الحرية بين الوهم والفهم وعودة إلى الغموض البـنّاء

أولا: مفهوم الحرية في الواقع:

1-كثيرا ما تتردد مفردة الحرية في فضاء الإعلام والسياسة، وعلى ألسنة الأفراد والأحزاب والجماعات، وبعد حراك الجمهور العربي المسلم مطالبا بالحرية ازدادت هذه المفردة تداولا على نحو غير مسبوق، وهي أيضا مفردة عالمية التداول، وتزخر بها نصوص حقوق الإنسان، وملفات الترشح والسياسة وغير ذلك من المحافل التي يرفع كثير من الناس عقيرته بالتغني بهذه الكلمة، وبعد السؤال عن معنى الحرية ومفهومها، ترى الوجوم في وجوه الحيارى في معنى الحرية، ويكاد يكون الجواب المفضل هو: أن حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، ولكن متى تبدأ حرية الآخرين؟ الجواب: حين تنتهي حريتك؟!!! ومع ذلك هناك من يحرص على غموض الكلمة، لأن محاولة بيانها يعني شتات الجماهير الغاضبة، ويفقدها زخم التحرك نحو الحرية الغامضة، ويضيع عليهم نعمة الجهل بهذه الكلمة المجهولة أصلا لدى المطالبين بها!!!! إلا بقدر يسير عند المعنيين بالمفاهيم، الذين يفسرونها بأنها التقيد بالقانون الذي ارتضاه المجموع؟ ولكن الثورة المطلوبة فعلا هي ثورة على القانون، فكيف تكون الحرية التي هي ثورة على القانون وهي في حدود القانون؟!

2-وليست المشكلة كامنة في عدم تحديد المفهوم لكلمة الحرية فحسب، بل إن عدم بيان هذه الكلمة أدى إلى مشكلات على أرض الواقع، فاضطراب الفكر قد أدى إلى الاضطراب في الواقع، وتصارعت الإرادات المطالبة بالحرية عندما أصبحت الحرية على مشرحة التفاصيل أصبحت نعمة الجهل بمعنى الحرية نقمة عند اختلاف الناس في طبيعتها وحدودها.

ثانيا: معنى الحرية في الإسلام:

1-ارتبط مفهوم التحرر بأن يفعل المرء ما يشاء، حتى أصبح مستعبدا للشهوة المحرمة التي هدمت الأسرة، وحولت الإنسان إلى كائن اقتصادي شهواني خطير، خاليا من كل المعاني والقيم السامية، ناسيا كيانه العاطفي معزولا عن السماء مما أدى إلى اضطراب الحياة الإنسانية، وحُرِمت البشرية الميكانيكية نعمة الروح والعاطفة والسمو الإنساني، وأصبح استخدام الأسلحة الفتاكة، خاضعا لدراسات الجدوى الاقتصادية، في حضارة الحرية الغامضة غير العابئة بحياة الملايين من بني الإنسان، هذا الاضطراب في مفهوم الحرية هو الذي أنشب أظفار الموت في رقاب البشرية.

2-ولإزالة هذا الغموض القاتل حرص الإسلام على البيان والوضوح في كل ما يدعو إليه، فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم معنى: الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعني بالكلمات وتحديدها عناية فائقة، قطعا لدابر الاضطراب في التصور الذي يؤدي إلى فساد التصرف، إلى حد أن الله تعالى حرم في قوله تعالى:(لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا) جزء الآية 104، سورة البقرة، أن ينادَى النبي صلى الله عليه وسلم بـ “راعنا” بمعنى انظر إلينا، لأنها تحتمل “راعنًا” من الرعونة في استعمال اليهود، فكيف بكلمة نبيلة شريفة ككلمة الحرية التي تلامس عواطف الإنسان وشغاف قلبه؟!

3-جاء على لسان امرأة عمران: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) سورة مريم، وتكاد تتفق تفسيرات المفسرين لكلمة “مُحَرَّراً” على أن معناها الإخلاص لخدمة بيت الله تعالى دون شرك، وأن التحرير الحق هو تحرير القلوب من الشرك، وأنه هو إخلاص العبودية لله تعالى، ولكنها وضعتها أنثى ولم يكن الأمر كما أرادت، ولكن بإخلاص الجدة الصالحة، رزقها الله تعالى ذلك المحرَّر من ابنتها مريم عليه السلام، حفيدا إماما من أئمة الهدى مِلء عيون الدنيا، هو عيسى ابن مريم عليهما السلام، وهذا بيان عملي ونظري لما هي الحرية فعلا في دين الإسلام، وأن القلب الحر هو القلب العامر بالإيمان الخالص من التعلق بالمخلوقات وأسرها، بخلاف القلب الذي استعبدته الشهوة المحرمة.

