون: عليك بإثارة الذوق العام بين المسلمين في مسائل الشريعة، واجعل هذه المسائل الشـرعية مسـرحا للرأي والرأي الآخر دون ضوابط فقهية وأصولية أو مرجعية دينية واضحة، وكلٌّ له رأيه وعلينا أن نحترم الرأي الآخر، وأن الشافعي غير مذهبه القديم إلى الجديد عندما دخل مصر بسبب العرف، عليك بالقصص وإثارة الجدل بينهم، ليستمر ظلم الفقراء في أموالهم التي جعلها الله في أموال الأغنياء، وإبقاء الحال على ما هو عليه، وسأغريهم بالحديث عن العدالة الاجتماعية على معدة مليئة حديثا ثقافيا تتزين به الصحف والمقالات، ووسيلة إلهاء وتسلية للفقراء حتى يناموا، ليحل الحديث عن العدالة الاجتماعية محلّ الزكاة المفروضة، وشتان بين الحديث الجميل عن العدالة الاجتماعية، وبين الركن الثالث من أركان الإسلام وهو الزكاة.

وكتبه الفقير إلى عفو ربه

د. وليد شاويش

عَمان المحروسة

صبيحة الجمعة المباركة الأولى من شهر رمضان المبارك

19/6/2015م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top