ثالثا: هل الحرية عكسها الاستبداد؟

يظن بعض العامة أن الحرية نقيضها هو الاستبداد، مع أن قليلا من التأمل والنظر يتبين أن الاستبداد هو حرية مطلقة، فالمستبد ينادي بحريته والمستــبَـدُّ به ينادي بحريته فدعوتهما واحدة، ولكنْ كلٌّ له مفهومه الخاص لها حسب ما يسمح به الغموض الإجباري للكلمة، ولا توجد وسيلة لأن يتغلب أحدهما على الآخر إلا بالقوة، وهنا تدخل البشرية في حرب ضروس تستمر قرونا تطحن البشر، وبعد الثورة على القيصر والكنيسة يخرج البشر من ظلم نظام الإقطاع وطبقة النبلاء، إلى نظام إقطاع الشركات القابضة المقنَّعة بالسياسة، وأصبح المال دُوْلة ببركات الديمقراطية التي تساوي بين الأقوياء والضعفاء، والحرية التي تساوي بين من يملك ومن لا يملك، وتُدخل الجميع في مصارعة حرة بلا قوانين إلا قانون القوة، وتَدخل البشرية في دورة جديدة من دورة الاستبداد، الاستبداد المالي الذي يستبد بالسياسة والشعب، وتصبح البشرية أسيرة القوة من جديد، فهي تنتقل من ظلام الكنيسة والإقطاع، إلى ظلام المادة والاستبداد المالي، حيث يختار الشعب في يوم الانتخابات من يستبد به دورة حكم جديدة، يفعل الحاكم ما يشاء، ويتكلم المحكوم ما يشاء.

رابعا: الأمة وصراع الحريات:

1-أصبحت شعوبنا الإسلامية ضحية صراع الحريات بين الغلاة والجفاة، فالجفاة يدعون إلى إلغاء الشريعة، ويذهبون مذهبا عبثيا في إسقاط النص سواء بدفنه حيا على رؤوس الأشهاد، أو تسميمه بتحريف معانية، ثم تشييعه في جنازة مهيبة لها احترامها وتقديرها تلاعبا بعقول عامة المسلمين المحبين لربهم ونبيهم، أما الغلاة فيمتطون النص الشرعي ويتخذونه جَـمَلا، ويهربون عليه في ليل الجهل الألْـيَـل، وكلاهما-الـجُفاة والغلاة- يمارسان حرية مكفولة بموجب قانون الغموض والجهل الهدام، الذي يلُـــفّ الحياة البشرية، بسبب فقدانها الاتصال بالبيان الإلهي وفق قوانين الاستدلال التي برع الأصوليون المسلمون في إعلاء بنيانها، ورفع سقفها في مواجهة العابثين من الغُلاة والـجُفاة.

2-إن الحرية الغامضة توفر عَـتْمة مناسبة لنمو طحالب الغلو وعَـفَن التحلل معًا، حيث يقوم المشعوذون من طائفة اللادينيين بالتبخير والتدخين لتحضير عفاريت الغلو في الظلام، عبر استفزازها بالطعن في الدين والرسالة الخاتمة، مما يـُحرِّش نمو طحالب الغلو وتسلُّقها، وهذا يساعد على توفير رطوبة كافية لمزيد من التعفُّن والتحلُّـل، وهذا التعفن وتلك الطحالب تؤديان إلى مزيد من التلوث بيئتنا السُّنية السَّـنِية.

خامسا: الإسلام يبين نقاط التوازن بين العدل والحرية:

إن ميزة الشريعة الإسلامية أنها لا تمنح رأس المال حريته الاقتصادية التي تمكنه من الاستحواذ على مقدرات المجتمع كما هو الحال في الرأسمالية، ولا تمنح الفقراء حرية في الاستيلاء على مال الأغنياء بغير حق كما هو الحال في الاشتراكية، فالإسلام يرسم نِقاط توازن عادلة بين جميع مكونات المجتمع، سواء بين الغني والفقير، وصاحب العمل والعامل، والرجل والمرأة والطفل في نطاق الأسرة، والحاكم والمحكوم، بل بين الإنسان وربه، والإنسان والطبيعة، (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) جزء الآية 25، سورة الحديد، وهذا الميزان البين في الكتاب هو قاطع لدابر النزاع بين البشرية، وحاميها من غموض الحرية الذي يمكن القوة من توجيه حيث شاءت القوة بسبب غموض الحرية المتعمَّد، وبالتحالف غير المقدس بين القوة الغاشمة والحرية الغائمة تشن الحرب على وضوح الإسلام وبيانه، ذلك لأنه يضع أعداء الإنسانية تحت الشمس، وهم يريدون أن يبقى الغموض معشعشا في عقول الناس، ليتمكنوا بقوتهم توجيه البشرية حيث يشاءون، وعلى المسلمين أن يفهموا أن الحرب على دينهم كامنة في محاولة فرض الغموض بطريقة همجية على النص الشرعي الواضح، من قبل الجفاة والغلاة، وذلك للمحافظة على المستنقع والعتمة الصالحين لعيشهما، ولكن شمس الوحي ستشرق يوما وستجفف المستنقع وتُـنَشِّف الطحالب وتـُميت العفن.

سادسا: أنا أعبد الله، إذن أنا حُــــــرّ:

عندما يجعل الله تعالى له الدين الخالص، فعليك أيها المسلم أن تخلص في عملك له وحده لا شريك له، وأنك لو تصدقت تريد وجه الناس فهذا يعد شركا بالله تعالى، ناهيك عن وجوب إصلاح النية في العمل، فكلما وقف المسلم بين يدي ربه متجردا من النوازع الأرضية والسُّفلية يكسب جرعة حرية قوية، وكلما ازداد إيمانا كلما ازداد حرية في مقام العبودية لله تعالى المتجردة عن الانقياد للمخلوقات، وعليه فإنك سترى أن الحرية لا يمكن أن تكون إلا في تلافيف العبودية لله وحده، الخالصة من نوازع الرياء والشرك، سواء في العبادات، أم في المعاملات والفضاء العام للحياة في الإسلام، فالنية الصالحة تــعْـبِق عطرا من قلب المؤمن ثم تنشر ريحا لطيفة حولها يستمتع بها مَن نوَّر الله قلبه بنور الإيمان بالله تعالى، وعلى ذلك فإن الحرية ليس عكسها الاستبداد، بل مقابلها الشرك بالله تعالى، أما الاستبداد فهو استكبار في الأرض ومنازعة الله تعالى أمره وهو باب عظيم من أبواب الشرك، وعليه فإن أئمة التوحيد والهدى هم الأنبياء الذين دعوا إلى تحرير الإنسان من الشرك الذي هو باب الانقياد إلى الشهوات المحرمة، وحرية التوحيد تحذر من تقديس الرذيلة على أنها حرية، تقديسا يقتدي بإبليس الذي استكبر على السجود، ولكنه سجد في أوحال الكفر معتقدا أن هذا حقه وحريته، فبئس الخلف وبئس السلف.

للمزيد انظر

الحرية الاقتصادية المطلقة هي صانعة الاستبداد الاقتصادي إقطاع الشركات نموذجا

وكتبه الفقير إلى عفو ربه

د. وليد مصطفى شاويش

صبيحة الجمعة المباركة

عمان المحروسة

31/7/2015

2 thoughts on “الحرية بين الوهم والفهم وعودة إلى الغموض البـنّاء

  1. يوليو 31, 2015 - حسين العتيبي

    الموضوع المطروح مهم للغاية في كيفية فهم معنى حرية وما محددات واضاد الحرية وحقيقة الخرية … اذا هناك حرية حميده ييرضاها الله اوﻻ ثم يقبلها الناس.. اذ ﻻ يعقل ان تفهم الحرية كما فهمها ابليس .. او كمن يطلق اعيره نارية وهو في قنة السعاجة فيقتل او يخرب ممتلكات غيره .

  2. أغسطس 5, 2015 - غير معروف

    شكرا لك أخي حسين عتيبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to top